القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ بَلَىَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قال الذين أوتوا العلم : إن الخزي اليوم والسوء على من كفر بالله فجحد وحدانيته ، الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ يقول : الذين تقبض أرواحهم الملائكة ، ظالِمِي أنْفُسِهمْ يعني : وهم على كفرهم وشركهم بالله . وقيل : إنه عنى بذلك من قتل من قريش ببدر وقد أخرج إليها كرها .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، قال : ثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة ، قال : كان ناس بمكة أقرّوا بالإسلام ولم يهاجروا ، فأخرج بهم كرها إلى بدر ، فقتل بعضهم ، فأنزل الله فيهم : الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهمْ .
وقوله : فَألْقُوا السّلَمَ يقول : فاستسلموا لأمره ، وانقادوا له حين عاينوا الموت قد نزل بهم . ما كُنّا نَعْمَلُ منْ سُوءٍ وفي الكلام محذوف استعني بفهم سامعيه ما دلّ عليه الكلام عن ذكره ، وهو : قالوا ما كنا نعمل من سوء . يخبر عنهم بذلك أنهم كذّبوا وقالوا : ما كنا نعصِي الله اعتصاما منهم بالباطل رجاء أن ينجوا بذلك ، ، فكذّبهم الله فقال : بل كنتم تعملون السوء وتصدّون عن سبيل الله . إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول : إن الله ذو علم بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصيه وتأتون فيها ما يسخطه .
القرينة ظاهرة على أنّ قوله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } ليست من مقول الذين أوتوا العلم يوم القيامة ، إذ لا مناسبة لأن يعرّف الكافرون يوم القيامة بأنهم الّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنْفُسهم ؛ فإن صيغة المضارع في قوله تعالى : { تتوفاهم الملائكة } قريبة من الصريح في أن هذا التوفّي محكيّ في حال حصوله وهم يوم القيامة مضت وفاتهم ولا فائدة أخرى في ذكر ذلك يومئذٍ ، فالوجه أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً .
وعن عكرمة : نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكّة ولم يهاجروا فأخرجهم قريش إلى بدْر كَرهاً فقُتلوا ببدر .
فالوجه أن { الذين تتوفاهم الملائكة } بدل من { الذين } في قوله تعالى : { فالذين لا يؤمنون بالآخرة } [ سورة النحل : 22 ] أو صفة لهم ، كما يومىء إليه وصفهم في آخر الآية بالمتكبّرين في قوله تعالى : { فلبئس مثوى المتكبرين } ، فهم الّذين وصفوا فيما قبل بقوله تعالى : { وهم مستكبرون } [ سورة النحل : 22 ] ، وما بينهما اعتراض . وإن أبيت ذلك لبعد ما بين المتبوع والتّابع فاجعل { الذين تتوفاهم الملائكة } خبراً لمبتدإ محذوف . والتقدير : هم الذين تتوفاهم الملائكة .
وحذف المسند إليه جار على الاستعمال في أمثاله من كلّ مسند إليه جرى فيما سلف من الكلام . أخبر عنه وحدث عن شأنه ، وهو ما يعرف عند السكاكي بالحذف المتّبع فيه الاستعمال . ويقابل هذا قوله تعالى فيما يأتي : { الذين تتوفّاهم الملائكة طيبين } [ سورة النحل : 32 ] فإنه صفة { للذين اتقوا } [ سورة النحل : 30 ] فهذا نظيره .
والمقصود من هذه الصلة وصف حالة الذين يموتون على الشّرك ؛ فبعد أن ذكر حال حلول العذاب بمن حلّ بهم الاستئصال وما يحلّ بهم يوم القيامة ذكرت حالة وفاتهم التي هي بين حالي الدّنيا والآخرة ، وهي حال تعرض لجميعهم سواء منهم من أدركه الاستئصال ومن هلك قبل ذلك .
وأطبق من تصدّى لربطه بما قبله من المفسّرين ، على جعل { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية بَدلاً من { الكافرين } في قوله تعالى : { إن الخزى اليوم والسوء على الكافرين } [ سورة النحل : 27 ] ، أو صفة له . وسكت عنه صاحب الكشاف ( وهو سكوت مِن ذهب ) . وقال الخفاجي : « وهو يصحّ فيه أن يكون مقولاً للقول وغير مندرج تحته » . وقال ابن عطيّة : « ويحتمل أن يكون { الذين } مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله وخبره في قوله : { فألقوا السلم } [ سورة النحل : 28 ] ا ه .
واقتران الفعل بتاء المضارعة التي للمؤنث في قراءة الجمهور باعتبار إسناده إلى الجماعة . وقرأ حمزة وخلف { يتوفّاهم } بالتحتية على الأصل .
والإلقاء : مستعار إلى الإظهار المقترن بمذلّة . شبّه بإلقاء السّلاح على الأرض ، ذلك أنّهم تركوا استكبارهم وإنكارهم وأسرعوا إلى الاعتراف والخضوع لما ذاقوا عذاب انتزاع أرواحهم .
والسَلَم بفتح السين وفتح اللاّم الاستسلام . وتقدّم الإلقاء والسَلَم عند قوله تعالى : { وألقوا إليكم السّلم } في سورة النساء ( 90 ) . وتقدم الإلقاء الحقيقي عند قوله تعالى : { وألقى في الأرض رواسي } في أول هذه السورة ( 15 ) .
ووصفهم ب { ظالمي أنفسهم } يرمي إلى أن توفّي الملائكة إيّاهم ملابس لغلظة وتعذيب ، قال تعالى : { ولو ترى إذ يتوفّى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } [ سورة الأنفال : 50 ] .
وجملة { ما كنا نعمل من سوء } مقول قول محذوف دلّ عليْه { ألقوا السلم } ، لأن إلقاء السَلَم أوّل مظاهره القول الدّال على الخضوع . يقولون ذلك للملائكة الّذين ينتزعون أرواحهم ليكفّوا عنهم تعذيب الانتزاع ، وهم من اضطراب عقولهم يحسبون الملائكة إنما يجرّبونهم بالعذاب ليطّلعوا على دخيلة أمرهم ، فيحسبون أنهم إن كذبوهم رَاج كذبهم على الملائكة فكفّوا عنهم العذاب ، لذلك جحدوا أن يكونوا يعملون سوءاً من قبل .
ولذلك فجملة { بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون } جواب الملائكة لهم ، ولذلك افتتحت بالحرف الّذي يبطل به النّفي وهو { بلى } . وقد جعلوا علم الله بما كانوا يعملون كناية عن تكذيبهم في قولهم : { ما كنا نعمل من سوء } ، وكناية على أنّهم ما عاملوهم بالعذاب إلاّ بأمر من الله تعالى العالم بهم .
وأسندوا العلم إلى الله دون أن يقولوا : إنّا نعلم ما كنتم تعملون ، أدباً مع الله وإشعاراً بأنهم ما علموا ذلك إلاّ بتعليم من الله تعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.