إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأنعام مكية غير ست آيات أو ثلاث من قوله تعالى { قُل تَعالُوا أَتلُ } . وهي مائة وخمس وستون آية .

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيم } { الحمد للَّهِ } تعليقُ الحمد المعرَّفِ بلام الحقيقة أولاً باسم الذات عليه يدور كافةُ ما يوجبه من صفات الكمال ، وإليه يؤُول جميعُ نعوتِ الجلال والجمال ، للإيذان بأنه عز وجل هو المستحِقُّ له بذاته ، لما مر من اقتضاء اختصاصِ الحقيقة به سبحانه ، لاقتصار جميعِ أفرادِها عليه بالطريق البرهاني ، ووصفه تعالى ثانياً بما يُنْبئ عن تفصيل بعض موجِباته المنتظمةِ في سلك الإجمالِ من عظائم الآثارِ وجلائلِ الأفعال ، من قوله عز وجل : { الذي خَلَقَ السماوات والأرض } للتنبيه على استحقاقه تعالى له واستقلالِه به باعتبار أفعالِه العِظام ، وآلائِه الجِسام أيضاً . وتخصيصُ خلقِهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العُلوية والسُفلية وعامةِ الآلاءِ الجليةِ والخفية ، التي أجلُّها نعمةُ الوجودِ الكافية في إيجاب حمدِه تعالى على كل موجود ، فكيف بما يتفرَّع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية ، المنوطِ بها مصالحُ العباد في المعاش والمعاد ؟ أي أنشأهما على ما هما عليه من النّمط الفائِق والطراز الرائق ، منطويَتَيْن من أنواع البدائعِ وأصنافِ الروائع على ما تتحيَّر فيه العقولُ والأفكار ، من تعاجيب العبر والآثار ، تبصرةً وذكرى لأولي الأبصار . وجمعُ السماوات لظهور تعدّدِ طبقاتِها واختلاف آثارها وحركاتِها ، وتقديمُها لشرفها وعلوِّ مكانها وتقدُّمها وجوداً على الأرض كما هي . { وَجَعَلَ الظلمات والنور } عطْفٌ على ( خَلَق ) مترتب عليه لكون جعلهما مسبوقاً بخلق مَنْشَئِهما ومحلِّهما ، داخلٌ معه في حكم الإشعار بعِلَّة الحمد ، فكما أن خلقَ السماوات والأرض وما بينهما لكونه أثراً عظيماً ونعمةً جليلة موجبٌ لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا ، كذلك جعلُ الظلماتِ والنور لكونه أمراً خطيراً ونعمةً عظيمةً مقتضٍ لاختصاصه بجاعلهما ، والجعلُ هو الإنشاءُ والإبداع كالخلق ، خلا أن ذلك مختصٌّ بالإنشاء التكوينيِّ ، وفيه معنى التقدير والتسوية ، وهذا عام له كما في الآية الكريمة ، والتشريعيَّ أيضا كما في قوله تعالى : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ } [ المائدة ، الآية 103 ] الآية . وأياً ما كان فهو إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخرَ بأن يكونَ فيه ، أوْ له ، أوْ منه ، أو نحوُ ذلك ، ملابسةٌ مصحِّحةٌ لأن يتوسَّطَ بينهما شيءٌ من الظروف لغواً كان أو مستقراً ، لكن لا على أن يكونَ عُمدةً{[199]} في الكلام بل قيداً فيه ، كما في قوله عز وجل : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } [ الفرقان ، الآية 53 ] وقوله تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِي } [ فصلت ، الآية 10 ] وقوله تعالى : { واجعل لنَا مِن لدُنْكَ وَلِيّاً } [ النساء ، الآية 75 ] الآية ، فإن كل واحد من هذه الظروف ، إما متعلقٌ بنفس الجعل أو بمحذوفٍ وقع حالاً من مفعولِه تقدّمت عليه لكونه نكرة ، وأياً ما كان فهو قيدٌ في الكلام حتى إذا اقتضى الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكون الجعلُ متعدياً إلى اثنين هو ثانيهما ، كما في قوله تعالى : { يَجْعَلُونَ أصابعهم في آذَانِهِم } [ البقرة ، الآية 19 ] وربما يَشتبِهُ الأمرُ فيُظن أنه عمدةٌ فيه ، وهو في الحقيقة قيدٌ بأحد الوجهين كما سلف في قوله تعالى : { إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة ، الآية 30 ] حيث قيل : إن الظرف مفعولٌ ثان لجاعل ، وقد أشير هناك إلى أن الذي يقضي به الذوق السليم وتقتضيه جزالةُ النظم الكريم ، أنه متعلقٌ بجاعل أو بمحذوفٍ وقع حالاً من المفعول ، وأن المفعولَ الثانيَ هو خليفة ، وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله . وجمعُ الظلمات لظهور كثرةِ أسبابها ومَحالِّها عند الناس ، ومشاهدتهم لها على التفصيل ، وتقديمُها