جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَفَقّدَ الطّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ * لاُعَذّبَنّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأذْبَحَنّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّي بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ } .

يقول تعالى ذكره : وَتَفَقّدَ سليمان الطيْرَ فَقالَ ماليَ لا أرَى الهُدْهُدَ . وكان سبب تفقده الطير وسؤاله عن الهدهد خاصة من بين الطير ، ما :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران عن أبي مُجَلّز ، قال : جلس ابن عباس إلى عبد الله بن سلام ، فسأله عن الهدهد : لم تفقّده سليمان من بين الطير0فقال عبد الله بن سلام : إن سليمان نزل منزلة في مسير له ، فلم يدر ما بُعْدَ الماء ، فقال : من يعلم بُعْدَ الماء ؟ قالوا : الهدهد ، فذاك حين تفقده .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا عمران بن حدير ، عن أبي مجلّز ، عن ابن عباس وعبد الله ابن سلام بنحوه .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان سليمان بن داود يوضع له ستّ مئة كرسي ، ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه ، ثم تجيء أشراف الجنّ فيجلسون مما يلي الإنس ، قال : ثم يدعو الطير فتظلهم ، ثم يدعو الريح فتحملهم ، قال : فيسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر ، قال : فبينا هو في مسيره إذا احتاج إلى الماء وهو في فلاة من الأرض ، قال : فدعا الهدهد ، فجاءه فنقر الأرض ، فيصيب موضع الماء ، قال : ثم تجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب ، قال : ثم يستخرجون الماء . فقال له نافع بن الأزرق : قف يا وقاف أرأيت قولك الهدهد يجيء فينقر الأرض ، فيصيب الماء ، كيف يبصر هذا ، ولا يبصر الفخّ يجيء حتى يقع في عنقه ؟ قال : فقال له ابن عباس : ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : كان سليمان بن داود إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير ، وقام له الجنّ والإنس حتى يجلس على سريره ، حتى إذا كان ذات غداة في بعض زمانه غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه ، فتفقد الطير . وكان فيما يزعمون يأتيه نوبا من كل صنف من الطير طائر ، فنظر فرأى من أصناف الطير كلها قد حضره إلا الهدهد ، فقال : مالي لا أرى الهدهد

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أوّل ما فقد سليمان الهدهد نزل بواد فسأل الإنس عن مائه ، فقالوا : ما نعلم له ماء ، فإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالجنّ ، فدعا الجنّ فسألهم ، فقالوا : ما نعلم له ماء وإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالطير ، فدعا الطير فسألهم ، فقالو : ما نعلم له ماء ، وإن يكن أحد من جنودك يعلمه فالهدهد ، فلم يجده ، قال : فلذاك أوّل ما فقد الهدهد .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَفَقّدَ الطّيْرَ فَقالَ ماليَ لا أرَى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ قال : تفقد الهدهد من أجل أنه كان يدله على الماء إذا ركب ، وإن سليمان ركب ذات يوم فقال : أين الهدهد ليدلنا على الماء ؟ فلم يجده ، فمن أجل ذلك تفقده . فقال ابن عباس : إن الهدهد كان ينفعه الحذر ما لم يبلغه الأجل فلما بلغ الأجل لم ينفعه الحذر ، وحال القدر دون البصر .

فقد اختلف عبد الله بن سلام والقائلون بقوله ووهب بن منبه ، فقال عبد الله : كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ليستخبره عن بُعد الماء في الوادي الذي نزل به في مسيره . وقال وهب بن منبه : كان تفقده إياه وسؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها والله أعلم بأيّ ذلك كان إذ لم يأتنا بأيّ ذلك كان تنزيل ، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح .

فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير ، إما للنوبة التي كانت عليها وأخلت بها ، وإما لحاجة كانت إليها عن بُعد الماء .

