القول في تأويل قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىَ اللّهُ إِلاّ أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يريد هؤلاء المتخذون أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بأفْوَاهِهِمْ يعني : أنهم يحاولون بتكذيبهم بدين الله الذي ابتعث به رسوله وصدّهم الناس عنه بألسنتهم أن يبطلوه ، وهو النور الذي جعله الله لخلقه ضياء . ويَأبَى اللّهُ إلاّ أنْ يُتِمّ نُورَهُ يعلو دينه وتظهر كلمته ، ويتمّ الحقّ الذي بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، ولو كره إتمام الله إياه الكافرون ، يعني : جاحديه المكذّبين به .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بأفْوَاهِهِمْ يقول : يريدون : أن يطفئوا الإسلام بكلامهم .
{ يريدون أن يُطفئوا } يخمدوا . { نور الله } حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد ، أو القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . { بأفواههم } بشركهم أو بتكذيبهم . { ويأبى الله } أي لا يرضى . { إلا أن يتم نوره } بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام . وقيل إنه تمثيل لحالهم في طلبهم إبطال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يطلب إطفاء نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده بنفخه ، وإنما صح الاستثناء المفرغ والفعل موجب لأنه في معنى النفي . { ولو كره الكافرون } محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه .
وقوله تعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله } الآية ، { نور الله } في هذه الآية هداه الصادر عن القرآن والشرع المثبت في قلوب الناس فمن حيث سماه نوراً سمي محاولة إفساده والصد في وجهه إطفاء ، وقالت فرقة : النور القرآني .
قال القاضي أبو محمد : ولا معنى لتخصيص شيء مما يدخل تحت المقصود بالنور ، وقوله { بأفواههم } عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها ، أخبر عنهم أنهم يحاولون مقاومة أمر جسيم بسعي ضعيف فكان الإطفاء بنفخ الأفواه ، ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها فهي لا تجاوز الأفواه إلى فهم سامع ، وقوله { ويأبى } إيجاب يقع بعده أحياناً إلا وذلك لوقوعه هو موقع الفعل المنفي ، لأن التقدير ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقال الفراء : هو إيجاب فيه طرف من النفي ، ورد الزجاج على هذه العبارة وبيانه ما قلناه{[5614]} .
استئناف ابتدائي لزيادة إثارة غيظ المسلمين على أهل الكتاب ، بكشف ما يضمرونه للإسلام من الممالاة ، والتألّب على مناواة الدين ، حين تحقّقوا أنّه في انتشار وظهور ، فثار حسدهم وخشوا ظهور فضله على دينهم ، فالضمير في قوله : { يريدون } عائد إلى { الذين أوتوا الكتاب } [ التوبة : 29 ] والإطفاء إبطال الإسراج وإزالةُ النور بنفخ عليه ، أو هبوب رياح ، أو إراقة مياه على الشيء المستنير من سراج أو جمر .
والنور : الضوء وقد تقدّم عند قوله تعالى : { نوراً وهدى للناس } في سورة الأنعام ( 91 ) . والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبي ، وصدّ الناس عن اتّباع الإسلام ، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف ، والتحريض على المقاومة . والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب ، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من يحاول إطفاء نور بنفخ فمِه عليه ، فهذا الكلام مركّب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة ، ومن كمال بلاغته أنّه صالح لتفكيك التشبيه بأنّ يشبّه الإسلام وحده بالنور ، ويشبّه محاولو إبطاله بمريدي إطفاءِ النور ويشبّه الإرجاف والتكذيب بالنفخ ، ومن الرشاقة أنّ آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه . والمثال المشهور للتمثيل الصالحِ لاعتباري التركيب والتفريق قول بشار :
كَأنَّ مُثَار النَّقْع فوقَ رؤوسنا *** وأسْيافَنَا ليلٌ تَهاوَى كواكبُه
ولكن التفريق في تمثيليةِ الآيةِ أشدّ استقلالاً ، بخلاف بيت بشّار ، كما يظهر بالتأمّل .
وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أنّ محاولة إطفائه عبث وأنّ أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم .
والإباء والإباية : الامتناع من الفعل ، وهو هنا تمثيل لإرادة الله تعالى إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوِله محاوِل على فعلٍ وهو يمتنع منه ، لأنّهم لمّا حاولوا طمس الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى ، فكان حالهم ، في نفس الأمر ، كحال من يحاول من غيره فعلاً وهو يأبى أن يفعله .
والاستثناء مفرّغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبَى مجرَى نفي الإرادة ، كأنّه قال : ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره ، ذَلك أنّ فعل ( أبَى ) ونحوه فيه جانب نفي لأنّ إباية شيء جحد له ، فقَويَ جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله : { يريدون أن يطفئوا نور الله } . فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه . وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل « كَرِهْت إلاّ أخَاك » .
وجيء بهذا التركيب هنا لشدّة مماحكة أهل الكتاب وتصلّبهم في دينهم ، ولم يُجأْ به في سورة الصف ( 8 ) إذ قال : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره } لأنّ المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خُفية وفي لين وتملّق .
وذكر صاحب الكشاف عند قوله تعالى : { فشربوا منه إلا قليل منهم } في قراءة الأعمش وأبي برفع قليل في سورة البقرة ( 249 ) : أن ارتفاع المستثنى على البدلية من ضمير { فشربوا } على اعتبار تضمين { شربوا } معنى ، فلم يطعموه إلاّ قليل ، ميلاً مع معنى الكلام .
والإتمام مؤذن بالريادة والانتشار ولذلك لم يقل : ويأبى الله إلاّ أن يُبْقي نوره .
و { لو } في { ولو كره الكافرون } اتّصالية ، وهي تفيد المبالغة بأنّ ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفياً . والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية ، وهي التألّب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله . وأمّا مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله تعالى حتّى يبالَغ بها ، والكافرون هم اليهود والنصارى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.