وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ . . . } نهى عن قتل الأولاد بعد بيان أن الأرزاق بيده - سبحانه - ، يبسطها لمن يشاء ، ويضيقها على من يشاء .
والإِملاق : الفقر . يقال : أملق الرجل إذا افتقر قال الشاعر : .
وإنى على الإِملاق يا قوم ماجد . . . أعد لأضيافى الشواء المصهبا
قال الآلوسى : وظاهر اللفظ النهى عن جميع أنواع قتل الأولاد ، ذكورا أو إناثا مخافة الفقر والفاقة .
لكن روى أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن ، فنهى فى الآية عن ذلك ، فيكون المراد بالأولاد البنات ، وبالقتل الوأد . . .
أى : ولا تقتلوا - أيها الآباء - أولادكم خشية فقر متوقع ، فنحن قد تكفلنا برزقهم ورزقكم ، وأرزاق غيركم من مخلوقاتنا التى لا تحصى .
قال - تعالى - : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا . . } ولا شك أن الحياة حق لهؤلاء الصغار كما أنها حق لكم ، فمن الظلم البين الاعتداء على حقوقهم ، والتخلص منهم خوفا من الفقر المتوقع فى المستقبل ، مع أن الله - تعالى - هو الرازق لهم ولكم فى كل زمان ومكان .
وقد ورد النهى عن قتل الاولاد هنا بهذه الصيغة ، وورد فى سورة الأنعام بصيغة أخرى ، هى قوله - تعالى - : { وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } وليست أحدهما تكرارا للأخرى وإنما كل واحدة منهما تعالج حالة معينة .
فهنا يقول - سبحانه - : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } لأن النهى موجه بالأصالة إلى الموسرين الذين يقتلون أولادهم لا من أجل فقر كائن فيهم ، وإنما من أجل فقر هم يتوهمون حصوله فى المستقبل بسبب الأولاد ، لذا قال - سبحانه - { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فقدم رزق الأولاد لأنهم سبب توقع الفقر ، فى زعم آبائهم - لكى يمتنع الآباء عن هذا التوقع ولكى يضمن للأولاد رزقهم ابتداء مستقلا عن رزق الآباء .
وقال - سبحانه - هناك { من إملاق } لأن النهى متوجه أصالة إلى الآباء المعسرين : أى لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم - أيها الآباء - ، فقد يجعل الله بعد عسر يسرا ، ولذا قال - سبحانه - : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فجعل الرزق للآباء ابتداء . لكى يطمئنهم - سبحانه - على أنه هو الكفيل برزقهم وبرزق أولادهم .
وفى كلتا الحالتين ، القرآن الكريم ينهى عن قتل الأولاد ، ويغرس فى نفوس الآباء الثقة بالله - تعالى - والاعتماد عليه .
وجملة { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } تعليل للنهى عن قتل الأولاد ، بإبطال موجبه - فى زعمهم - وهو الفقر .
أى : نحن نرزقهم لا أنتم ، ونرزقكم أنتم معهم ، وما دام الأمر كذلك فلا تقدموا على تلك الجريمة النكراء : وهى قتل الأولاد ، لأن الأولاد ، قطعة من أبيهم ، والشأن - حتى فى الحيوان الأعجم - أنه يضحى من أجل أولاده ويحميهم ، ويتحمل الصعاب فى سبيلهم .
وقوله { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } تعليل آخر للنهى عن قتل الأولاد جئ به على سبيل التأكيد .
والخِطْء : هو الإِثم - وزنا ومعنى - ، مصدر خَطِئَ خِطْئًا كأثم إثما من باب علم .
أى : أن قتل الأولاد كان عند الله - تعالى - إثما كبيرا فاحشا ، يؤدى إلى التعاسة والشقاء فى الدنيا والآخرة :
والحق أن المجتمع الذى يبيح قتل الأولاد ، خوفا من الفقر أو العار ، لا يمكن أن يصلح شأنه ، لأنه مجتمع نفعى تسوده الأثرة والأنانية والتشاؤم والأوهام ، لأن أفراده يظنون أن الله يخلق خلقا لا يدبر لهم رزقهم ، ويعتدون على روح بريئة طاهرة ، تخوفا من فقر أو عار مترقب ، وذلك هو الضلال المبين .
