القول في تأويل قوله تعالى : { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَىَ إِلاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : من وافى ربه يوم القيامة في موقف الحساب من هؤلاء الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا بالتوبة والإيمان والإقلاع عما هو عليه مقيم من ضلالته ، وذلك هو الحسنة التي ذكرها الله ، فقال : من جاء بها فله عشر أمثالها . ويعني بقوله : فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا فله عشر حسنات أمثال حسنته التي جاء بها . وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ يقول : ومن وافى يوم القيامة منهم بفراق الدين الحقّ والكفر بالله ، فلا يُجْزَى إلا ما ساءه من الجزاء ، كما وافى الله به من عمله السيىء . وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يقول : ولا يظلم الله الفريقين : لا فريق الإحسان ، ولا فريق الإساءة ، بأن يجازي المحسن بالإساءة والمسيء بالإحسان ولكنه يجازي كلا الفريقين من الجزاء ما هو له ، لأنه جلّ ثناؤه حكيم لا يضع شيئا إلا في موضعه الذي يستحقّ أن يضعه فيه ، ولا يجازي أحدا إلا بما يستحقّ من الجزاء .
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الظلم وضع الشيء في غير موضعه بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع .
فإن قال قائل : فإن كان الأمر كما ذكرت من أن معنى الحسنة في هذا الموضع الإيمان بالله والإقرار بوحدانيته والتصديق برسوله ، والسيئة فيه الشرك به والتكذيب لرسوله ، فللإيمان أمثال فيجازَى بها المؤمن ، وإن كان له مثل فكيف يجازَي به ، والإيمان إنما هو عندك قول وعمل ، والجزاء من الله لعباده عليه الكرامة في الاَخرة ، والإنعام عليه بما أعدّ لأهل كرامته من النعيم في دار الخلود ، وذلك أعيان ترى وتعاين وتحس ويلتذّ بها ، لا قول يُسمع ولا كسب جوارح ؟ قيل : إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إليه ، وإنما معناه : من جاء بالحسنة فوافى الله بها له مطيعا ، فإن له من الثواب ثواب عشر حسنات أمثالها .
فإن قلت : فهل لقول لا إله إلا الله من الحسنات مثل ؟ قيل : له مثل هو غيره ، وليس له مثل هو قول لا إله إلا الله ، وذلك هو الذي وعد الله جلّ ثناؤه من أتاه به أن يجازيه عليه من الثواب بمثل عشرة أضعاف ما يستحقه قائله ، وكذلك ذلك فيمن جاء بالسيئة التي هي الشرك ، إلا أن لا يجازي صاحبها عليها إلا ما يستحقه عليها من غير إضعافه عليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المُغيرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما نزلت : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أمثالِهَا قال رجل من القول : فإن «لا إله إلا الله » حسنة ؟ قال : نعم ، أفضل الحسنات .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش والحسن بن عبيد الله ، عن جامع بن شدّاد ، عن الأسود بن هلال ، عن عبد الله : مَن جاءَ بالحَسَنةِ لا إله إلا الله .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا حفص ، قال : حدثنا الأعمش والحسن بن عبيد الله ، عن جامع بن شدّاد ، عن الأسود بن هلال ، عن عبد الله ، قال : مَنْ جاءَ بالحَسَنةِ قال : من جاء بلا إله إلا الله ، قال : وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ قال : الشرك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن جامع بن شدّاد ، عن الأسود بن هلال ، عن عبد الله : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قال : لا إله إلا الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا معاوية بن عمرو ، والمعنى عن زائدة ، عن عاصم ، عن شقيق : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قال : لا إله إلا الله كلمة الإخلاص . وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ قال : الشرك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، وعن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد والقاسم بن أبي بزّة : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قالوا : لا إله إلا الله كلمة الإخلاص . وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ قالوا : بالشرك وبالكفر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير وابن فضيل ، عن عبد الملك ، عن عطاء : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قال : لا إله إلا الله . وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ قال : الشرك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير وابن فضيل ، عن عبد الملك ، عن عطاء : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قال : لا إله إلا الله . وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ قال : الشرك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا قال : لا إله إلا الله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي المحجّل ، عن إبراهيم : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قال : لا إله إلا الله . وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ قال : الشرك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي المحجل ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي المحجل ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن أبي المحجل ، عن أبي معشر ، قال : كان إبراهيم يحلف بالله ما يستثني ، أن مَن جاءَ بالحَسَنَةِ لا إله إلا الله ، وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ من جاء بالشرك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قال : كلمة الإخلاص : لا إله إلا الله . وَمَن جاءَ بالسّيّئَةِ قال : بالشرك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو نعيم جميعا ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي صالح : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قال : لا إله إلا الله . وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ قال : الشرك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن عثمان بن الأسود ، عن القاسم بن أبي بزّة : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قال : كلمة الإخلاص . وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ قال : الكفر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قال : لا إله إلا الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن أشعث ، عن الحسن : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قال : لا إله إلا الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ قال : لا إله إلا الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ يقول : من جاء بلا إله إلا الله . وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ قال : الشرك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا ، وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ فَلا يُجْزِى إلاّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «الأعْمالُ سِتّةٌ : مُوجِبَةٌ وَمُوجِبَةٌ ، وَمُضَعّفَةٌ وَمُضَعّفَةٌ ، وَمِثْلٌ وَمِثْلٌ . فأمّا المُوجِبَتانِ : فَمَنْ لَقِيَ اللّهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا دَخَلَ الجَنّةَ ، وَمَنْ لَقَيَ اللّهَ مُشْرِكا بِهِ دَخَلَ النّارَ وأمّا المُضَعّفُ والمُضَعّفُ : فَنَفَقَةُ المُؤمِنِ فِي سَبِيلِ اللّهِ سَبْعٌ مِئَةٍ ضِعْفٍ ، وَنَفَقَتُهُ على أهْلِ بَيْتِهِ عَشْرُ أمْثالِهَا . وأمّا مِثْلٌ وَمِثْلٌ : فإذَا هَمّ العَبْدُ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً ، وَإذَا هَمّ بِسَيّئةٍ ثُمّ عَمَلَها كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيّئَةً » .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن شيخ من التيم ، عن أبي ذرّ ، قال : قلت : يا رسول الله علمني عملاً يقرّبني إلى الجنة ويباعدني من النار قال : «إذَا عَمِلْتَ سَيّئَةً فاعْمَلْ حَسَنَةً ، فإنّها عَشْرُ أمْثالِهَا » . قال : قلت : يا رسول الله ، لا إله إلا الله من الحسنات ؟ قال «هيَ أحْسَنُ الحَسَناتِ » .
وقال قوم : عُني بهذه الاَية : الأعراب فأما المهاجرون ، فإن حسناتهم سبع مئة ضعف أو أكثر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدريّ ، في قوله : مَنْ جاءَ بالحَسَنَة فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا قال : هذه للأعراب ، وللمهاجرين سبع مئة .
حدثنا محمد بن نشيط بن هارون الحربيّ ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق . عن عطية العوفي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : نزلت هذه الاَية في الأعراب : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا قال : قال رجل : فما للمهاجرين ؟ قال : ما هو أعظم من ذلك : إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما وإذا قال الله لشيء عظيم ، فهو عظيم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، قال : نزلت هذه الاَية : مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا وهم يصومون ثلاثة أيام من الشهر ويؤدّون عشر أموالهم ، ثم نزلت الفرائض بعد ذلك : صوم رمضان والزكاة .
فإن قال قائل : وكيف قيل عشر أمثالها ، فأضيف العشر إلى الأمثال ، وهي الأمثال ، وهي يضاف الشيء إلى نفسه ؟ قيل : أضيفت إليها لأنه مراد بها : فله عشر حسنات أمثالها ، فالأمثال حلّت محلّ المفسر ، وأضيف العشر إليها ، كما يقال : عندي عشر نسوة ، فلأنه أريد بالأمثال مقامها فقيل : عشر أمثالها ، فأخرج العشر مخرج عدد الاَيات ، والمِثْل مذكر لا مؤنث ، ولكنها لما وضعت موضع الاَيات ، وكان المثْل يقع للمذكر والمؤنث ، فجعلت خلفا منها ، فُعِل بها ما ذكرتُ ومن قال : عندي عشر أمثالها ، لم يقل : عندي عشر صالحات ، لأن الصالحات فعل لا يعدّ ، وإنما تعدّ الأسماء والمِثل اسم ، ولذلك جاز العدد به . وقد ذكر عن الحسن البصريّ أنه كان يقرأ ذلك : «فَلَهُ عَشرٌ » بالتنوين «أمْثالُها » بالرفع ، وذلك على وجه صحيح في العربية ، غير أن القرّاء في الأمصار على خلافها ، فلا نستجيز خلافها ، فيما هي عليه مجتمعة .
