لقد بين - سبحانه - جانبا من رذائلهم ، ومن العقوبات التي عاقبهم بها بسبب فسوقهم عن أمره فقال : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } .
والفاء في قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم } للتفريع على ما تقدم من الحديث عنهم ، والباء للسبيبة و " ما " مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس والجار والمجرور - متعلق بقوله : { لَعنَّاهُمْ } .
وقوله : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } معطوف على ما قبله .
وقوله : { قَاسِيَةً } بوزن فاعلة - من القسوة بمعنى الصلابة واليبوسة يقال : قسا قلبه يقسو فهو قاس ، إذا غلظ واشتد وصار يابسا صلبا .
وقساوة القلب هنا مجاز عن عدم تأثره بالمواعظ والترغيب والترهيب .
أي فبسبب جرائمهم الشديدة أبعدناهم من رحمتنا وجعلنا قلوبهم يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تتأُر بالمواعظ والنذر .
وقرأ حمزة والكسائي : { وجعلنا قلوبهم قسية } بتشديد الياء من غير ألف على وزن فعيلة .
أحدهما : { قسية } بمعنى قاسية ، غير أن فيها مبالغة ، إذ هي على وزن فعيلة ، وهذه الصفة تدل على تمكن صفة القسوة من قلوبهم .
والثاني : أن معنى { قسية } هنا غير معنى قاسية ، لأن قسية في هذا الموضع مأخوذة من قولهم : درهم قسى - على وزن شقى - أي : فاسد رديء لأنه مغشوش بنحاس أو غيره مما يخلو منه الدرهم السليم .
والمعنى على هذا الوجه : وجعلنا قلوبهم إيمانها ليس خالصا وإنما يخالطه كفر ونفاق كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص أو غيرهما .
وقد رجح ابن جرير الرأي الأول - وهو أن قسية بمعنى قاسية غير أن فيها مبالغة - فقال ( وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من تأول فعيلة من القسوة كما قيل : نفس زكية وزاكية ، وامرأة شاهدة وشهيدة ، لأن الله - تعالى - وصف القوم بنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم به ، ولم يصفهم بشيء من الإِيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش ) .
وأما صاحب الكشاف فقد رد التفسير الثاني إلى الأول وجعل بينهما تعانقا وتلازماً في المعنى فقال : وقرأ عبد الله { قسية } أي : ردية مغشوشة . من قولهم : درهم قسى وهو من القسوة ، لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين ، والمغشوش فيه يبس وصلابة .
وقوله : { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } استئناف مبين لشدة قساوة قلوبهم ، فإنه لا قسوة أشد من تحريف كلام الله - تعالى - والميل به عن الحق والصواب .
أي : أنهم بلغ بهم الحال في قسوة قلوبهم ، وعدم تأثرها بوعيد الله أنهم يميلون كلامه - سبحانه - عن الموضع الذي نزل فيه ولأجله عن طريق التأويل الباطل ، أو التفسير الفاسد ، أو التبديل للألفاظ بالزيادة تراة وبالنقصان أخرى ، على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم الممقوتة .
وعبر - سبحانه - بقوله : { يُحَرِّفُونَ } بصيغة الفعل المضارع ، لاستحضار صورة هؤلاء المحرفين . والدلالة على أن أبناءهم قد نهجوا نهج آبائهم في هذا الخلق الذميم .
فإن هذا التحريف الذي حكاه الله - تعالى - في هذه الآية قد كان من بني إسرائيل بعد عهد موسى - عليه السلام - واستمروا على ذلك دون أن يصدهم عنه ما كان من نصح النبي صلى الله عليه وسلم لهم ومن تحذيره إياهم .
والمراد بالنسيان في قوله : { وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } الترك والإِهمال قال الراغب : ( النسيان : ترك الإِنسان ضبط ما استودع . إما لضعف قلبه ، وإما عن غفلة ، وإما عن قصد حتى يزول عن القلب ذكره ) .
والأنواع الثلاثة التي ذكرها الراغب كأسباب للنسيان قد فعلها بنو إسرائيل فهم قد أصابتهم الغفلة عن تدبر كتابهم والعمل بما فيه بسبب ضعف قلوبهم ، واستيلاء المطامع والشهوات عليها وأهملوا أمر دينهم وشريعتهم ولم يقيدوا أنفسهم بها عن تعمد وإصرار ، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على دين الله وهذا ما تأباه نفوسهم الجامحة وشهواتهم العارمة .
والتنكير في قوله { حَظَّا } للتكثير والتهويل . أي : تركوا نصيبا كبيراً مما أمرتهم به شريعتهم وذكرتهم به توراتهم من وجوب اتباعهم للحق وإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - عند ظهوره .
وهذه الجملة الكريمة وما يشبهها مما أورده القرآن في هذا المعنى تعتبر من المعجزات الدالة على صدق القرآن الكريم فإن الناس قبل البعثة النبوية الشريفة لم يكونوا يعرفون أن اليهود نسوا حظا كبيرا مما ذكرتهم به توراتهم ، فلما بين القرآن ذلك ، عرفوا ما لم يكونوا يعرفونه من قبل .
ولما كانت أخلاق الآباء كثيراً ما يتوارثها الأبناء ، فقد رأينا القرآن الكريم يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود المعاصرين له ، والذين ورثوا رذائل آبائهم فقال : { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } .
وقوله { خَآئِنَةٍ } بمعنى الخيانة أي عدم الوفاء بالعهد . فهي مصدر على وزن فاعله كالعافية والطاغية . قال - تعالى - { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } أي بالطغيان . ويحتمل أن يكون قوله { خائنة } صفة لموصوف محذوف أي على فرقة خائنة أو طائفة .
والمعنى : ولا تزال - أيها الرسول الكريم - ترى في هؤلاء اليهود المعاصرين لك صورة السابقين في الغدر والخيانة . وإن تباعدت الأزمان فهؤلاء الذين يعاصرونك فيهم خيانة أسلافهم ، وغدرهم ونقضهم لعهودهم . إلا قليلا منهم دخلوا في الإِسلام فوفوا بعهودهم ولم يكونوا ناقضين لها .
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم عما لقيه من اليهود المعاصرين له من كيد ومكر وخيانة . فكأنه الله - تعالى - يقول له إن ما تراه منهم من غدر وخداع ليس شيئاً مستبعداً ، بل هو طبيعة فيهم ورثوها عن آبائهم منذ زمن بعيد : وفيها - أيضاً - تحذير له صلى الله عليه وسلم من شرورهم ومن مسالكم الخبيثة لكيد الإِسلام والمسلمين فإن التعبير بقوله { وَلاَ تَزَال } المفيد للدوام والاستمرار يدل على استمرار خيانتهم ودوام نقضهم لعهودهم ومواثيقهم .
وقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } استثناء من الضمير المجرور في قوله { خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } والمراد بهذا العدد القليل منهم ، أولئك الذين دخلوا في الإِسلام ، واتبعوا الحق كعبد الله بن سلام وأمثاله .
ثم ختم سبحانه - الآية بقوله : { فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } والعفو عدم مقابلة الإِساءة بمثلها .
والصفح : ترك اللوم والمعاتبة . ولذا قالوا : الصفح أعلى رتبة من العفو ، لأن العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهراً . أما الصفح فهو يتناول السماحة النفسية واعتبار الإِساءة كأن لم تكن في الظاهر والباطن .
وللعلماء أقوال في المراد بالذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح عنه :
1 - فيرى بعضهم أن المراد بهم ، القلة اليهودية التي أسلمت ، واستثناها الله بقوله { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } وهذا الرأي مردود بأنهم ما داموا قد آمنوا ، فقد عصموا دماءهم وأموالهم ، ولم يصبح للعفو والصفح عنهم موضع .
2 - ويرى آخرون أن الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح عنهم هم كافة اليهود ، إلا أن الآية نسخت بآية التوبة وهي قوله { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وهذا الرأي ضعيف لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين وهو غير متعذر - كما سنبين .
3 - ويرى أبو مسلم أن المراد بهم اليهود الذين بقوا على كفرهم ولكنهم لم ينقضوا عهودهم .
والذي نراه أولى أن العفو والصفح عام لليهود ، وأن من مظاهر ذلك مسالمتهم ومساكنتهم ، ومجادلتهم بالتي هي أحسن ومعاملتهم بمبدأ لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، مع العفو عن زلاتهم التي لا تؤثر على كيان الدعوة الإِسلامية .
فإذا ما نقضوا عهودهم وخانوا الله ورسوله والمؤمنين ، وأصبح العفو عنهم فيه مضرة بالمسلمين ففي هذه الحالة تجب معاملتهم بالطريقة التي تقى المسلمين شرورهم ، لأن العفو عنهم - عند استلزام قتالهم للدفاع عن النفس وعن العقيدة - يكون إلقاء بالنفس إلى التهلكة ويكون قد وضع العفو في غير موضعه . وهذا القول يقارب ما ذهب إليه أبو مسلم . وربما اعتبر توضيحاً له . فكأن الله - تعالى - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم فاعف عن هؤلاء اليهود الذين ورثوا الخيانة عن آبائهم ، واصفح عن زلاتهم التي لا تؤثر في سير الدعوة الإِسلامية إلى الوقت المناسب لمحاسبتهم ، إن الله تعالى يحب المحسنين .
وبذلك نرى السورة الكريمة قد بينت جانباً مما أخذ الله على بني إسرائيل من عهود ومواثيق ، ورغَّبتهم في الوفاء بها وحذرتهم . من نقضها ، كما بينت بعض العقوبات التي عاقبتهم الله بها بسبب فسوقهم عن أمره ورسمت للنبي صلى الله عليه وسلم طريق معالجتهم ومعاملتهم بما يقي المسلمين من شرورهم ومكرهم .
قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم } قد تقدّم الكلام على نظيره في قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرِهم } [ النساء : 155 ] ، وقوله : { فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات } في سورة النّساء ( 160 ) .
واللعن هو الإبعاد ، والمراد هنا الإبعادُ من رحمة الله تعالى ومن هديه إذ استوجبوا غضب الله لأجل نقض الميثاق .
{ وجَعلنا قلوبهم قاسية } قساوة القلب مجاز ، إذْ أصلها الصلابة والشدّة ، فاستعيرت لعدم تأثّر القلوب بالمواعظ والنذر . وقد تقدّم في قوله تعالى : { ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك } [ البقرة : 74 ] . وقرأ الجمهور : { قاسية } بصيغة اسم الفاعل . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { قَسِيَّة } فيكون بوزن فَعِيلة من قَسَا يَقْسو .
وجملة { يُحرّفون الكَلِم عن مواضعه } استئناف أو حال من ضمير { لَعنّاهم } . والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف ، والحرف هو الجانب . وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلّق به إلى معاني العمل والهُدى وضدّه ؛ فمن ذلك قولهم : السلوك ، والسيرة ؛ والسعي ؛ ومن ذلك قولهم : الصراط المستقيم ، وصراطاً سوياً ، وسواء السبيل ، وجادّة الطريق ، والطريقة الواضحة ، وسواء الطريق ؛ وفي عكس ذلك قالوا : المراوغة ، والانحراف ، وقالوا : بنيَّات الطريق ، ويعْبُد الله على حرف ، ويشعِّبُ الأمور . وكذلك ما هنا ، أي يعدلون بالكلم النبويّة عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها ، وهو تبديل معاني كتبهم السماوية . وهذا التحريف يكون غالباً بسوء التأويل اتّباعاً للهوى ، ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواة العامّة ، قيل : ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم . وعن ابن عبّاس : ما يدلّ على أنّ التحريف فساد التأويل . وقد تقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى : { من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } في سورة النساء ( 46 ) . وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم .
وجملة { ونسوا حظّاً } معطوفة على جملة { يحرّفون } . والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالباً . وعبّر عنه بالفعل الماضي لأنّ النسيان لا يتجدّد ، فإذا حصل مضى ، حتّى يُذكّره مُذكِّر . وهو وإن كان مراداً به الإهمال فإنّ في صوغه بصيغة الماضي ترشيحاً للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى .
والحظّ النصيب ، وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذمّ . وما ذكّروا به هو التّوراة .
وقد جمعت الآية من الدلائل على قلّة اكتراثهم بالدّين ورقّة اتِّباعهم ثلاثة أصول من ذلك : وهي التعمّد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال ، والغرور بسوء التأويل ، والنسيان الناشىءُ عن قلّة تعهّد الدّين وقلّة الاهتمام به .
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها . وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف ، فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقاباً للتمييز بينها ، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس : يجوز أن يقال : هو دين الله ، ولا يجوز أن يُقال : قاله الله .
