القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىَ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وقالت جماعة رجال من قوم فرعون لفرعون : أتدع موسى وقومه من بني إسرائيل ليفسدوا في الأرض ، يقول : كي يفسدوا خدمك وعبيدك عليك في أرضك من مصر ، وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ يقول : ويذرك : ويدع خدمتك موسى ، وعبادتك وعبادة آلهتك .
وفي قوله : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ وجهان من التأويل : أحدهما أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركك وترك عبادتك وعبادة آلهتك ؟ وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه من التأويل كان النصب في قوله : وَيَذَرَكَ على الصرف ، لا على العطف به على قوله «ليفسدوا » . والثاني : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وليذرك وآلهتك كالتوبيخ منهم لفرعون على ترك موسى ليفعل هذين الفعلين . وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه كان نصب : وَيَذَرَكَ على العطف على ليُفْسِدُوا .
والوجه الأوّل أولى الوجهين بالصواب ، وهو أن يكون نصب : وَيَذَرَكَ على الصرف ، لأن التأويل من أهل التأويل به جاء .
وبعد ، فإن في قراءة أُبيّ بن كعب الذي :
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج عن هارون ، قال : في حرف أبيّ بن كعب : وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك .
دلالة واضحة على أن نصب ذلك على الصرف .
وقد روى عن الحسن البصريّ أنه كان يقرأ ذلك : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ عطفا بقوله : وَيَذَرَكَ على قوله : أتَذَرُ مُوسَى كأنه وجّه تأويله إلى : أتذرُ موسى وقومه ويذرك وآلهتك ليفسدوا في الأرض ؟ وقد تحتمل قراءة الحسن هذه أن يكون معناها : أتذرُ موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وهو يذرُك وآلهتك ؟ فيكون «يذرُك » مرفوعا على ابتداء الكلام .
وأما قوله : وآلِهَتَكَ فإن قرّاء الأمصار على فتح الألف منها ومدّها ، بمعنى : وقد ترك موسى عبادتك وعبادة آلهتك التي تعبدها . وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان له بقرةٌ يعبدوها . وقد رُوى عن ابن عباس ومجاهد أنهما كانا يقرآنها : «وَيَذَرَكَ وإلا هَتَكَ » بكسر الألف ، بمعنى : ويذرك وعبُودتك .
والقراءة التي لا نرى القراءة بغيرها ، هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليها .
ذكر من قال : كان فرعون يعبُد آلهة على قراءة من قرأ : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ وآلهته فيما زعم ابن عباس ، كانت البقرة كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ، فلذلك أخرج لهم عجلاً وبقرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن عمرو ، عن الحسن ، قال : كان لفرعون جُمَانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد لها .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا أبان بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول : بلغني أن فرعون كان يعبد إلها في السرّ . وقرأ : «وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ » .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : كان لفرعون إله يعبده في السرّ .
ذكر من قال معنى ذلك : ويذرك وعبادتك ، على قراءة من قرأ : «وإلاهتك » :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو ، عن الحسن ، عن ابن عباس : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : إنما كان فرعون يُعبد ولا يعَبد .
قال ثنا أبي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قرأ : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : وعبادتك ، ويقول إنه كان يُعبد ولا يَعبد .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : يترك عبادتك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «وإلاهَتَكَ » يقول : وعبادتك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : عبادتك .
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو بن حسين ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » وقال : إنما كان فرعون يُعبد ولا يَعبد .
وقد زعم بعضهم : أن من قرأ : «وإلاهَتَكَ » إنما يقصد إلى نحو معنى قراءة من قرأ : وآلِهَتَكَ غير أنه أنث وهو يريد إلها واحدا ، كأنه يريد «وَيَذَرَكَ وإلاهَكَ » ثم أنث الإله فقال : «وإلاهتك » .