{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } أي عشر حسنات أمثالها فضلا من الله . وقرأ يعقوب " عشرة " بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف . وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل : المراد بالعشر الكثرة دون العدد . { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } قضية للعدل . وهم لا يظلمون } بنقص الثواب وزيادة العقاب .
وقوله تعالى : { من جاء بالحسنة } الآية . قال أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر : هذه الآية نزلت في الأعراب الذين آمنوا بعد الهجرة فضاعف الله حسناتهم للحسنة عشر . وكان المهاجرون قد ضوعف لهم للحسنة سبعمائة{[5172]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل يحتاج إلى سند يقطع العذر ، وقالت فرقة : هذه الآية لجميع الأمة ، أي إن الله يضاعف الحسنة بعشرة ثم بعد هذا المضمون قد يزيد ما يشاء{[5173]} ، وقد يزيد أيضاً على بعض الأعمال كنفقة الجهاد ، وقال ابن مسعود ومجاهد والقاسم بن أبي بزة وغيرهم : «الحسنة » لا إله إلا الله «والسيئة » الكفر .
قال القاضي أبو محمد : وهذه هي الغاية من الطرفين ، وقالت فرقة : ذلك لفظ عام في جميع الحسنات والسيئات ، وهذا هو الظاهر . وأنث لفظ «العشر » لأن الأمثال ها هنا بالمعنى حسنات ، ويحتمل أن الأمثال أنث لما أضيفت إلى مؤنث ، وهو الضمير كما قال الشاعر : [ الطويل ]
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ . . . أعالِيهَا مَرّ الرياح النواسم{[5174]}
فأنث . وقرأ الحسن وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر والأعمش ويعقوب «فله عشرٌ » بالتنوين «أمثالُها » بالرفع{[5175]} .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الأعمال ست موجبة وموجبة ، ومَضِّعفة ومضعفة ومثل ومثل ، فلا إله إلا الله توجب الجنة . والشرك يوجب النار ، ونفقة الجهاد تضعف سبعمائة ضعف ، والنفقة على الأهل حسنتها بعشرة ، والسيئة جزاؤها مثلها ، ومن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة مثلها »{[5176]} ، وقوله تعالى : { لا يظلمون } أي لا يوضع في جزائهم شيء في غير موضعه ، وتقدير الآية من جاء بالحسنة فله ثواب عشر أمثالها ، والمماثلة بين الحسنة والثواب مترتبة إذا تدبرت ، وقال الطبري قوله { من جاء بالحسنة } الآية ، يريد من الذين فرقوا دينهم أي من جاء مؤمناً فله الجنة .
قال القاضي أبو محمد : والقصد بالآية إلى العموم في جميع العالم{[5177]} أليق باللفظ .
من عادة القرآن أنَّه إذا أنذر أعقب الإنذار ببشارة لمن لا يحقّ عليه ذلك الإنذار ، وإذا بَشَّر أعقب البشارة بنذارة لمن يتَّصف بضدّ ما بشر عليه ، وقد جرى على ذلك ههنا : فإنَّه لمّا أنذر المؤمنين وحذرهم من التريُّثثِ في اكتساب الخير ، قبل أن يأتي بعض آياتتِ الله القاهرة ، بقوله : { لاَ يَنْفَع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } [ الأنعام : 158 ] فحَدّ لَهم بذلك حدّاً هو من مظهر عدله ، أعقب ذلك ببشرى من مظاهر فضله وعَدله . وهي الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها والجزاء على السيّئة بمثلها ، فقوله : { من جاء بالحسنة } إلى آخره استئناف ابتدائي جرى على عرف القرآن في الانتقال بين الأغراض .
