جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ} (9)

وقوله : وَجَعَلْنا مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا يقول تعالى ذكره : وجعلنا من بين أيدي هؤلاء المشركين سدّا ، وهو الحاجز بين الشيئين إذا فتح كان من فعل بني آدم ، وإذا كان من فعل الله كان بالضمّ . وبالضمّ قرأ ذلك قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين . وقرأه بعض المكيين وعامة قرّاء الكوفيين بفتح السين سَدّا في الحرفين كلاهما والضم أعجب القراءتين إليّ في ذلك ، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة .

وعنى بقوله : وَجَعَلْنا مِن بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا أنه زيّن لهم سوء أعمالهم ، فهم يَعْمَهون ، ولا يبصرون رشدا ، ولا يتنبهون حقا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا قال : عن الحقّ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَجَعَلْنا مِنْ بين أيْديهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفهِمْ سَدّا عن الحقّ فهم يتردّدون .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجَعَلْنا مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ سدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا قال : ضلالات .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : وَجَعَلْنا مِنْ بَينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال : جعل هذا سدّا بينهم وبين الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ : وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وقرأ : إنّ الّذِينَ حَقّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ . . . الاَية كلها ، وقال : من منعه الله لا يستطيع .

وقوله : فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يقول : فأغشينا أبصار هؤلاء : أي جعلنا عليها غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا ينتفعون به ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ هُدًى ، ولا ينتفعون به .

وذُكر أن هذه الاَية نزلت في أبي جهل بن هشام حين حلف أن يقتله أو يشدخ رأسه بصخرة . ذكر الرواية بذلك :

حدثني عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا عُمارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا لأفعلنّ ولأفعلنّ ، فأنزلت : إنّا جَعَلْنا فِي أعْناقِهِمْ أغْلالاً . . . إلى قوله فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال : فكانوا يقولون : هذا محمد ، فيقول : أين هو ، أين هو ؟ لا يبصره .

وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : «فَأَعْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ » بالعين بمعنى أعشيناهم عنه ، وذلك أن العَشَا هو أن يمشي بالليل ولا يبصر .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ} (9)

{ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وبمن أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل . وقرأ حمزة والكسائي وحفص " سدا " بالفتح وهو لغة فيه ، وقيل ما كان بعف الناس فبالفتح وما كان بخلق الله فبالضم . وقرئ " فأعشيناهم " من العشاء . وقيل الآيتان في بني مخزوم حلف أبو جهل أن يرضخ رأس النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه ، فلما رفع يده انثت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد ، فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله بصره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ} (9)

وقرأ الجمهور «سُداً » بضم السين في الموضعين ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وطلحة وابن وثاب وعكرمة والنخعي وابن كثير «سَداً » بفتح السين ، وقال أبو علي : قال قوم هما بمعنى واحد أي حائلاً يسد طريقهم ، وقال عكرمة : ما كان مما يفعله البشر فهو بالضم وما كان خلقة فهو بالفتح .

قال القاضي أبو محمد : والسد ما سد وحال ، ومنه قول الأعرابي في صفة سحاب : طلع سد مع انتشار الطفل{[9773]} ، أي سحاب سد الأفق ، ومنه قولهم : جراد سد{[9774]} ، ومعنى الآية أن طريق الهدى سد دونهم ، وقرأ جمهور الناس «فأغشيناهم » بالغين منقوطة أي جعلنا على أعينهم غشاوة ، وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر وعمر بن عبد العزيز والنخعي وابن سيرين «فأعشيناهم » بالعين غير منقوطة ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي من العشى أي أضعفنا أبصارهم{[9775]} والمعنى { فهم لا يبصرون } رشداً ولا هدى ، وقرأ يزيد البربري «فأغشيتهم » بتاء دون ألف وبالغين منقوطة .


[9773]:جاء في اللسان(سدد):"أبو زيد: السد من السحاب: النشء الأسود، من أي أقطار السماء نشأ، والسد واحد السدود، وهي السحائب السود. ابن سيده: والسد: السحاب المرتفع الساد الأفق، والجمع سدود، قال: قعدت له وشيعني رجال وقد كثر المخايل والسدود وفيه أيضا(طفل):"طَفَل العشي: آخره عند غروب الشمس واصفرارها، يقال: أتيته طَفَلا، وطَفلت الشمس: دنت للغروب".
[9774]:قال في اللسان(سدد):"والسد: القطعة من الجراد تسد الأفق، قال الراجز: سيل الجراد السد يرتاد الخضر ويقال: جاءنا سد من جراد، وجاءنا جراد سد إذا سد الأفق من كثرته".
[9775]:ومن هذا المعنى قال الحطيئة: متى تأتيه تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد