{ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطَاناً مّرِيداً } . .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : إن يدعون من دونه إلا اللات والعزّى ومناة ، فسماهنّ الله إناثا بتسمية المشركين إياهنّ بتسمية الإناث . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } قال : اللات والعزّى ومناة ، كلها مؤنث .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك بنحوه ، إلا أنه قال : كلهنّ مؤنث .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } يقول : يسمونهم إناثا : لات ، ومناة ، وعُزّى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } قال : آلهتهم : اللات ، والعُزّى ، ويِساف ، ونائلة ، هم إناث يدعونهم من دون الله . وقرأ : { وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا } .
وقال آُخرون : معنى ذلك : إن يدعون من دونه إلا مواتا لا روح فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } يقول : مَيْتا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } : أي إلا مَيْتا لا روح فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } قال : والإناث : كل شيء ميت ليس فيه روح خشبة يابسة ، أو حجر يابس ، قال الله تعالى : { وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا } . . . إلى قوله : { فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ } .
وقال آخرون : عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون : إن الملائكة بنات الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } قال : الملائكة يزعمون أنهم بنات الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : إن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم إناثا ، فأنزل الله ذلك كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن نوح بن قيس ، عن أبي رجاء ، عن الحسن قال : كان لكلّ حيّ من أحياء العرب صنم يسمونها أنثى بني فلان ، فأنزل الله : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، قال : حدثنا محمد بن سيف أبو رجاء الحِدّاني ، قال : سمعت الحسن يقول : كان لكل حيّ من العرب ، فذكر نحوه .
وقال آخرون : الإناث في هذا الموضع : الأوثان . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهاد في قوله : { إناثا } قال : أوثانا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كان في مصحف عائشة : «إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا » .
قال أبو جعفر : رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : «أن يدعون من دونه إلا أُثُنا » ، بمعنى جمع وثن ، فكأنه جمع وَثَنَا وُثُنا ، ثم قلب الواو همزة مضمومة ، كما قيل : ما أحسن هذه الأجوه ، بمعنى الوجوه ، وكما قيل : { وَإذَا الرّسُلُ أُقّتَتْ } بمعنى : وُقّتت . وذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك : «إن يدعون من دونه إلا أُنُثا » ، كأنه أراد جمع الإناث ، فجمعها أُنُثا ، كما تُجمع الثمار ثُمُرا . والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها قراءة من قرأ : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } بمعنى جمع أنثى ، لأنها كذلك في مصاحف المسلمين ، ولإجماع الحجة على قراءة ذلك كذلك .
وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك إذ كان الصواب عندنا من القراءة ما وصفت ، تأويل من قال : عنى بذلك الاَلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ، ويسمونها بالإناث من الأسماء كاللات والعزّى ونائلة ومناة ، وما أشبه ذلك .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية ، لأن الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب ما عرف بالتأنيث دون غيره . فإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه ، وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الاَية : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، ويتبع غير سبيل المؤمنين ، نولّه ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيرا ، إن يدعون من دونه إلا إناثا ، يقول : ما يدعو الذين يشاقون الرسول ويتبعون غير سبيل المؤمنين شيئا من دون الله بعد الله وسواه ، إلاّ إناثا ، يعني : إلا ما سموه بأسماء الإناث كاللات والعزّى وما أشبه ذلك . يقول جلّ ثناؤه : فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد ، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل ، أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة وأربابا . والإناث من كلّ شيء أخّسه¹ فهم يقرّون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته ، ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي له ملك كل شيء وبيده الخلق والأمر .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا } : وما يدعو هؤلاء الذين يدعون هذه الأوثان الإناث من دون الله بدعائهم إياها إلا شيطانا مريدا ، يعني متمرّدا على الله في خلافه فيما أمره به وفيما نهاه عنه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا } قال : تمرّد على معاصي الله .
{ إن يدعون من دونه إلا إناثا } يعني اللات والعزى ومناة ونحوها ، كان لكل حي صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان وذلك إما لتأنيث أسمائها كما قال : وما ذكر فإن يسمن فأنثى *** شديد الأزم ليس له ضروس
فإنه عنى القراد وهو ما كان صغيرا سمي قرادا فإذا كبر سمي حلمة ، أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث من حيث إنها ضاهت الإناث لا نفعا لها ، ولعله سبحانه وتعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيها على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثا لأنه ينفعل ولا يفعل ، ومن حق المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل ليكون دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم . وقيل المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله ، سبحانه وتعالى ، وهو جمع أنثى كرباب وربى ، وقرئ " أنثى " على التوحيد وأننا على أنه جمع أنيث كخبث وخبيث ، ووثنا بالتخفيف ووثنا بالتثقيل وهو جمع وثن كأسد وأسد وأسد وأثنا أثنا بهما على قلب الواو لضمها همزة . { وإن يدعون } وإن يعبدون بعبادتها . { إلا شيطانا مريدا } لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها ، فكأن طاعته في ذلك عبادة له ، والمارد والمريد الذي لا يعلق بخير . وأصل التركيب للملابسة . ومنه { صرح ممرد } وغلام أمرد وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها .
كان قوله : { إن يدعون } بياناً لقوله : { فقد ضلّ ضلالاً بعيداً } [ النساء : 116 ] ، وأي ضلال أشدّ من أن يشرك أحد بالله غيرَه ثم أن يَدّعي أنّ شركاءه إناث ، وقد علموا أنّ الأنثى أضعف الصنفين من كلّ نوع . وأعجب من ذلك أن يَكون هذا صادراً من العرب ، وقد علم الناس حال المرأة بينهم ، وقد حَرَمُوها من حقوق كثيرة واستضعفوها . فالحصر في قوله : { إن يدعون من دونه إلا إناثاً } قصر ادّعائي لأنّه أعجبُ أحوال إشراكهم ، ولأنّ أكبر آلهتهم يعتقدونها أنثى وهي : اللاّت ، والعُزّى ، ومَنَاة ، فهذا كقولك لا عالم إلاّ زيد . وكانت العزّى لقريش ، وكانت مناة للأوس والخزرج ، ولا يخفى أنّ معظم المعاندين للمسلمين يومئذ كانوا من هذين الحيّين : مشركو قريش هم أشدّ الناس عداء للإسلام : ومنافقوا المدينة ومشركوها أشدّ الناس فتنة في الإسلام .
ومعنى { وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً } أنّ دعوتهم الأصنام دعوة للشيطان ، والمراد جنس الشيطان ، وإنما جعلوا يدعون الشيطان لأنه الذي سوّل لهم عبادة الأصنام . والمَريد : العاصي والخارج عن المَلِك ، وفي المثل « تمرّد مارد وعزّ الأبلق » اسما حصنين للسموأل ، فالمريد صفة مشبّهة مشتقّة من مردُ بضم الراء إذا عتا في العصيان .