فالكلام تذييل جامع لأحوال الفريقين اللذين اقتضاهما قوله : { لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } [ الأنعام : 158 ] . وهذا بيان لبعض الإجمال الذي في قوله : { لا ينفع نفساً إيمانها } الآية ، كما تقدّم آنفاً .
و { جاء بالحسنة } معناه عمل الحسنة : شبه عمله الحسنة بحال المكتسب ، إذ يخرج يطلب رزقاً من وجوهه أو احتطاب أو صيد فيجيء أهله بشيء . وهذا كما استعير له اسم التِّجارة في قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] .
فالباء للمصاحبة ، والكلام تمثيل ، ويجوز حمل المجيء على حقيقته ، أي مجيء إلى الحساب على أن يكون المراد بالحسنة أن يجيء بكتابتها في صحيفة أعماله .
وأمْثال الحسنة ثواب أمثالها ، فالكلام على حذف مضاف بقرينة قوله : { فلا يجزي إلا مثلها } ، أو معناه تحسب له عشرُ حسنات مثل التي جاء بها كما في الحديث : « كتبها الله عنده عشر حسنات » ويعرف من ذلك أنّ الثّواب على نحو ذلك الحساب كما دلّ عليه قوله : { فلا يجزي إلا مثلها } .
والأمثال : جمع مِثْل وهو المماثل المساوي ، وجيء له باسم عدد المؤنّث وهو عشر اعتباراً بأنّ الأمثال صفة لموصوف محذوف دلّ عليه الحسنة أي فله عشر حسنات أمثالها ، فروعي في اسم العدد معنى مميّزه دون لفظه وهو أمثال . والجزاء على الحسنة بعشرة أضعاف فضلٌ من الله ، وهو جزاء غالب الحسنات ، وقد زاد الله في بعض الحسنات أن ضاعفها سبعمائة ضِعْف كما في قوله تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } [ البقرة : 261 ] فذلك خاصّ بالإنفاق في الجهاد . وفي الحديث : « من هَمّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة » .
وقرأ الجمهور : { عَشرُ أمثالِها } بإضافة { عشر } إلى { أمثالها } . وهو من إضافة الصّفة إلى الموصوف ، وقرأه يعقوب بتنوين { عشر } ورفع { أمثالها } ، على أنّه صفة ل { عشر } ، أي فله عشر حسنات مماثلة للحسنة التي جاء بها .
ومماثلة الجزاء للحسنة موكول إلى علم الله تعالى وفضله .
وإنَّما قال في جانب السيّئة فلا يُجزى إلاّ مثلها بصيغة الحصر لأجل ما في صيغته من تقديم جانب النّفي ، اهتماماً به ، لإظهار العدل الإلهي ، فالحصر حقيقي ، وليس في الحصر الحقيقي ردّ اعتقاد بل هو إخبار عمّا في نفس الأمر ، ولذلك كان يساويه أن يقال : ومن جاء بالسيّئة فيُجزى مثلها ، لولا الاهتمام بجانب نفي الزّيادة على المماثلة . ونظيره قول النّبيء صلى الله عليه وسلم حين سألتْه هند بنت عتبة فقالت : إنّ أبا سفيان رجل مِسِّيك فهل عليّ حرج أن أُطعم من الذي له عيالَنا ، فقال لها : " لا إلاّ بالمعروف " ولم يقل لها : أطعميهم بالمعروف . وقد جاء على هذا المعنى قول النّبيء صلى الله عليه وسلم ومن همّ بسيّئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيّئة واحدة » ؛ فأكَّدها بواحدة تحقيقاً لعدم الزّيادة في جزاء السيّئة .
ولذلك أعقبه بقوله : { وهم لا يظلمون } والضّمير يعود إلى { من جاء بالسيّئة } ، إظهار للعدل ، فلذلك سجل الله عليهم بأنّ هذا لا ظلم فيه ليُنصِفوا من أنفسهم . وأمَّا عدّ عود الضّميرين إلى الفريقين فلا يناسب فريق أصحاب الحسنات ، لأنَّه لا يحسن أن يقال للذي أُكرم وأفيض عليه الخير إنَّه غير مظلوم .