وقوله : فَقالَ مالِيَ لا أرَى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ يعني بقوله ماليَ لا أرَى الهُدْهُدَ أخطأه بصرى فلا أراه وقد حضر أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق فلم يحضر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه مالِيَ لا أرَى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغَائِبِينَ أخطأه بصري في الطير ، أم غاب فلم يحضر ؟

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ} (20)

صيغة التفعُّل تدل على التكلف ، والتكلف : الطلب . واشتقاق { تفقّد } من الفَقْد يقتضي أن { تفقّد } بمعنى طلب الفَقد . ولكنهم توسعوا فيه فأطلقوه على طلب معرفة سبب الفقد ، أي معرفة ما أحدثه الفقد في شيء ، فالتفقد : البحث عن الفقد ليعرف بذلك أن الشيء لم ينقص وكان الطير من جملة الجند لأن كثيراً من الطير صالح للانتفاع به في أمور الجند فمنه الحمام الزاجل ، ومنه الهُدهد أيضاً لمعرفة الماء ، ومنه البزاة والصقور لصيد الملك وجنده ولجلب الطعام للجند من الصيد إذا حل الجند في القفار أو نفد الزاد . وللطير جنود يقومون بشؤونها . وتفقد الجند من شعار الملك والأمراء وهو من مقاصد حشر الجنود وتسييرها . والمعنى : تفقَّد الطيرَ في جملة ما تفقده ، فقال لمن يلون أمر الطير : { ما لي لا أرى الهدهد } .

ومن واجبات ولاة الأمور تفقد أحوال الرعية وتفقد العمال ونحوهم بنفسه كما فعل عمر في خروجه إلى الشام سنة سبع عشرة هجرية ، أو بمن يكل إليه ذلك ، فقد جعل عمر محمد بن مسلمة الأنصاري يتفقد العمال .

و { الهُدهد } : نوع من الطير وهو ما يقرقر ، وفي رائحته نتن وفوق رأسه قَزَعة سوداء ، وهو أسود البراثن ، أصفر الأجفان ، يقتات الحبوب والدود ، يرى الماء من بُعد ويحس به في باطن الأرض ، فإذا رَفرف على موضع عُلم أن به ماء ، وهذا سبب اتخاذه في جند سليمان . قال الجاحظ : يزعمون أنه هو الذي كان يدل سليمان على مواضع الماء في قعور الأرضين إذا أراد استنباط شيء منها .

وقوله : { ما لي لا أرى الهدهد } استفهام عن شيء حصل له في حال عدم رؤيته الهدهد ، ف { ما } استفهام . واللام من قوله : { لي } للاختصاص . والمجرور باللام خبر عن { ما } الاستفهامية . والتقدير : ما الأمر الذي كان لي .

وجملة : { لا أرى الهدهد } في موضع الحال من ياء المتكلم المجرورة باللام ، فالاستفهام عما حصل له في هذه الحال ، أي عن المانع لرؤية الهدهد . والكلام موجه إلى خفرائه ، يعني : أكان انتفاء رؤيتي الهدهد من عدم إحاطة نظري أم من اختفاء الهدهد ؟ فالاستفهام حقيقي وهو كناية عن عدم ظهور الهدهد .

و { أم } منقطعة لأنها لم تقع بعد همزة الاستفهام التي يطلب بها تعيين أحد الشيئين . و { أم } لا يفارقها تقدير معنى الاستفهام بعدها ، فأفادت هنا إضراب الانتقال من استفهام إلى استفهام آخر . والتقدير : بل أكان من الغائبين ؟ وليست { أم } المنقطعة خاصة بالوقوع بعد الخبر بل كما تقع بعد الخبر تقع بعد الاستفهام .

وصاحب « المفتاح » مثَّل بهذه الآية لاستعمال الاستفهام في التعجب والمثال يكفي فيه الفرض . ولما كان قول سليمان هذا صادراً بعد تقصّيه أحوال الطير ورجح ذلك عنده أنه غاب فقال : { لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه } لأن تغيبه من دون إذن عصيان يقتضي عقابه ، وذلك موكول لاجتهاد سليمان في المقدار الذي يراه استصلاحاً له إن كان يرجى صلاحه ، أو إعداماً له لئلا يلقِّن بالفساد غيرَه فيدخل الفساد في الجند وليكون عقابه نكالاً لغيره .

فصمم سليمان على أنه يفعل به عقوبة جزاء على عدم حضوره في الجنود . ويؤخذ من هذا جواز عقاب الجندي إذا خالف ما عُيّن له من عمل أو تغيب عنه .

وأما عقوبة الحيوان فإنما تكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله . قال القرافي في « تنقيح الفصول » في آخر فصوله : سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهرّ الموذي هل يجوز ؟ فكتب وأنا حاضر : إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل اه . قال القرافي : فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا تُرك فإذا أكله لم يقتل لأنه طبعه ، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله . قال القرافي : وقال أبو حنيفة : إذا آذت الهرة وقصد قتلها لا تعذب ولا تخنق بل تذبح بموسى حادة لقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة " اه . وقال الشيخ ابن أبي زيد في « الرسالة » : ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يُقدَر على تركها .