إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (34)

{ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة } عطفٌ على الظرف الأول منصوبٌ بما نصبه من المُضمَر ، أو بناصب مستقلٍ معطوفٍ على ناصبه عطفَ القصة على القصة ، أي واذكر وقت قولنا لهم ، وقيل : بفعل دل عليه الكلام ، أي أطاعوا وقت قولِنا الخ ، وقد عرفت ما في أمثاله ، وتخصيصُ هذا القول بالذكر مع كون مقتضى الظاهرِ إيرادَه على منهاج ما قبله من الأقوال المحكيةِ المتصلةِ به للإيذان بأن ما في حيّزه نعمةٌ جليلةٌ مستقلة حقيقةٌ بالذكر والتذكيرِ على حِيالها ، والالتفاتُ إلى التكلم لإظهار الجلالةِ وتربيةِ المهابة مع ما فيه من تأكيد الاستقلال ، وكذا إظهارُ الملائكة في موضع الإضمار ، والكلام في اللام وتقديمِها مع مجرورها على المفعول كما مر ، وقرئ بضم تاء الملائكة إتباعاً لضم الجيم في قوله تعالى : { اسجدوا لآدَمَ } كما قرئ بكسر الدال في قوله تعالى : { الحمد للَّهِ } [ الفاتحة ، الآية 2 . وفي سور أخرى ] إتباعاً لكسر اللام وهي لغة ضعيفة ، والسجودُ في اللغة الخضوعُ والتطامُن ، وفي الشرع وضعُ الجبهة على الأرض على قصد العبادة ، فقيل : أُمِروا بالسجود له عليه والسلام على وجه التحية تعظيماً له واعترافاً بفضله وأداءً لحق التعليم واعتذاراً عما وقع منهم في شأنه ، وقيل : أمروا بالسجود له تعالى وإنما كان آدمُ قِبلةً لسجودهم تفخيماً لشأنه أو سبباً لوجوبه ، فكأنه تعالى لما بَرَأه أُنموذَجاً للمُبدَعات كلِّها ونسخةً منطويةً على تعلق العالم الروحاني بالعالم الجُسماني وامتزاجِهما على نمط بديعٍ أمرهم بالسجود له تعالى لما عاينوا من عظيم قدرتِه ، فاللام فيه كما في قول حسانَ رضي الله عنه :

أليس أولَ من صلَّى لقِبلتكم *** وأعرفَ الناسِ بالقرآنِ والسننِ

أو في قوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء ، الآية 78 ] والأولُ هو الأظهر ، وقوله عز وجل : { فَسَجَدُواْ } عطف على قلنا ، والفاء لإفادة مسارعتِهم إلى الامتثال وعدمِ تلعثُمِهم في ذلك ، رُوي عن وهْب أن أولَ من سجد جبريلُ ثم ميكائيلُ ثم إسرافيلُ ثم عزرائيلُ ثم سائرُ الملائكة عليهم السلام وقوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } استثناءٌ متصل لما أنه كان جنّياً مفرَداً مغموراً بألوف من الملائكة متصفاً بصفاتهم فغَلبوا عليه في فسجدوا ، ثم استثني استثناءَ واحدٍ منهم أو لأن من الملائكة جنساً يتوالدون يقال لهم الجنُّ كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو منهم ، أو لأن الجن أيضاً كانوا مأمورين بالسجود له لكن استُغني بذكر الملائكة عن ذكرهم . أو منقطعٌ : وهواسمٌ أعجميٌ ولذلك لم ينصرِف ومن جعله مشتقاً من الإبلاس وهو إلباس قال : إنه مُشبَّهٌ بالعجمة حيث لم يُسمَّ به أحدٌ فكان كالاسم الأعجميّ .

واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمةُ والتي في سورة الأعراف من قوله تعالى : { ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ } [ الأعراف ، الآية 11 ] ، والتي في سورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه من قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ } [ طه ، الآية 116 ] ، أن سجودَ الملائكة إنما ترتب على الأمر التنجيزيّ الوارد بعد خلقِه وتسويته ونفخِ الروحِ فيه البتة كما يلوح به حكايةُ امتثالِهم بعبارة السجود دون الوقوعِ الذي به ورد الأمرُ التعليقي ، ولكن ما في سورة الحِجْرِ من قوله عز وعلا : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي خالق بَشَرًا مِن صلصال منْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ ساجدين فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر ، الآية 28 و29 و30 ] وما في سورة ص من قوله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي خالق بَشَراً مّن طِينٍ } [ ص ، الآية 71 ] إلى آخر الآية يستدعيان بظاهرهما ترتُّبَه على ما فيهما من الأمر التعليقيِّ من غير أن يتوسط بينهما شيءٌ ما تُفصحَ عنه الفاءُ الفصيحة من الخلق والتسوية ونفخِ الروحِ فيه عليه السلام .

