جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (13)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّا مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ } . .

يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، لا تعجبنّ من هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك ، ونكثوا العهد الذي بينك وبينهم ، غدرا منهم بك وأصحابك ، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سلفهم ومن ذلك أنى أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى صلى الله عليه وسلم على طاعتي ، وبعثت منهم اثني عشر نقيبا وقد تُخيروا من جميعهم ليتجسسوا أخبار الجبابرة ، ووعدتهم النصر عليهم ، وأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، بعد ما أريتهم من العبر والاَيات بإهلاك فرعون وقومه في البحر وفَلْق البحر لهم وسائر العبر ما أريتم ، فنقضوا ميثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي ، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم فإذا كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديّ عندهم ، فلا تستنكروا مثله من فعل آراذلهم . وفي الكلام محذوف اكتفي بدلالة الظاهر عليه ، وذلك أن معنى الكلام : فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل ، فنقضوا الميثاق ، فلعنتهم ، فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم ، فاكتفى بقوله : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ من ذكر «فنقضوا » . ويعني بقوله جلّ ثناؤه : فبما نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ فبنقضهم ميثاقهم . كماقال قتادة .

حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ يقول : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : فَبما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ قال : هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه .

وقد ذكرنا معنى اللعن في غير هذا الموضع . والهاء والميم من قوله : فَبِما نَقْضِهِمْ عائدتان على ذكر بني إسرائيل قبل .

القول في تأويل قوله تعالى : وجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً .

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة : قاسِيَةً بالألف ، على تقدير فاعلة ، من قسوة القلب ، من قول القائل : قسا قلبه ، فهو يقسو وهو قاس ، وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسا صلبا ، كما قال الراجز :

*** وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتي ***

فتأويل الكلام على هذه القراءة : فلعنا الذين نقضوا عهدي ولم يفوا بميثاقي من بني إسرائيل بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني ، وجعلنا قلوبهم قاسية غليظة يابسة عن الإيمان بي والتوفيق لطاعتي ، منزوعة منها الرأفة والرحمة . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيةً » .

ثم اختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : معنى القسوة ، لأن فعيلة في الذمّ أبلغ من فاعلة ، فاخترنا قراءتها قسيّة على قاسية لذلك .

وقال آخرون منهم : بل معنى «قسية » غير معنى القسوة وإنما القسية في هذا الموضع القلوب التي لم يخلص إيمانها بالله ، ولكن يخالط إيمانها كفر كالدراهم القَسِية ، وهي التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص وغير ذلك ، كما قال أبو زُرَبيْد الطائي :

لَهَا صَوَاهِلُ في صُمّ السّلامِ كمَا ***صاحَ القَسِيّاتُ في أيدِي الصّيارِيفِ

يصف بذلك وقع مساحي الذين حفروا قبر عثمان على الصخور ، وهي السّلام .

وأعجب القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ : «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيّةً » على فعلية ، لأنها أبلغ في ذمّ القوم من قاسية .

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوّله فعيلة من القسوة ، كما قيل : نفس زكية وزاكية ، وامرأة شاهدة وشهيدة لأن الله جلّ ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به ، ولم يصفهم بشيء من الإيمان ، فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غشّ .

القول في تأويل قوله تعالى : يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ .

يقول عزّ ذكره : وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودنا من بني إسرائيل قسية ، منزوعا منها الخير ، مرفوعا منها التوفيق ، فلا يؤمنون ، ولا يهتدون ، فهم لنزع الله عزّ وجلّ التوفيق من قلوبهم والإيمان يحرّفون كلام ربهم الذي أنزله على نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم ، وهو التوراة ، فيبدّلونه ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جلّ وعزّ على نبيهم ويقولون لجهال الناس : هذا هو كلام الله الذي أنزله على نفسه موسى صلى الله عليه وسلم والتوراة التي أوحاها إليه . وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود ممن أدرك بعضهم عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله عزّ ذكره أدخلهم في عداد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرك موسى منهم ، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله والفرية عليه ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ يعني : حدود الله في التوراة ، ويقولون : إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه ، وإن خالفكم فاحذروا .

القول في تأويل قوله تعالى : وَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ .

يني تعالى ذكره بقوله : وَنَسُوا حَظّا : وتركوا نصيبا ، وهو كقوله : نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ أي تركوا أمر الله فتركهم الله وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فأغني ذلك عن إعادته .

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ يقول : تركوا نصيبا .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله : وَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ قال : تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله جلّ ثناؤه التي لا تقبل الأعمال إلا بها .

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ .

يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تزال يا محمد تطلع من اليهود الذين أنبأتك نبأهم من نقضهم ميثاقي ، ونكثهم عهدي ، مع أياديّ عندهم ، ونعمتي عليهم ، على مثل ذلك من الغدر والخيانة ، إلا قليلاً منهم . والخائنة في هذا الموضع : الخيانة ، وهو اسم وضع موضع المصدر ، كما قيل خاطئة : للخطيئة ، وقائلة : للقيلولة .

وقوله : إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ اسثناء من الهاء والميم اللتين في قوله : على خائِنَةٍ مِنْهُمْ .

وبنحو الذين قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ولاَ تَزَالُ تَطّلِعُ على خائنَةٍ مِنْهُمْ قال : على خيانة وكذب وفجور .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ قال : هم يهود مثل الذي همّوا به من النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخل حائطهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .

حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد وعكرمة : قوله : وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ من يهود مثل الذي همّوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم .

وقال بعض القائلين : معنى ذلك : ولا تزال تطلع على خائن منهم ، قال : والعرب تزيد الهاء في آخر المذكر كقولهم : هو رواية للشعر ، ورجل علامة ، وأنشد :

حَدّثْتَ نفسَكَ بالوَفاءِ ولم تكُنْ ***للغدْرِ خائنةً مُغِلّ الإصْبَعِ

فقال خائنة ، وهو يخاطب رجلاً .

والصواب من التأويل في ذلك القول الذي رويناه عن أهل التأويل ، لأن الله عنى بهذه الاَية القوم من يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريين ، فأطلعه الله عزّ ذكره على ما قد همّوا به . ثم قال جلّ ثناؤه بعد تعريفه أخبار أوائلهم وإعلامه منهج أسلافهم وأن آخرهم على منهاج أوّلهم في الغدر والخيانة ، لئلا يكبر فعلهم ذلك على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال جلّ ثناؤه : ولا تزال تطلع من اليهود على خيانة وغدر ونقض عهد . ولم يرد أنه لا يزال يطلّع على رجل منهم خائن ، وذلك أن الخبر ابتدىء به عن جماعتهم ، فقيل : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمح إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ ، ثم قيل : وَلا تَزَالَ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ ، فإذ كان الابتداء عن الجماعة فلتختم بالجماعة أولى .

القول في تأويل قوله تعالى : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنينَ .

وهذ أمر من الله عزّ ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء القوم الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود ، يقول الله جلّ وعزّ له : اعف يا محمد عن هؤلاء اليهود الذين همّوا بما همّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل ، واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرّض لمكروههم ، فإني أحبّ من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه . وكان قتادة يقول : هذه منسوخة ، ويقول : نسختها آية براءة : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . الاَية .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ قال : نسختها : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنِينَ ولم يؤمر يؤمئذٍ بقتالهم ، فأمره الله عزّ ذكره أن يعفو عنهم ويصفح ، ثم نسخ ذلك في براءة فقال : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وهم أهل الكتاب . فأمر الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتى يسلموا ، أو يقرّوا بالجزية .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليم ، قال : قرأت على ابن أبي عروبة ، عن قتادة نحوه .

والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانه ، غير أن الناسخ الذي لا شكّ فيه من الأمر ، هو ما كان نافيا كلّ معاني خلافه الذي كان قبله . فأما ما كان غير ناف جميعه ، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جلّ وعزّ ، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم . وليس في قوله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ دلالة على الأمر بنفي معاني الصفح والعفو عن اليهود . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان جائزا مع إقرارهم بالصّغار وأدائهم الجزية بعد القتال ، الأمر بالعفو عنهم في غدرة هموا بها أو نكثة عزموا عليها ، ما لم ينصبوا حربا دون أداء الجزية ، ويمتنعوا من الأحكام اللازمة منهم ، لم يكن واجبا أن يحكم لقوله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . الاَية ، بأنه ناسخ قوله : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنِينَ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (13)

{ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم } طردناهم من رحمتنا ، أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية . { وجعلنا قلوبهم قاسية } لا تنفعل عن الآيات والنذر . وقرأ حمزة والكسائي " قسية " وهي إما مبالغة { قاسية } أو بمعنى رديئة من قولهم درهم قسي إذا كان مغشوشا ، وهو أيضا من القسوة فإن المغشوش فيه يبس وصلابة وقرئ " قسية " بإتباع القاف للسين . { يحرفون الكلم عن مواضعه } استئناف لبيان قسوة قلوبهم ، فإنه لا قسوة أشد من تغيير كلام الله سبحانه وتعالى والافتراء عليه ، ويجوز أن يكون حالا من مفعول { لعناهم } لا من القلوب إذ لا ضمير له فيه . { ونسوا حظا } وتركوا نصيبا وافيا . { مما ذكروا به } من التوراة ، أو من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أنهم حرفوا التوراة وتركوا حظهم مما أنزل عليهم فلم ينالوه ، وقيل معناه أنهم حرفوها فزلت بشؤمه أشياء منها عن حفظهم ، لما روي أن ابن مسعود قال : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية . { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } خيانة منهم ، أو فرقة خائنة أو خائن والتاء للمبالغة . والمعنى أن الخيانة والغدر من عادتهم وعادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم . { إلا قليلا منهم } لم يخونوا وهم الذين آمنوا منهم ، وقيل استثناء من قوله : { وجعلنا قلوبهم قاسية } { فاعف عنهم واصفح } إن تابوا وآمنوا أو عاهدوا والتزموا الجزية . وقيل : مطلق نسخ بآية السيف . { إن الله يحب المحسنين } تعليل للأمر بالصفح وحث عليه وتنبيه على أن العفو عن الكافر الخائن إحسان فضلا عن العفو عن غيره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (13)