وقوله : { ولا تزال تطّلع على خائنة منهم } انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النّبيء صلى الله عليه وسلم وفِعل { لا تزال } يدلّ على استمرار ، لأنّ المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنّه في قوة أن يقال : يدوم اطّلاعك . فالاطّلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر ، والاطّلاع هنا كناية عن المطّلع عليه ، أي لا يزالون يخونون فتطّلع على خيانتهم .
والاطّلاع افتعال من طَلع . والطلوع : الصعود . وصيغة الافتعال فيه لمجرّد المبالغة ، إذ ليس فعله متعدّياً حتّى يصاغ له مطاوع ، فاطّلع بمنزلة تطّلع ، أي تكلّف الطلوع لقصد الإشراف . والمعنى : ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم .
والخائنة : الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة ، كالعاقبة ، والطاغية . ومنه { يعلم خائنة الأعين } [ غافر : 19 ] . وأصْل الخيانة : عدم الوفاء بالعهد ، ولعلّ أصلها إظهار خلاف الباطن . وقيل : { خائنة } صفة لمحذوف ، أي فرقة خائنة .
واستثنى قليلاً منهم جُبلوا على الوفاء ، وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب ، قال تعالى : { وأنزَل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم } [ الأحزاب : 26 ] . وأمْره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق ، وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنّبيء صلى الله عليه وسلم وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدّينية ، فلا يعارض هذا قوله في براءة { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] لأنّ تلك أحكام التصرّفات العامّة ، فلا حاجة إلى القول بأنّ هذه الآية نسخت بآية براءة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم}: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم بالمسخ، {وجعلنا قلوبهم قاسية}: قست قلوبهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، {يحرفون الكلم عن مواضعه}، والكلم صفة محمد صلى الله عليه وسلم، {ونسوا حظا مما ذكروا به}، وذلك أن الله عز وجل أخذ ميثاق بني إسرائيل في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويصدقوا به، وهو مكتوب عندهم في التوراة، فلما بعثه الله عز وجل كفروا به وحسدوه، وقالوا: إن هذا ليس من ولد إسحاق، وهو من ولد إسماعيل، فقال الله عز وجل: {ولا تزال تطلع على خائنة منهم}: وهو الغش للنبي صلى الله عليه وسلم، {إلا قليلا منهم}، والقليل مؤمنيهم عبد الله بن سلام وأصحابه. يقول الله عز وجل: {فاعف عنهم واصفح}، حتى يأتي الله بأمره في أمر بني قريظة والنضير، فكان أمر الله فيهم القتل والسبي والجلاء، يقول: فاعف عنهم حتى يأتي، يعني يجيء ذلك الأمر، فبلغوه فسبوا وأجلوا، فصارت آية العفو والصفح منسوخة، نسختها آية السيف في براءة، فلما جاء ذلك الأمر قتلهم الله تعالى وسباهم وأجلاهم، {إن الله يحب المحسنين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تعجبنّ من هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك، ونكثوا العهد الذي بينك وبينهم، غدرا منهم بك وأصحابك، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سلفهم؛ ومن ذلك أنى أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى صلى الله عليه وسلم على طاعتي، وبعثت منهم اثني عشر نقيبا وقد تُخيروا من جميعهم ليتجسسوا أخبار الجبابرة، ووعدتهم النصر عليهم، وأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، بعد ما أريتهم من العبر والآيات بإهلاك فرعون وقومه في البحر وفَلْق البحر لهم وسائر العبر ما أريتم، فنقضوا ميثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم، فإذا كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديّ عندهم، فلا تستنكروا مثله من فعل أراذلهم. وفي الكلام محذوف اكتفي بدلالة الظاهر عليه، وذلك أن معنى الكلام: فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل، فنقضوا الميثاق، فلعنتهم، فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم، فاكتفى بقوله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ من ذكر «فنقضوا». ويعني بقوله جلّ ثناؤه:"فبما نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ": فبنقضهم ميثاقهم.
"وجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً": اختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة: قاسِيَةً بالألف، على تقدير فاعلة، من قسوة القلب، من قول القائل: قسا قلبه، فهو يقسو وهو قاس، وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسا صلبا...
فتأويل الكلام على هذه القراءة: فلَعَنّا الذين نقضوا عهدي ولم يفوا بميثاقي من بني إسرائيل بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني، وجعلنا قلوبهم قاسية غليظة يابسة عن الإيمان بي والتوفيق لطاعتي، منزوعة منها الرأفة والرحمة.
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيةً».
ثم اختلف الذين قرؤوا ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: معنى ذلك: معنى القسوة، لأن فعيلة في الذمّ أبلغ من فاعلة، فاخترنا قراءتها قسيّة على قاسية لذلك.
وقال آخرون منهم: بل معنى «قسية» غير معنى القسوة وإنما القسية في هذا الموضع القلوب التي لم يخلص إيمانها بالله، ولكن يخالط إيمانها كفر كالدراهم القَسِية، وهي التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص وغير ذلك... وأعجب القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ: «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيّةً» على فعلية، لأنها أبلغ في ذمّ القوم من قاسية.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوّله فعيلة من القسوة، كما قيل: نفس زكية وزاكية، وامرأة شاهدة وشهيدة لأن الله جلّ ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به، ولم يصفهم بشيء من الإيمان، فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غشّ.
"يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ": وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودنا من بني إسرائيل قسية، منزوعا منها الخير، مرفوعا منها التوفيق، فلا يؤمنون، ولا يهتدون، فهم لنزع الله عزّ وجلّ التوفيق من قلوبهم والإيمان يحرّفون كلام ربهم الذي أنزله على نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة، فيبدّلونه ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جلّ وعزّ على نبيهم ويقولون لجهال الناس: هذا هو كلام الله الذي أنزله على نفسه موسى صلى الله عليه وسلم والتوراة التي أوحاها إليه. وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود ممن أدرك بعضهم عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عزّ ذكره أدخلهم في عداد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرك موسى منهم، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله والفرية عليه ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة. "وَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ": وَنَسُوا حَظّا: وتركوا نصيبا، وهو كقوله: "نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ "أي تركوا أمر الله فتركهم الله.
عن الحسن في قوله: وَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ قال: تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله جلّ ثناؤه التي لا تقبل الأعمال إلا بها.
"وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ":
يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تزال يا محمد تطلع من اليهود الذين أنبأتك نبأهم من نقضهم ميثاقي، ونكثهم عهدي، مع أياديّ عندهم، ونعمتي عليهم، على مثل ذلك من الغدر والخيانة، إلا قليلاً منهم. والخائنة في هذا الموضع: الخيانة، وهو اسم وضع موضع المصدر، كما قيل خاطئة: للخطيئة، وقائلة: للقيلولة.
وقوله: "إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ "استثناء من الهاء والميم اللتين في قوله: "على خائِنَةٍ مِنْهُمْ".
عن قتادة، في قوله: ولاَ تَزَالُ تَطّلِعُ على خائنَةٍ مِنْهُمْ قال: على خيانة وكذب وفجور... مثل الذي همّوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم.
والصواب من التأويل في ذلك القول الذي رويناه عن أهل التأويل، لأن الله عنى بهذه الآية القوم من يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريين، فأطلعه الله عزّ ذكره على ما قد همّوا به. ثم قال جلّ ثناؤه بعد تعريفه أخبار أوائلهم وإعلامه منهج أسلافهم وأن آخرهم على منهاج أوّلهم في الغدر والخيانة، لئلا يكبر فعلهم ذلك على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال جلّ ثناؤه: ولا تزال تطلع من اليهود على خيانة وغدر ونقض عهد.
"فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنينَ":
وهذ أمر من الله عزّ ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء القوم الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود، يقول الله جلّ وعزّ له: اعف يا محمد عن هؤلاء اليهود الذين همّوا بما همّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرّض لمكروههم، فإني أحبّ من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه. وكان قتادة يقول: هذه منسوخة، ويقول: نسختها آية براءة: "قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ..."...
والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانه، غير أن الناسخ الذي لا شكّ فيه من الأمر، هو ما كان نافيا كلّ معاني خلافه الذي كان قبله. فأما ما كان غير ناف جميعه، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جلّ وعزّ، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس في قوله: "قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ" دلالة على الأمر بنفي معاني الصفح والعفو عن اليهود. وإذ كان ذلك كذلك، وكان جائزا مع إقرارهم بالصّغار وأدائهم الجزية بعد القتال، الأمر بالعفو عنهم في غدرة هموا بها أو نكثة عزموا عليها، ما لم ينصبوا حربا دون أداء الجزية، ويمتنعوا من الأحكام اللازمة منهم، لم يكن واجبا أن يحكم لقوله: "قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ..." بأنه ناسخ قوله: "فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنِينَ".
{يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} تحريفهم إياه يكون بوجهين، أحدهما: بسوء التأويل، والآخر: بالتغيير والتبديل.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
واللعن هو: الطرد للسخط على العبد، وهو الإبعاد من رحمة الله على جهة العقوبة. وقال الحسن: هو المسخ الذي كان فيهم حين صاروا قردة، وخنازير. ومعنى جعلنا -هاهنا- قال البلخي: سميناها بذلك عقوبة على كفرهم، ونقض ميثاقهم. قال: ويجوز أن يكون المراد أن الله بكفرهم لم يفعل بهم اللطف الذي تنشرح به صدورهم كما يفعل بالمؤمن...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ}. جعل جزاءَ العصيان الخذلانَ للزيادة في العصيان. قوله جلّ ذكره: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}. وتحريفُهم الكلم عن مواضعه نوعُ عصيان منهم، وإنما حرَّفوا لقساوة قلوبهم. وقسوة القلب عقوبة لهم مِنْ قِبَل الله تعالى على ما نقضوه من العهود، ونقض العهد أعظمُ وِزْرٍ يلم به العبد، والعقوبة عليه أشد عقوبة يُعَاقَبُ بها العبد، وقسوة القلب: عدم التوجع مما يُمتَحَنَ به من الصدِّ، وعن قريبٍ يُمتَحَن بمحنة الرد بعد الصدِّ، وذلك غاية الفراق، ونهاية البعد. ويقال قسوة القلب أولها فَقْدُ الصفوة ثم استيلاء الشهوة ثم جريان الهفوة ثم استحكام القسوة، فإن لم يتفق إقلاع من هذه الجملة فهو تمام الشقوة.
ومن تحريف الكلم -على بيان الإشارة- حَمْلُ الكلم على وجوه من التأويل مما تسوِّل لصاحبِه نَفْسُه، ولا تشهد له دلائلُ العلم ولا أصله. {وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}: أوَّلُ آفاتِهِم نسيانُهم، وما عصوا ربهم إلا بعد ما نسوا، فالنسيان أول العصيان، والنسيانُ حاصلٌ من الخذلان. {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ}. الخيانة أمرها شديد وهي من الكبار أبعد، وعليهم أشد وأصعب. ومن تعوَّد اتباع الشهوات، وأُشْرِبَ في قلبه حُبَّ الخيانة فلا يزال يعيش بذلك الخُلُق إلى آخر عمره، اللهم إلا أن يجودَ الحقُّ -سبحانه- عليه بجميل اللطف. {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}: قد يكون موجب العفو حقارة قدر المعفو عنه إذ ليس كل أحدٍ أهلاً للعقاب. وللصفح على العفو مزية وهي أن في العفو رفع الجناح، وفي الصفح إخراج ذكر الإثارة من القلب، فمن تجاوز عن الجاني، ولم يلاحظه -بعد التجاوز- بعين الاستحقار والازدراء فهو صاحب الصفح. والإحسان تعميمٌ -للجمهور- بإسداء الفضل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قاسية} خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم. أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست. وقرأ عبد الله: «قسيَّة»، أي ردية مغشوشة، من قولهم: درهم قسيّ وهو من القسوة؛ لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيه يبس وصلابة، والقاسي والقاسح -بالحاء- أخوان في الدلالة على اليبس والصلابة...
{يُحَرّفُونَ الكلم} بيان لقسوة قلوبهم، لأنه لا قسوة أشدّ من الافتراء على الله وتغيير وحيه.
{وَنَسُواْ حَظَّا}: وتركوا نصيباً جزيلاً وقسطاً وافياً {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} من التوراة، يعني أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم، أو قست قلوبهم وفسدت فحرّفوا التوراة وزالت أشياء منها عن حفظهم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. وتلا هذه الآية. وقيل: تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته.