وقد رُوي عن وهْبٍ أنه كان السجود كما نفخ فيه الروح بلا تأخير ، وتأويلُ الآيات السابقةِ بحمل ما فيها من الأمر على حكاية الأمرِ التعليقيّ بعد تحققِ المعلَّقِ به إجمالاً ، فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز يأباه ما في سورة الأعراف من كلمة ثم المناديةِ بتأخر ورودِ الأمرِ عن التصوير المتأخرِ عن الخلق المتأخر عن الأمر التعليقي ، والاعتذارُ بحمل التراخي على الرُتبيّ أو التراخي في الإخبار ، أو بأن الأمرَ التعليقي قبل تحققِ المعلَّق به لمّا كان - في عدم إيجاب المأمور به - بمنزلة العدم جُعل كأنه إنما حدَث بعد تحققه فحُكي على صورة التنجيزِ يؤدي بعد اللتيا والتي إلى أن ما جرى بينه وبينهم عليهم السلام في شأن الخلافة وما قالوا فيه وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوقِ بمعرفة جلالة منزلتِه عليه السلام وخروجِ إبليسَ من البَيْن باللعن المؤبد لعِناده ، وبعد مشاهدتهم لذلك كله عياناً وهل هو إلا خرقٌ لقضية العقل والنقل ، والالتجاءُ في التقصّي عنه - إلى تأويل نفخِ الروحِ بحمله على ما يعُمُّ إفاضةَ ما به حياةُ النفوس التي من جملتها تعليمُ الأسماء - تعسّفٌ يُنبئ عن ضيق المجال .

فالذي يقتضيه التحقيقُ ويستدعيه النظمُ الأنيقُ بعد التصفح في مستودعات الكتاب المكنونِ والتفحصِ عما فيه من السر المخزون أن سجودَهم له عليه السلام إنما ترتب على الأمر التنجيزيّ المتفرعِ على ظهور فضلِه عليه السلام المبني على المحاورة المسبوقةِ بالإخبار بخلافته المنتظمِ جميعَ ذلك في سلك ما نيط به الأمرُ التعليقيُّ من التسوية ونفخِ الروحِ ، إذ ليس من قضيته وجوبُ السجود عقيبَ نفخِ الروحِ فيه ، فإن الفاءَ الجزائيةَ ليست بنصَ في وجوب وقوعِ مضمونِ الجزاء عقيبَ وجودِ الشرط من غير تراخٍ ، للقطع بعدم وجوبِ السعي عقيبَ النداء ، لقوله تعالى : { إِذَا نُودِي للصلاة مِن يوم الجمعة فاسعوا } [ الجمعة ، الآية : 9 ] الآية ، وبعدم وجوب إقامةِ الصلاة غِبَّ الاطمئنانِ لقوله تعالى : { فَإِذَا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } [ النساء ، الآية 103 ] بل إنما الوجوبُ عند دخول الوقت . كيف لا والحكمة الداعية إلى ورود ما نحن فيه من الأمر التعليقيِّ إثرَ ذي أثيرٍ إنما هي حملُ الملائكةِ عليهم السلام على التأمُّل في شأنه عليه السلام ليتدبروا في أحواله طراً ، ويُحيطوا بما لديه خُبراً ، ويستفهموا ما عسى يستَبْهم عليهم في أمره عليه السلام لابتنائه على حِكَم أبيّة ، وأسرارٍ خفية طُويت عن علومهم ، ويقفوا على جلية الحال قبل ورود الأمر التنجيزي وتحتُّمِ الامتثال ؛ وقد قالوا بحسب ذلك ما قالوا وعاينوا ما عاينوا ؛ وعدمُ نظمِ الأمر التنجيزيّ في سلك الأمور المذكورةِ في السورتين عند الحكاية لا يستلزمُ عدمَ انتظامِه فيه عند وقوعِ المحكيِّ كما أن عدمَ ذكر الأمر التعليقي عند حكايةِ الأمرِ التنجيزيِّ في السورة الكريمة المذكورة لا يوجب عدمَ مسبوقيتِه به ، فإن حكاية كلامٍ واحدٍ على أساليبَ مختلفةٍ حسبما يقتضيه المقامُ ويستدعيه حسنُ الانتظامِ ليست بعزيزة في الكتاب العزيز ، وناهيك بما نقل في توجيه قولِه تعالى : { بَشَرًا } [ الحجر ، الآية 28 ] مع عدم سبقِ معرفةِ الملائكةِ عليهم السلام بذلك وحيث صِيَر إليه مع أنه لم يرِدُ به نقلٌ فما ظنك بما قد وقع التصريحُ به في مواضعَ عديدةٍ فلعله قد أُلقي إليهم ابتداءً جميعُ ما يتوقف عليه الأمرُ التنجيزيُّ إجمالاً بأن قيل مثلاً إني خالقٌ بشراً من كذا وكذا وجاعل إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي وتبين لكم شأنُه فقعوا له ساجدين ، فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح ، فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقي إليهم خبرُ الخلافة بعد تحقق الشرائطِ المعدودة بأن قيل إثرَ نفخِ الروح فيه إني جاعلٌ هذا خليفة في الأرض فهناك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا ، فأيده الله عز وجل بتعليم الأسماءِ فشاهدوا منه ما شاهدوا ، فعند ذلك ورد الأمرُ التنجيزيّ اعتناءً بشأن المأمور به وتعييناً لوقته ، وقد حُكي بعضُ الأمور في بعض المواطنِ وبعضُها في بعضِها اكتفاءً بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ .

