{ إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّبِعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ }
يعني تعالى ذكره بقوله : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا ورَأوُا العَذَاب ، إذ تبرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا .
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا فقال بعضهم بما :
حدثنا به بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا وهم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشرك ، مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا وهم الأتباع الضعفاء ، ورَأَوُا العَذَابَ .
حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا قال : تبرأت القادة من الأتباع يوم القيامة .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا قال : تبرأ رؤساؤهم وقادتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم .
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا أما الذين اتبعوا فهم الشياطين تبرّءوا من الإنس .
قال أبو جعفر : والصواب من القول عندي في ذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن المتّبعينَ على الشرك بالله يتبرّءون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله ولم يخصص بذلك منهم بعضا دون بعض ، بل عمّ جميعهم ، فدخل في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتبعونه على الضلال في الدنيا إذا عاينوا عذاب الله في الاَخرة .
وأما دلالة الآية فيمن عنى بقوله : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِين اتّبَعُوا فإنها إنما تدلّ على أن الأنداد الذين اتخذهم من دون الله مَن وصف تعالى ذكره صفته بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدَادا هم الذين يتبرّءون من أتباعهم . وإذا كانت الآية على ذلك دالة صحّ التأويل الذي تأوّله السدي في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُون اللّهِ أنْدَادا ، أن الأنداد في هذا الموضع إنما أريد بها الأنداد من الرجال الذين يطيعونهم فيما أمروهم به من أمر ، ويعصون الله في طاعتهم إياهم ، كما يطيع الله المؤمنون ويعصون غيره ، وفسد تأويل قول من قال : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا إنهم الشياطين تبرّءوا من أوليائهم من الإنس لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن متخذي الأنداد .
القول في تأويل قوله تعالى : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ .
يعني تعالى ذكره بذلك : أن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا ، وإذ تقطعت بهم الأسباب .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الأسباب . فقال بعضهم بما :
حدثني به يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، وثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبيد المكتب ، عن مجاهد : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : الوصال الذي كان بينهم في الدنيا .
حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن عبيد المكتب ، عن مجاهد : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : تواصُلهم في الدنيا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد جميعا ، قالا : حدثنا سفيان ، عن عبيد المكتب ، عن مجاهد بمثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : المودّة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : تواصل كان بينهم بالمودة في الدنيا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، قال : أخبرني قيس بن سعد ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : المودّة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ أسباب الندامة يوم القيامة ، وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها ويتحابون بها ، فصارت عليهم عداوة يوم القيامة ( ثمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا ) ويتبرأ بعضكم من بعض ، وقال الله تعالى ذكره : ( الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إلاّ المُتّقِين ) فصارت كل خلة عداوة على أهلها ، إلا خلة المتقين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : هو الوصل الذي كان بينهم في الدنيا .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ يقول : الأسباب : الندامة .
وقال بعضهم : بل معنى الأسباب : المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ يقول : تقطعت بهم المنازل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : الأسباب : المنازل .
وقال آخرون : الأسباب : الأرحام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، وقال ابن عباس : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : الأرحام .
وقال آخرون : الأسباب : الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أمّا ( وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ ) فالأعمال .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : أسباب أعمالهم ، فأهل التقوى أعطوا أسباب أعمالهم وثيقة فيأخذون بها فينجون ، والاَخرون أعطوا أسباب أعمالهم الخبيثة فتقطع بهم فيذهبون في النار . قال : والأسباب : الشيء يتعلق به . قال : والسبب الحبل ، والأسباب جمع سبب ، وهو كل ما تسبب به الرجل إلى طلبته وحاجته ، فيقال للحبل سبب لأنه يتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا بالتعلق به ، ويقال للطريق سبب للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه ، وللمصاهرة سبب لأنها سبب للحرمة ، وللوسيلة سبب للوصول بها إلى الحاجة ، وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة فهو سبب لإدراكها .
فإذا كان ذلك كذلك فالصواب من القول في تأويل قوله : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن الذين ظلموا أنفسهم من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار يتبرأ عند معاينتهم عذاب الله المتبوع من التابع ، وتتقطع بهم الأسباب . وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بعضهم يلعن بعضا ، وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه : ( ما أنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) وأخبر تعالى ذكره أن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ، وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضا ، فقال تعالى ذكره : ( وَقِفُوهُمْ إنّهُمْ مَسْئُولُونَ ما لَكُمْ لا تَناصَرون ) وأن الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه ، وإن كان نسيبه لله وليا ، فقال تعالى ذكره في ذلك : ومَا كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَتَبّرأ مِنْهُ ، وأخبر تعالى ذكره أن أعمالهم تصير عليهم حسرات . وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب ، فقطع الله منافعها في الاَخرة عن الكافرين به لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه ، فهي منقطعة بأهلها فلا خِلال بعضهم بعضا ينفعهم عند ورودهم على ربهم ولا عبادتهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم ، ولا دافعت عنهم أرحام فنصرتهم من انتقام الله منهم ، ولا أغنت عنهم أعمالهم بل صارت عليهم حسرات ، فكل أسباب الكفار منقطعة ، فلا معنى أبلغ في تأويل قوله : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ من صفة الله ، وذلك ما بينا من جميع أسبابهم دون بعضها على ما قلنا في ذلك . ومن ادّعى أن المعنى بذلك خاص من الأسباب سئل عن البيان على دعواه من أصل لا منازع فيه ، وعورض بقول مخالفه فيه ، فلن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله .
{ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } بدل من { إذ يرون } أي : إذ تبرأ المتبوعون من الأتباع . وقرئ بالعكس ، أي تبرأ الأتباع من الرؤساء { ورأوا العذاب } أي رائين له ، والواو للحال ، وقد مضمرة . وقيل ؛ عطف على تبرأ { وتقطعت بهم الأسباب } يحتمل العطف على تبرأ ، أو رأوا والواو للحال ، والأول أظهر . و{ الأسباب } : الوصل التي كانت بينهم من الأتباع والاتفاق على الدين ، والأغراض الداعية إلى ذلك . وأصل السبب : الحبل الذي يرتقي به الشجر . وقرئ و{ تقطعت } على البناء للمفعول .