إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَحَسِبُوٓاْ أَلَّا تَكُونَ فِتۡنَةٞ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٞ مِّنۡهُمۡۚ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (71)

{ وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي حسِب بنو إسرائيلَ أن لا يصيبَهم من الله تعالى بما أتَوْا من الداهية الدهياء والخُطة الشنعاء بلاءٌ وعذاب ، وقرئ ( لا تكونُ ) بالرفع على أنّ أنْ هي المخففة من أنّ ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، وأصله أنه لا تكون فتنةٌ ، وتعليقُ فعل الحُسْبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته ، و( أن ) بما في حيِّزها سادٌّ مَسدَّ مفعوليه . { فَعَمُوا } عطف على ( حسِبوا ) والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها أي أمِنوا بأسَ الله تعالى فتمادَوْا في فُنون الغيِّ والفساد وعمُوا عن الدين بعد ما هداهم الرسلُ إلى معالمه الظاهرة وبينوا لهم مناهجه الواضحة { وَصَمُّوا } عن استماع الحق الذي ألقَوْه عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا ، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرّتَيْ إفساد بني إسرائيلَ حين خالفوا أحكام التوراة وركِبوا المحارم وقتلوا شعياء ، وقيل : حبسوا أرمياء عليهما السلام لا إلى عبادتهم العجلَ كما قيل ، فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمَى والصمَم لكنها في عصر موسى عليه السلام ، ولا تعلُّقَ لها بما حُكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابلَ دهراً طويلاً تحت قهر بُخْتَ نَصَّرَ أسارى في غاية الذل والمهانة فوجه الله عز وجل ملكاً عظيماً من ملوك فارسَ إلى بيت المقدس ليعمُرَه ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختَ نصَّرَ بعد مهلكه وردَّهم إلى وطنهم وتراجَعَ من تفرق منهم في الأكناف فعَمَروه ثلاثين سنة فكثُروا وكانوا كأحسنَ ما كانوا عليه ، وقيل : لما ورث بَهْمنُ بنُ اسفنديارَ المُلك من جدِّه كستاسُفَ ألقى الله عز وجل في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملّك عليهم دانيال عليه السلام ، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختَ نصّر فقامت فيهم الأنبياءُ فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال ، وذلك قوله تعالى : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } [ الإسراء 6 ] وأما ما قيل من أن المراد قبولُ توبتهم عن عبادة العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلُّق له بالمقام ولم يُسنِد التوبةَ إليهم كسائر أحوالهم من الحُسبان والعمَى والصمم تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم تمهيداً لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى : { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا } وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرّتيْ إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدُهم قتلَ عيسى عليهم السلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لِما عرفت سره ، فإن فنون الجناياتِ الصادرةِ عنهم لا تكاد تتناهى خلا أن انحصار ما حُكي عنهم هاهنا في المرتين وترتّبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام يقضي بأن المراد ما ذكرناه والله عنده علم الكتاب ، وقرئ ( عُموا وصُمّوا ) بالضم على تقدير أعماهم الله وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم ، كما يقال : نَزَكتَهُ إذا ضربتَه بالنَّيْزَك ورَكَبتَهُ إذا ضربتَه بركبتك ، وقوله تعالى : { كَثِيرٌ منهُمْ } بدل من الضمير في الفعلين ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم . { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي بما عملوا ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة ورعايةً للفواصل ، والجملة تذييلٌ أشير به إلى بطلان حُسْبانهم المذكور ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا ، إشارةٌ إجمالية اكتُفيَ بها تعويلاً على ما فُصِّل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيلَ ، والمعنى حسبوا أن لا يصيبهم عذابٌ ففعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة المستوجبة لأشد العقوبات والله بصيرٌ بتفاصيلها فكيف لا يؤاخذهم بها ؟ ومن أين لهم ذلك الحسبانُ الباطل ؟ ولقد وقع ذلك في المرة الأولى حيث سلط الله تعالى عليهم بُخْتَ نصَّر عامل لهراسِبَ على بابل ، وقيل : جالوتَ الجزري ، وقيل : سنجاريبَ من أهل نينوى ، والأول هو الأظهر فاستولى على بيت المقدس فقتل من أهله أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة ، وذهب بالبقية إلى أرضه فبقُوا هناك على أقصى ما يكون من الذل والنكد إلى أن أحدثوا توبةً صحيحة ، فردهم الله عز وجل إلى ما حكي عنهم من حسنِ الحال ، ثم عادوا إلى المرة الآخرة من الإفساد ، فبعث الله تعالى عليهم الفرسَ فغزاهم ملكُ بابلَ من ملوك الطوائف اسمُه خيدرود ، وقيل : خيدروس ، ففعل بهم ما فعل ، قيل : دخل صاحب الجيش مذبحَ قرابينهم فوجد فيه دماً يغلي فسألهم ، فقالوا : دمُ قربانٍ لم يقبل منا ، فقال : ما صَدَقوني ، فقتل عليه ألوفاً منهم ، ثم قال : إن لم تصدُقوني ما تركت منكم أحداً ، فقالوا : إنه دمُ يحيى عليه السلام ، فقال : بمثل هذا ينتقم الله منكم ، ثم قال : يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومَك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل ألا أبقيَ أحداً منهم ، فهدأ .