على النور لتقدم الإعدام على المَلَكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين ، وقوله تعالى : { ثْمَّ الذين كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } معطوفٌ على الجملة السابقة الناطقةِ بما مر من موجبات اختصاصِه تعالى بالحمد ، المستدعي لاقتصار العبادة عليه ، كما حُقِّق في تفسير الفاتحة الكريمة ، مَسوقٌ لإنكار ما عليه الكفرة واستبعادِه من مخالفتهم لمضمونها واجترائِهم على ما تقضي ببُطلانه بديهةُ العقول . والمعنى أنه تعالى مختصٌّ باستحقاق الحمدِ والعبادةِ باعتبار ذاتِه وباعتبار ما فصَّل من شؤونه العظيمة الخاصة به ، الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ، ثم هؤلاء الكفرةُ لا يعملون بموجبه ويعدِلون به سبحانه ، أي يسوُّون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسُه الحمدُ ، مع كونِ كلِّ ما سواه مخلوقاً له غيرَ متّصفٍ بشيء من مبادئ الحمد ، وكلمة ( ثم ) لاستبعاد الشرك بعد وضوحِ ما ذُكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه ، لا بعد بيانِه بالآياتِ التنزيلية ، والموصولُ عبارةٌ عن طائفةِ الكفار جارٍ مَجرى الاسمِ لهم ، من غير أن يُجعلَ كفرُهم بما يجب أن يُؤْمَنَ به كلاًّ أو بعضاً ، عنواناً للموضوع ، فإن ذلك مُخِلٌّ باستبعاد ما أُسند إليهم من الإشراك ، والباء متعلقة بيعدلون ، ووضعُ الربِّ موضعَ ضميرِه تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح ، والتقديم لمزيد الاهتمامِ والمسارعةِ إلى تحقيق مدارِ الإنكار والاستبعادِ ، والمحافظةِ على الفواصل ، وتركُ المفعولِ لظهوره أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل بتنزيله منزلةَ اللازم ، إيذاناً بأنه المدارُ في الاستبعاد والاستنكار لا خصوصيةُ المفعول ، هذا هو الحقيقُ بجزالة التنزيل والخليقُ بفخامة شأنه الجليل . وأما جعلُ الباء صلةً لكفروا على أنّ ( يعدلون ) من العدول ، والمعنى أن الله تعالى حقيقٌ بالحمد على ما خلقه نعمةً على العباد ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمتَه ، فيردّه{[200]} أن كفرهم به تعالى لاسيما باعتبار ربوبيته تعالى لهم ، أشدُّ شناعةً وأعظمُ جنايةً من عدولهم عن حمده عز وجل لتحققه ، مع إغفاله أيضاً ، فجعلُ أهون الشرَّيْن عمدةً في الكلام مقصودُ الإفادة ، وإخراجُ أعظمِهما مُخرجَ القيدِ المفروغِ عنه مما لا عهدَ له في الكلام السديد ، فكيف بالنظم التنزيلي ؟ هذا وقد قيل : إنه معطوف على ( خلَقَ السماوات ) والمعنى أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدِر عليه أحدٌ سواه ، ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدِر على شيءٍ منه ، لكن لا على قصد أنه صلةٌ مستقلة ليكونَ بمنزلة أن يقالَ : الحمدُ لله الذي عدَلوا به ، بل على أنه داخلٌ تحت الصلة بحيث يكون الكلُّ صلةً واحدة ، كأنه قيل : الحمد لله الذي كان منه تلك النعمُ العظامُ ، ثم من الكفرة الكفرُ ، وأنت خبير بأن ما ينتظِمُ في سلك الصلة المنبئةِ عن موجبات حمده عز وجل حقُّه أن يكون له دخلٌ في ذلك الإنباء ولو في الجملة ، ولا ريب في أن كفرهم بمعزلٍ منه ، وادعاءُ أن له دَخْلاً فيه لدلالته على كمال الجود ، كأنه قيل : الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعمِ العِظام على من لا يحمَده ، تعسّفٌ لا يساعده النظام ، وتعكيسٌ يأباه المقام ، كيف لا ومَساقُ النظم الكريم كما تُفصِحُ عنه الآياتُ الآتية تشنيعُ الكفرة وتوبيخُهم ببيانِ غايةِ إساءتِهم مع نهاية إحسانه تعالى إليهم ، لا بيانِ نهايةِ إحسانِه تعالى إليهم مع غاية إساءتهم في حقه تعالى ، كما يقتضيه الادعاءُ المذكور ، وبهذا اتضح أنه لا سبيلَ إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه ، لما أن حقَّ الصلة أن تكون غيرَ مقصودةِ الإفادة ، فما ظنُّك بما هو من روادفها ؟ وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام فتأمل وكن على الحق المبين .


[199]:العمدة في اصطلاح النحاة: خلاف الفضلة، وهو ما لا يصح حذفه من الكلام.
[200]:خبر قوله "أما جعل الباء صلة".