في نقضهم الميثاق وجوه: الأول: بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء. الثاني: بكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم. الثالث: مجموع هذه الأمور.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{إن الله يحب المحسنين} تعليل للأمر بالصفح وحث عليه وتنبيه على أن العفو عن الكافر الخائن إحسان فضلا عن العفو عن غيره.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وهذا هو عين النصر والظفر، كما قال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يعني به: الصفح عمن أساء إليك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي فبسب نقضهم ميثاقنا الذي أخذناه عليهم وواثقناهم به – ومنه الإيمان بمن نرسله إليهم من الرسل ونصرتهم وتعزيرهم – استحقوا لعنتنا والبعد من رحمتنا، لأن نقض الميثاق قد دنس نفوسهم وأفسد فطرتهم، وقسى قلوبهم، حتى قتلوا الأنبياء بغير حق، وافتروا على مريم وبهتوها وأهانوا ولدها الذي أرسله الله تعالى لهدايتهم وإصلاح ما فسد من أمرهم وحاولوا قتله، وافتخروا بذلك بمجرد الشبهة، فمعنى لعنهم وجعل قلوبهم قاسية أن نقض الميثاق وما ترتب عليه من المعاصي والكفر كان بحسب سنة الله تعالى في تأثير الأعمال في النفوس مبعدا لهم عن كل ما يستحقون به رحمه الله وفضله، ومقسيا لقلوبهم حتى لم تعد تؤثر فيها حجة ولا موعظة، فهذا معنى إسناد اللعنة وتقسية القلوب إليه تعالى، وليس معناه ما يزعمه الجبرية من أنه شيء خلقه لله ابتداء وعاقبهم به ولم يكن مسببا عن أعمالهم الاختيارية التي هي علة لذلك، ولا كما يفهمه بعض الجاهلين لسنن الله تعالى في الجزاء الإلهي، إذ يظنون أنه من قبيل الجزاء الوضعي المرتب على مخالفة الشرائع والقوانين في الدنيا. وقد بينا مرارا أنه ليس كذلك، وإنما هو من قبيل الأمراض والآلام المرتبة على مخالفة قوانين الطب، وهذا أمر معقول في نفسه مطابق للواقع ولحكمة التكليف، وجامع بين النصوص.
ولو خلق الله القسوة في قلوبهم ابتداء فلم تكن أثرا لأعمالهم الاختيارية السيئة لاستحال أن يذمهم بها ويعاقبهم عليها.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} التحريف إمالة الشيء عن موضعه إلى أي جانب من جوانب ذلك الموضع، مأخوذ من الحرف وهو الطرف والجانب. والكلم جمع كلمة وتطلق على اللفظ المفرد وهو ما اقتصر عليه النحاة، وعلى الجملة المركبة ذات المعنى التام المفيد، كقولك كلمة التوحيد. تحريف الكلم عن مواضعه يصدق بتحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والحذف والزيادة والنقصان، وبتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت به. وقد اختار كثير من علمائنا الأعلام هذا المعنى في تفسير الآية وعللوه بأن التصرف في ألفاظ كتاب متواتر متعسر أو متعذر، وسبب هذا الاختيار والتعليل عدم وقوف أولئك العلماء على تاريخ أهل الكتاب وعدم اطلاعهم على كتبهم وقياس تواترها على القرآن.
والتحقيق الذي عليه العلماء الذين عرفوا تاريخ القوم واطلعوا على كتبهم التي يسمونها التوراة وغيرها (وكذا كتب النصارى) هو أن التحريف اللفظي والمعنوي كلاهما واقع في تلك الكتب ما له من دافع. وأنها كتب غير متواترة. فالتوراة التي كتبها موسى عليه السلام وأخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل بحفظها – كما هو مسطور في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع – قد فقدت قطعا باتفاق مؤرخي اليهود والنصارى ولم يكن عندهم نسخة سواها ولم يكن أحد يحفظها عن ظهر قلب كما حفظ المسلمون القرآن كله في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه الأسفار الخمسة التي ينسبونها إلى موسى فيها خبر كتابته التوراة وأخذه العهد عليهم بحفظها، وهذا ليس منها قطعا، وفيها خبر موته وكونه لم يقم بعده أحد مثله إلى ذلك الوقت أي الذي كتب فيه ما ذكر من سفر التثنية. وهذا نص قاطع في كون الكاتب كان بعد موسى بزمن يظهر أنه طويل، وكون ما ذكر ليس من التوراة في شيء، ومن المشهور عندهم أنها فقدت عند سبي البابليين لهم.
وفي هذه الأسفار ما لا يحصى من الكلم البابلي الدال على أنها كتبت بعد السبي، فأين التواتر الذي يشترط فيه نقل الجم الغفير الذي يؤمن تواطؤهم على التبديل والتغيير في كل الطبقات بحيث لا ينقطع الإسناد في طبقة ما؟ والمرجح عند محققي المؤرخين من الإفرنج أن هذه التوراة الموجودة كتبت بعد موسى ببضعة قرون، والمشهور أن أول من كتب الأسفار المقدسة بعد السبي عزرا الكاهن في زمن ملك أرتحششتا الذي أذن له بذلك إذ أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى بلادهم. وقد أوضحنا هذه المسألة في تفسير سورة آل عمران وسورة النساء، وسنزيدها بيانا.
{وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: (نسوا الكتاب) – وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنه قال: نسوا كتاب الله إذ أنزل عليهم، ومرادهما الحظ منه أي نسوا طائفة من أصل الكتاب، وروى ابن مبارك وأحمد في الزهد عن ابن مسعود أنه قال في تفسير الآية: إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها. يعلل بذلك ما أفادته الآية من نسيانهم لبعض ما ذكرهم الله به من كتابه. وفسر النسيان بعض العلماء بترك العمل، كأن هؤلاء استبعدوا نسيان شيء من أصل كتاب القوم وإضاعته، لتوهمهم أنه كان متوترا. والحق أنهم أضاعوا كتابهم وفقدوه عندما أحرق البابليون هيكلهم وخربوا عاصمتهم، وسبوا من أبقى عليه السيف منهم، فلما عادت إليهم الحرية في الجملة جمعوا ما كانوا حفظوه من التوراة ووعوه بالعمل به، أو ذكره في بعض مكتوباتهم لنحو الاستشهاد به، ونسوا الباقي.