يحتمل أن تكون «ما » زائدة والتقدير «فبنقضهم »{[4489]} ويحتمل أن تكون اسماً نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة ، التقدير : فبفعل هو نقضهم للميثاق ، وهذا هو المعنى في هذا التأويل ، وقد تقدم في النساء نظير هذا ، و { لعناهم } معناه بعدناهم من الخير أجمعه ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية » بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية » دون ألف ، وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم }{[4490]} وقوله : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك }{[4491]} والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ، ومن قرأ قسيه فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية » ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم ، وهي التي خالطها غش وتدليس ، فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد :

لها صواهل في صم السلام كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف{[4492]}

ومنه قول الآخر :

فما زوداني غير سحق عمامة *** وخمس مئىًء منها قسي وزائف{[4493]}

قال أبو علي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب ، واختلف العلماء في معنى قوله : { يحرفون الكلم } فقال قوم منهم ابن عباس ، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارىء يده عليها ، وقالت فرقة : بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضاً وفعلوا الأمرين جميعاً بحسب ما أمكنهم .

قال القاضي أبو محمد : وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم }{[4494]} يقتضي التبديل . ولا شك أنهم فعلوا الأمرين . وقرأ جمهور الناس «الكَلِم » بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام » بالألف وقرأ أبو رجاء . «الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام ، وقوله تعالى : { ونسوا حظاً مما ذكروا به } نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه ، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع { على خائنة منهم } وغائلة وأمور فاسدة ، واختلف الناس في معنى { خائنة } في هذا الموضع فقالت فرقة { خائنة } مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى : { فأهلكوا بالطاغية }{[4495]} فالمعنى على خيانة ، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث ، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر :

حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة ُمغَّل الاصبع{[4496]}

وقرأ الأعمش : «على خيانة منهم » ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص ، ويحتمل أن يكون في الأفعال ، وقوله تعالى : { فاعف عنهم واصفح } منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية{[4497]} وباقي الآية وعد على الإحسان .


[4489]:-قال قتادة وسائر أهل العلم كما ذكره القرطبي، وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى: تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد، كما قال: * لشيء ما ُيَسَّود من يسود*
[4490]:- من الآية (22) من سورة (الزمر).
[4491]:- من الآية (74) من سورة (البقرة).
[4492]:- نسبه في (اللسان) لأبي زبيد أيضا، وكذلك في (التاج)- لكن محقق القرطبي قال: هو لأبي زيد الطائي، ولعله خطأ مطبعي، والصواهل: جمع الصاهلة، مصدر على فاعلة، من الصهيل وهو الصوت، والشاعر يصف وقع المساحي في =الحجارة، وما تحدثه من صوت، والسلام- بكسر السين-: الحجر، والقسيّات – بفتح القاف: الدراهم الزائفة، والصياريف: الذين يبدلون الدراهم.
[4493]:- البيت لمزرّد، كما في (اللسان)- والرواية فيه: "فما زودوني" وسحق عمامة: يريد عمامة خلقة بالية- من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهذا كقولهم: سحق ثوب، وجرد ثوب، وسمل ثوب: أي ثوب خلق.
[4494]:- من الآية (79) من سورة (البقرة).
[4495]:- من قوله تعالى في الآية (5) من سورة (الحاقة): {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية}.
[4496]:- هذا البيت للكلابي، وهو فيه يخاطب "قرينا" أخا "عمير الحنفي"، وكان له عنده دم- وقبله: أقرين إنك لو رأيت فوارسي َنَعما يبتن إلى جوانب َصْلقع
[4497]:-وهو قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}، وقيل: منسوخ بآية السيف، وقيل بقوله: {وإما تخافنّ من قوم خيانة}- وقال ابن جرير: يجوز أن يعفو عنهم في غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا ولم يمتنعوا من أداء جزية، وقيل: الضمير عائد على من آمن منهم، أي: عائد على المستثنين وهم القليل، والله أعلم.