السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلۡمُسۡرِفِينَ} (34)

{ مسوّمة } أي : معلمة بعلامة العذاب المخصوص عليها اسم من يرمي بها وقوله تعالى : { عند ربك } أي : المحسن إليك بهذه البشارة وغيرها ظرف المسوّمة ، أي : معلمة عنده { للمسرفين } أي : المتجاوزين الحدود غير قانعين بما أبيح لهم فالمسرف المتمادي ولو في الصغائر ، فهم مجرمون أي : مسرفون . والمجرم قال ابن عباس : هو المشرك لأنّ الشرك أعظم الذنوب .

وهنا لطيفة : وهي أنّ الحجارة سوّمت للمصرّ المسرف الذي لا يترك الذنب في المستقبل وذلك إنما يعلمه الله تعالى فلذلك قال { عند ربك للمسرفين } .

ولما كان الإجرام ظاهراً قالوا { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } واللام في المسرفين لتعريف العهد أي لهؤلاء المسرفين إذ ليس لكل مسرف حجارة مسوّمة ، وإسرافهم بأنهم أتوا بما لم يسبقهم به أحد من العالمين وفي هذا دليل على رجم اللائط ، والفائدة في إرسال جماعة من الملائكة لهذا الأمر وإن كان يكفي فيه الواحد منهم إذ الملك العظيم قد يهلك بالأمر الحقير كما أهلك النمروذ بالبعوض ، وكما أهلك فرعون بالقمل والجراد بل بالريح التي بها الحياة إظهاراً للقدرة ، وقد تكثر الأسباب كما في يوم بدر أمر خمسة آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم إظهاراً لعظيم قدرته .

تنبيه : قوله تعالى : { من طين } أي ليس من البرد والفاعل لذلك هو الله تعالى لا كما تقول الحكماء فإنهم يقولون : إنّ البرد يسمى حجارة فقوله تعالى : { من طين } يدفع ذلك التوهم قال الرازي : إن بعض من يدّعي العقل يقول لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدوّرات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة ، قالوا : وسبب ذلك أنّ الإعصار تصعد الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها ، والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ، ويتفق ذلك إلى هواء ندي فيصير ذلك طيناً رطباً ، والرطب إذا نزل وتفرّق استدار ، بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته يقطر كرات مدوّرات كاللآلئ الكبار ، ثم في النزول إن اتفق أن تضربه النيران التي في الجوّ جعلته حجارة كالآجر المطبوخ فينزل فيصيب من هيأ الله تعالى هلاكه ، وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عمارة بها فلا يرى ولا يدرى به ، فلهذا قال : { من طين } ، لأنّ ما لا يكون من طين كالحجر الذي يكون في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر وهذا تعسف ، لأنّ ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع لحادث آخر لزم التسلسل ولا بدّ من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث فذلك المحدث لا بدّ وأن يكون فاعلاً مختاراً ، والمختار له أن يفعل ذلك وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار لكن العقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه ، وما لا يصل العقل إليه لا يؤخذ إلا بالنقل والنص ، ومن المعلوم أنّ نزول حجارة الطين من السماء أغرب وأعجب من غيرها .