وقد حققنا هذا المعنى في تفسير الآية الثانية من آل عمران، وكذا {ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا من الكتاب} [آل عمران:23] و [النساء:44و 51]. ولعمري إن هذه الجملة (فنسوا حظا ممن ذكروا به) وتلك الجملة (أوتوا نصيبا من الكتاب) لمن أعظم معجزات القرآن التي أثبتها التاريخ لنا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدة قرون، ولم يكن يخطر على بال أحد من العرب في زمن البعثة وهم أميون أن اليهود فقدوا كتابهم الذي هو أصل دينهم ثم كتبه لهم كاتب منهم نشأ في السبي والأسر بين الوثنيين بعد عدة قرون، فنقص منه وزاد فيه، ولم تعرف المصادر التي جمع منها ما كتبه معرفة صحيحة. بل كان هذا مما خفي عن علماء المسلمين عدة قرون بعد انتشار العلم فيهم.
أثبت الله تعالى في هذه الآية أن اليهود يحرفون كلم كتابهم عن مواضعه، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، وفي سورتي آل عمران والنساء {أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب} [آل عمران:23] [والنساء: 44 و51] وفي {أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه} [النساء:48]. ومفهوم قوله: (أوتوا نصيبا) أنهم نسوا نصيبا آخر وهو ما صرح به هنا. وذهب بعض المفسرين إلى أن المنسي هو البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان صفاته، وهو لا يصح لأنهم لو نسوها كلها لما صح قوله في علمائهم أنهم (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) وهو ما صرح به وأقسم عليه من آمن منهم. وحمله بعضهم على ترك العمل به، وهو مجاز من إطلاق اللفظ وإرادة لازمه، والأصل في الكلام الحقيقة وإنما يصار إلى المجاز عند امتناع إرادتها، ولا امتناع هنا.
ومن دلائل إرادة الحقيقة آية (أوتوا نصيبا من الكتاب) فمعنى ما هنالك وما هنا أن أهل الكتاب الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم – ومثلهم من قبلهم فصاعدا إلى زمن السبي وخراب بيت المقدس الذي فقدت فيه التوراة ومن بعدهم إلى اليوم وإلى ما شاء الله – أوتوا نصيبا ونسوا نصيبا منه بسبب فقد الكتاب وعدم حفظهم له كله في الصدور. ثم إن الذي أوتوه منه وبقي لهم، ما كانوا يعملون به كما يجب ولا يقيمون ما يعملون به منه كما ينبغي، بل كانوا يحرفونه عن مواضعه باللي والتأويل، على أنه وصل إليهم محرفا لفظه لأنه نقل من قراطيس وصحف متفرقة لا ثقة بأهلها ولا بضبط ما فيها. وسنذكر تتمة هذا البحث في الكلام على نسيان النصارى حظا مما ذكروا به.
{وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} الخائنة هنا الخيانة كما روي عن قتادة. والعرب تعبر بصيغة الفاعل عن المصدر أحيانا كما تعكس، فاستعملت القائلة بمعنى القيلولة، والخاطئة بمعنى الخطيئة. أو هي وصف لمحذوف إما مذكر والهاء للمبالغة كما قالوا راوية لكثير الرواية، وداعية لمن تجرد للدعوة إلى الشيء، وإما مؤنث بتقدير نفس أو فعلة أو فرقة خائبة، والمعنى أنك أيها الرسول لا تزال تطلع من هؤلاء اليهود المجاورين لك على خيانة بعد خيانة ما داموا مجاورين أو معاملين لك في الحجاز، فلا تحسبن أنك قد أمنت مكرهم وكيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم، فإنهم قوم لا وفاء لهم ولا أمان، وقد نقضوا عهد الله وميثاقه من قبل، فكيف يرجى منهم الوفاء لك بعد ذلك النقض وما ترتب عليه من قساوة قلوبهم وقتلهم لأنبيائهم؟
{إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} كعبد الله بن سلام وإخوانه الذين أسلموا فهؤلاء صادقون في إسلامهم لا يقصدون خيانة ولا خداعا {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فاعف عما سلف من هؤلاء القليل واصفح عن مسيئهم وعاملهم بالإحسان الذي يحبه الله تعالى، وأنت الرسول أحق الناس بتحري ما يحبه الله، وهذا رأي أبي مسلم. أو فاعف عما سلف من جميعهم واضرب عنه صفحا، وإيثارا للإحسان والفضل، على ما يقتضيه العدل، قيل كان هذا أمرا مطلقا ثم نسخ بآية التوبة {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] الآية. وروي هذا عن قتادة. ويرده قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليهود قبل نزول التوبة، وكون آية التوبة نزلت بقبول الجزية وهو يتفق مع العفو والصفح، فإنهم بخيانتهم صاروا حربيين واستحقوا أن يقتلوا، وقبول الجزية منهم يعد عفوا وصفحا عن قتلهم، وإحسانا إليهم. وثم وجه آخر وهو أن الأمر بالعفو والصفح إنما هو عن الخيانات الشخصية لا عن نقض العهد الذي يصيرون به محاربين لا يؤمن جوارهم. وهذا أظهر من جعل الأمر بالعفو مقيدا بشرط محذوف تقديره إن تابوا وآمنوا وعاهدوا أو التزموا الجزية، هذا ملخص ما يقال في رأي الجمهور.
ولولا أن نزول هذه السورة متأخر عما كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليهود من القتال وعن نزول سورة التوبة لقلت يحتمل أن يكون المراد هنا يهود بني النضير (ومثلهم بنو قريظة) بقرينة ما جاء قبل هذا السياق من خبر محاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم غدرا منهم وخيانة، ويكون المراد بالعفو والصفح عندهم ترك قتلهم والرضاء منهم بما دون القتل بعد القدرة عليه وهذا هو الذي وقع.
ثبت في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رغب عند ما آوى إلى المدينة في مصالحة اليهود وموادعتهم، فعقد العهد معهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا من يحاربه، ولا يوالوا عليه عدوا له، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم في دينهم. وكان حول المدينة منهم ثلاث طوائف: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. فكان بنو قينقاع أول من غدر وتصدى لحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهرا، لأنهم كانوا أشدهم بأسا، فلما ظفر بهم وسأله عبد الله بن أبي رئيس المنافقين فيهم وهبهم له، وكانوا حلفاء للخزرج، وكان هو يتولاهم وينصرهم وينصر غيرهم من أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما استطاع، وهذا ضرب من العفو والصفح.