والذي يحسم مادةَ الاشتباهِ أن ما في سورة ص من قوله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } [ ص ، الآية 71 ] الخ ، بدل من قوله تعالى : { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } فيما قبله من قوله تعالى : { مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بالملأ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ ص ، الآية 69 ] أي بكلامهم عند اختصامِهم والمرادُ بالملأ الأعلى الملائكةُ وآدمُ عليهم السلام وإبليسُ حسبما أطبق عليه جمهورُ الأمة ، وباختصامهم ما جرى بينهم في شأن خلافةِ آدمَ عليه السلام من التقاوي الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوعُ الاختصامِ المذكورِ في تضاعيف ما ذكر فيه تفصيلاً من الأمر التعليقيّ ، وما عُلِّق به من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكةِ عليهم السلام وعنادِ إبليسَ وما تبِعه من لعنه وإخراجِه من بَيْن الملائكة ، وما جرى بعده من الأفعال والأقوال ، وإذ ليس تمامُ الاختصامِ بعد سجودِ الملائكة ومكابرةِ إبليسَ المستتبعةِ لطرده من بينهم لما عرفتَ من أنه أحدُ المختصِمين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورةَ استحالةِ الإنباءِ بالأسماء حينئذ ، فهو إذن بعد نفخِ الروحِ وقبل السجود حتماً بأحد الطريقين والله سبحانه أعلمُ بحقيقة الأمر .

{ أبى واستكبر } استئنافٌ مبين لكيفية عدمِ السجود المفهوم من الاستثناء وأنه لم يكن للتردد أو للتأمل والإباءُ الامتناعُ بالاختيار ، والتكبرُ أن يرى نفسه أكبرَ من غيره ، والاستكبارُ طلب ذلك بالتشبّع ، أي امتنع عما أُمر به واستكبر من أن يعظِّمه أو يتخذه وصلةً في عبادة ربِّه ، وتقديمُ الإباءِ على الاستكبار مع كونه مسبِّباً عنه لظهوره ووضوحِ أثرِه واقتُصر في سورة ص على ذكر الاستكبار اكتفاءً به ، وفي سورة الحجر على ذكر الإباءِ حيث قيل أبى أن يكون مع الساجدين { وَكَانَ مِنَ الكافرين } أي في علم الله تعالى ، إذ كان أصلُه من كفرة الجنِّ فلذلك ارتكب ما ارتكبه على ما أفصح عنه قولُه تعالى : { كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } [ الكهف ، الآية 50 ] فالجملةُ اعتراضيةٌ مقرِّرةٌ لما سبق من الإباء والاستكبار ، أو صار منهم باستقباح أمرِه تعالى إياه بالسجود لآدمَ عليه السلام زعماً منه أنه أفضلُ منه ، والأفضلُ لا يُحسِنُ أن يؤمَرَ بالخضوع للمفضول كما يفصح عنه قوله : { أَنَا خَيْرٌ منْهُ } [ الأعراف ، الآية 12 ] حين قيل له : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } [ ص ، الآية 75 ] لا بترك الواجب وحده ، فالجملةُ معطوفة على ما قبلها ، وإيثارُ الواو على الفاء للدلالة على أن محضَ الإباءِ والاستكبارِ كفرٌ لا لأنهما سببان له كما تفيده الفاء .