وذكر بعض البصريين أن أعرابيا سُئِل عن الإلاهة فقال : «هي عَلَمة » يريد علما ، فأنث «العلم » ، فكأنه شيء نصب للعبادة يُعبد . وقد قالت بنت عتيبة بن الحارث اليربوعي :
تَرَوّحْنا منَ اللّعْباءِ عَصْرا ***وأعْجَلْنا الإلاهَةَ أنْ تَئُوبا
يعني بالإلاهة في هذا الموضع : الشمس . وكأن هذا المتأوّل هذا التأويل ، وجّه الإلاهة إذا أدخلت فيها هاء التأنيث ، وهو يريد واحد الاَلهة ، إلى نحو إدخالهم الهاء في وِلْدَتِي وكَوْكَبَتِي ومَاءَتي ، وهو أهْلَة ذاك ، وكما قال الراجز :
يا مُضَرُ الحَمْرَاءِ أنْتِ أُسْرَتِي ***وَأنْتِ مَلْجاتِي وأنْتِ ظَهْرَتي
يريد : ظهري . وقد بين ابن عباس ومجاهد ما أرادا من المعنى في قراءتهما ذلك على ما قرآ ، فلا وجه لقول هذا القائل ما قال مع بيانهما عن أنفسهما ما ذهبا إليه من معنى ذلك .
وقوله : قالَ سَنُقَتّلُ أبْناءَهُمْ يقول : قال فرعون : سنقتل أبناءهم الذكور من أولاد بني إسرائيل . وَنَسْتَحِيي نساءَهُمْ يقول : ونستبقي إناثهم . وَإنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ يقول : وإنا عالون عليهم بالقهر ، يعني بقهر الملك والسلطان . وقد بينا أن كلّ شيء عال بقهر وغلبة على شيء ، فإن العرب تقول : هو فوقه .
وقوله ملأ فرعون { أتذر موسى وقومه } مقالة تتضمن إغراء فرعون بموسى وقومه وتحريضه على قتلهم أو تغيير ما بهم حتى لا يكون لهم خروج عن دين فرعون ، ومعنى { أتذر موسى } : أتترك ، وقرأ جمهور الناس «ويذرَك » بفتح الراء ، ونصبه على معنيين : أحدهما أن يقدر «وأن يذرك » فهي واو الصرف فكأنهم قالوا أتذره ، وأن يذرك أي أتتركه وتركك ، والمعنى الآخر أن يعطف على قوله { ليفسدوا } وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف عنه «ويذرُك » بالرفع عطفاً على قولهم { أتذر } ، وقرأ الأشهب العقيلي «ويذرْك » بإسكان الراء وهذا على التخفيف من يذرك ، وقرأ أنس بن مالك «وينذرُك » بالنون ورفع الفعل على معنى توعد منهم أو على معنى إخبار أن الأمر يؤول إلى هذا ، وقرأ أبي بن كعب وعبد الله «في الأرض » وقد تركوك أن يعبدوك «وآلهتك » قال أبو حاتم وقرأ الأعمش «وقد تركك وآلهتك » ، وقرأ السبعة وجمهور من العلماء «وآلهتك » على الجمع .
قال القاضي أبو محمد : وهذا على ما روي أن فرعون كان في زمنه للناس آلهة من بقر وأصنام وغير ذلك ، وكان فرعون قد شرع ذلك وجعل نفسه الإله الأعلى ، فقوله على هذا أنا ربكم الأعلى ، إنما هو بمناسبة بينه وبين سواه من المعبودات .
وقيل : إن فرعون كان يعبد حجراً كان يعلقه في صدره كياقوتة أو نحوها ، قال الحسن : كان لفرعون حنانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد لها ، وقال سليمان التيمي : بلغني أنه كان يعبد البقر ، ذكره أبو حاتم وقرأ ابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأنس بن مالك وجماعة وغيرهم ، { وآلهتك } أي وعبادتك والتذلل لك ، وزعمت هذه الفرقة : أن فرعون لم يبح عبادة شيء سواه وأنه في قوله الأعلى إنما أراد : و «يقتّلون » بالتشديد وخففهما جميعاً نافع وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : «يقتّلون » و «سنقتّل » بالتشديد على المبالغة ، والمعنى سنستمر على ما كنا عليه من تعذيبهم وقطعهم .
وقوله تعالى : { وإنا فوقهم قاهرون } يريد في المنزلة والتمكن من الدنيا ، و { قاهرون } يقتضي تحقير أمرهم أي هم أقل من أن يهتم بهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.