وأما بنو النضير فنقضوا العهد أيضا وهموا بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحل له قتالهم، لكنه اختار السلم وأن يكتفي أمرهم بطردهم من جواره، فبعث إليهم (أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها وقد أجلتكم عشرا، فمن وجدت بها بعد ذلك ضربت عنقه) فأقاموا يتجهزون أياما. ثم ثناهم عن عزمهم عبد الله بن أبي إذ أرسل إليهم أن لا تخرجوا فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. وكان رئيسهم حيي بن أخطب شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي كان أطمعهم بقتله وحملهم على الغدر به، فغره قول رئيس المنافقين، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أننا لا نخرج فافعل ما بدا لك. وهذا إعلان للحرب. فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إليهم يحمل لواءه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. فلما انتهوا إليهم أقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة، وخانهم ابن أبي ولم تنصرهم قريظة وغطفان، فلما اشتد عليهم الحصار رضوا بالخروج سالمين. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قادرا على استئصالهم ولكنه اختار العفو والإحسان واكتفاء شرهم بإبعادهم عن المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم وما حملت الإبل إلا السلاح. وأجلاهم إلى خيبر. ولا شك أن هذا ضرب من ضروب العفو والإحسان عظيم. والظاهر أن الآية نزلت بعد ذلك كله لأنها من آخر ما نزل، ولم يعاقب اليهود بعدها على الخيانة ولا غدر، ولكنه أوصى بإجلائهم عن جزيرة العرب بعده.
ولما بين الله تعالى العبرة بنقض اليهود لميثاقهم وما كان من أمرهم، أعقبه ببيان حال النصارى في ذلك فقال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فكل من لم يقم بما أمر الله به، وأخذ به عليه الالتزام، كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب، والابتلاء بتحريف الكلم، وأنه لا يوفق للصواب، ونسيان حظ مما ذُكِّر به، وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة، نسأل الله العافية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد نقضوا ميثاقهم مع الله.. قتلوا أنبياءهم بغير حق، وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام -وهو آخر أنبيائهم- وحرفوا كتابهم -التوراة- ونسوا شرائعها فلم ينفذوها، ووقفوا من خاتم الأنبياء -عليه الصلاة والسلام- موقفا لئيما ماكرا عنيدا، وخانوا مواثيقهم معه. فباءوا بالطرد من هدى الله، وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى..
(فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية، يحرفون الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذكروا به...)
وصدق الله. فهذه سمات يهود التي لا تفارقهم.. لعنة تبدو على سيماهم، إذ تنضح بها جبلتهم الملعونة المطرودة من الهداية. وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة، وفي تصرفاتهم الخالية من المشاعر الإنسانية، ومهما حاولوا -مكرا- إبداء اللين في القول عند الخوف وعند المصلحة، والنعومة في الملمس عند الكيد والوقيعة، فإن جفاف الملامح والسمات ينضح ويشي بجفاف القلوب والأفئدة.. وطابعهم الأصيل هو تحريف الكلم عن مواضعه. تحريف كتابهم أولا عن صورته التي أنزلها الله على موسى -عليه السلام- إما بإضافة الكثير إليه مما يتضمن أهدافهم الملتوية ويبررها بنصوص من الكتاب مزورة على الله! وإما بتفسير النصوص الأصلية الباقية وفق الهوى والمصلحة والهدف الخبيث! ونسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم، وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم.
(ولا تزال تطلع على خائنة منهم، إلا قليلا منهم...)..
وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم يصور حال يهود في المجتمع المسلم في المدينة. فهم لا يكفون عن محاولة خيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانت لهم مواقف خيانة متواترة. بل كانت هذه هي حالهم طوال إقامتهم معه في المدينة -ثم في الجزيرة كلها- وما تزال هذه حالهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ. على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم، ورفع عنهم الاضطهاد، وعاملهم بالحسنى، ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه. ولكنهم كانوا دائما -كما كانوا على عهد الرسول- عقارب وحيات وثعالب وذئابا تضمر المكر والخيانة، ولا تني تمكر وتغدر. إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد، وتآمروا مع كل عدو لهم، حتى تحين الفرصة، فينقضوا عليهم، قساة جفاة لا يرحمونهم، ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة. أكثرهم كذلك.. كما وصفهم الله سبحانه في كتابه، وكما أنبأنا عن جبلتهم التي أورثها إياهم نقضهم لميثاق الله من قديم.
والتعبير القرآني الخاص عن واقع حال اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، تعبير طريف:
(ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم)..
الفعلة الخائنة، والنية الخائنة، والكلمة الخائنة، والنظرة الخائنة.. يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة.. (خائنة).. لتبقى الخيانة وحدها مجردة، تملأ الجو، وتلقي ظلالها وحدها على القوم.. فهذا هو جوهر جبلتهم، وهذا هو جوهر موقفهم، مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الجماعة المسلمة..
إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق. وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها، وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله. ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها؛ وتسمع توجيهاته؛ وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها، ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام.. ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها؛ وحين اتخذت القرآن مهجورا -وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة، وتعاويذ ورقى وأدعية!- أصابها ما أصابها.
ولقد كان الله -سبحانه- يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه، حين نقضوا ميثاقهم مع الله، لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله، فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد، ناقض للعقد.. فلما غفلت عن هذا التحذير، وسارت في طريق غير الطريق، نزع الله منها قيادة البشرية؛ وتركها هكذا ذيلا في القافلة! حتى تثوب إلى ربها؛ وحتى تستمسك بعهدها، وحتى توفي بعقدها. فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس.. وإلا بقيت هكذا ذيلا للقافلة.. وعد الله لا يخلف الله وعده..
ولقد كان توجيه الله لنبيه في ذلك الحين الذي نزلت فيه هذه الآية:
(فاعف عنهم واصفح، إن الله يحب المحسنين)..
والعفو عن قبائحهم إحسان، والصفح عن خيانتهم إحسان..
ولكن جاء الوقت الذي لم يعد فيه للعفو والصفح مكان. فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجليهم عن المدينة. ثم أن يأمر بإجلائهم عن الجزيرة كلها. وقد كان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها. وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف، فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقاباً للتمييز بينها، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس: يجوز أن يقال: هو دين الله، ولا يجوز أن يُقال: قاله الله. وقوله: {ولا تزال تطّلع على خائنة منهم} انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النّبيء صلى الله عليه وسلم وفِعل {لا تزال} يدلّ على استمرار، لأنّ المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنّه في قوة أن يقال: يدوم اطّلاعك. فالاطّلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر، والاطّلاع هنا كناية عن المطّلع عليه، أي لا يزالون يخونون فتطّلع على خيانتهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
فمعنى لعناهم: طردناهم، والطرد هنا هو السير في متاهات الضلال، وفي ذلك تشبيه لحال من يسلك سبيل الضلال بعد أن فتح له باب الهداية، وأرشد إلى الطريق المستقيم بحال من يكون في مكان آمن مستقر فيه، قد مكن له في الإقامة ومهد له، ثم طرد منه مذءوما مدحورا مبغوضا مكروها...
وإن قسوة القلب وفساده يترتبان على الانحراف عن الطريق السوي الذي عبر عنه بالطرد، لأن من ضل الطريق كلما سار في الضلال تاه عن الحق وغاب عنه، ولأن القلب كلما أركس في الشر أربد وأظلم، وصارت غشاوة من الباطل تغطيه فلا يدرك، وتحجره فلا يلين. وهنا بحث لفظي، وهو في قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم} فإن الفاء هنا تسمى بفاء الإفصاح، وهي تفصح عن شرط مقدر تقديره: فإذا ضلوا ونقضوا الميثاق فبسبب ذلك يطردون من طريق الرحمة ومنهاج الاستقامة و "ما "زيدت في الإعراب لتأكيد معنى السببية بين نقض الميثاق والضلال...
وهنا لفظان نقف عند المعاني التي يشيران إليها: أولهما: معنى "حظ" فنقول: الحظ هو النصيب الكبير الذي يعد محظوظا من يأخذه وهذا يدل على أن الجزء الذي نسي هو جوهر الدين ولبه، وحسبك أن تعلم أن التوراة التي بأيدينا ليس فيها ذكر لليوم الآخر وما يكون فيه من نعيم مقيم وعذاب أليم وثاني الفظين: هو "مما ذكروا به" فإن ذلك يشمل تعاليم موسى وتعاليم الأنبياء من قبله، وكل هذا نسوا الحظ الأكبر منه...
{فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين} العفو معناه في مثل هذه: عدم مقابلة الإساءة بمثلها والتجافي عنها، وترك المؤاخذة عليها، والصفح معناه ترك المؤاخذة وترك اللوم والتثريب بل ترك العتاب عليها، ولذلك قالوا: إن الصفح أعلى رتبة من العفو، وقال في ذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته: وهو أي الصفح أبلغ من العفو، ولذلك قال تعالى: {...فاعفوا واصفحوا... (109)} (البقرة) وقد يعفو الإنسان ولا يصفح ولكن لا يمكن أن يتحقق صفح من غير عفو، إذ العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهرا وقد يكون في النفس شيء، أما الصفح فإنه يتناول السماحة النفسية واعتبار الإيذاء كأن لم يكن في المظهر والقلب.
والإحسان يطلق على الإتقان، ومن ذلك قوله تعالى: {...إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا (30)} (الكهف) ويطلق على الإنعام على الغير، ومن ذلك قول القائل: "أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم". والإحسان في هذه الآية يشمل المعنيين، والإحسان فوق العدل لأن العدل مع غيرك إعطاؤه الحق الذي له والإحسان إعطاؤه الحق وزيادة ومعنى النص الكريم: إذا كانوا على هذه الصفة التي ذكرناها فلا تعاملهم بمثل أخلاقهم بل عاملهم بأخلاق النبوة التي تدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فاعف عنهم ولا تؤاخذهم بذنوبهم فلا تعاملهم بالمثل إلا دفاعا عن الحوزة واصفح الصفح الجميل، ولا تجعل في قلبك غلا ولا ضغنا، حتى يخلص قلبك من كل ما يعكره، لتصفو الدعوة وإن الله تعالى يحب الذين يتقنون أعمالهم بسلوك سبيل الدعوة الصحيحة وأخذ الناس بالرفق ومعاملتهم بالتي هي أحسن والإنعام عليهم بالعفو وخلوص النفس من كل الشوائب بالصفح الجميل...
والذي نراه أن الأمر بالعفو والصفح عام لليهود لكي يؤدي النبي صلى الله عليه وسلم واجب الدعوة وكذلك الشأن في كل داع إلى دعوة، لأنه إذا كانت النفس يشوبها الغضب والألم والإحن ويبدو ذلك في اللسان، فإنه لا تستقيم الدعوة ولا تقوم الحجة على من يدعوهم لأن الله تعالى يقول: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة... (125)} (النحل) ويقول سبحانه: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46)} (العنكبوت) ولا يمكن أن يكون ذلك قد نسخ، لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا ولأن التوفيق غير متعذر ولأن الأمر بالعفو والصفح لا ينافي القتال لأنه إذا اعتدت طائفة وجب فل شوكتها، وقد اعتدت قينقاع وخانت الحلف، ولا يمكن ائتمانها في وقت قتال، فوجب إجلاؤها وكذلك بنو النضير، واستحقت قريظة ما نزل بها، وما كان ذلك إلا دفاعا عن النفس، وتأمينا لما وراء الظهر، وفي غير هذه الأحوال الاستثنائية يكون العفو والصفح واجبا ليؤدي النبي صلى الله عليه وسلم واجب التبليغ، ولا يعمل الأمر بالعفو عند موجب القتال للدفاع إذ إن ذلك يكون إلقاء بالنفس إلى التهلكة ويطبق الأمر بهذا الشكل في عصرنا، فاليهود الذين يخربون في ديارنا تكف أيديهم ويخرجون منها، وغيرهم نعاملهم بالخلق الحسن إلا أن يظاهروا الأشرار فيهم، وقليل من لم يظاهروهم.
قول الحق:"فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم" والنقض هو ضد الإبرام، لأن الإبرام هو إحكام الحكم بالأدلة والنقض هو حل عناصر القضية كأن العهد الموثق الذي أخذه الله عليهم قد نقضوه ونحن نسمي العقيدة الإيمانية عقيدة، لماذا؟ لأنها مأخوذة من عقد الشيء بحيث لا يطفوا ليناقش من جديد في الذهن، كذلك الميثاق إنه عهد مثبت ومؤكد وعندما ينقضونه فهم يقومون بحله، أي أنهم أخرجوا أنفسهم عن متطلبات ذلك العقد وجاء اللعن لأنهم نقضوا الميثاق.