ورحم الله الإِمام الرازى فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : إن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر ، فهو سوء ظن بالله . وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعى فى تخريب العالم . فالأول : ضد التعظيم لأمر الله - تعالى - والثانى : ضد الشفقة على خلقه ، وكلاهما مذموم .
ولقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم برعاية الأبناء ، وحذر من الاعتداء عليهم فى أحاديث كثيرة ، ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين عن عبدالله بن مسعود قال : " قلت يا رسول الله ، أى الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك . قلت : ثم أى ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك . قلت : ثم أى ؟ قال : أن تزنى بحليلة جارك " .
عطف جملة حكم على جملة حكم للنهي عن فعل ينشأ عن اليأس من رزق الله . وهذه الوصية السابعة من الأحكام المذكورة في آية { وقضى ربك } الآية [ الإسراء : 23 ] . وغُيّر أسلوب الإضمار من الإفراد إلى الجمع لأن المنهي عنه هنا من أحوال الجاهلية زجراً لهم عن هذه الخطيئة الذميمة ، وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة الأنعام ؛ ولكن بين الآيتين فرقاً في النظم من وجهين :
الأول : أنه قيل هنا { خشية إملاق } وقيل في آية الأنعام { من إملاق } [ الأنعام : 151 ] . ويقتضي ذلك أن الذين كانوا يئدون بناتهم يئدونهن لغرضين :
إما لأنهم فقراء لا يستطيعون إنفاق البنت ولا يرجون منها إن كبرت إعانة على الكسب فهم يئدونها لذلك ، فذلك مورد قوله في الأنعام من إملاق } ، فإن ( من ) التعليلية تقتضي أن الإملاق سبب قتلهن فيقتضي أن الإملاق موجود حين القتل .
وإما أن يكون الحامل على ذلك ليس فقر الأب ولكن خشية عروض الفقر له أو عروض الفقر للبنت بموت أبيها ، إذ كانوا في جاهليتهم لا يورثون البنات ، فيكون الدافع للوأد هو توقع الإملاق ، كما قال إسحاق بن خلف ، شاعر إسلامي قديم :
إذا تذكرت بنتي حين تندبني *** فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم
أحاذر الفقر يوماً أن يلم بها *** فيَهتك السترَ عن لحم على وضم
تهوَى حياتي وأهوَى موتها شفقا *** والموتُ أكرم نزّال على الحُرم
أخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ *** وكنتُ أخشى عليها من أذى الكلم
فلتحذير المسلمين من آثار هذه الخواطر ذكروا بتحريم الوأد وما في معناه . وقد كان ذلك في جملة ما تؤخذ عليه بيعة النساء المؤمنات كما في آية سورة الممتحنة . ومن فقرات أهل الجاهلية : دفن البنات . من المكرمَات . وكلتا الحالتين من أسباب قتل الأولاد تستلزم الأخرى وإنما التوجيه للمنظور إليه بادىء ذي بدء .
الوجه الثاني : فمن أجل هذا الاعتبار في الفَرْق للوجه الأول قيل هنالك { نحن نرزقكم وإياهم } بتقديم ضمير الآباء على ضمير الأولاد ، لأن الإملاق الدافع للوأد المحكي به في آية الأنعام هو إملاق الآباء فقدم الإخبار بأن الله هو رازقهم وكمل بأنه رازق بناتهم .
وأما الإملاق المحكي في هذه الآية فهو الإملاق المخشي وقوعه . والأكثر أنه توقع إملاق البنات كما رأيت في الأبيات ، فلذلك قُدم الإعلام بأن الله رازق الأبناء وكُمل بأنه رازق آبائهم . وهذا من نكت القرآن .
والإملاق : الافتقار . وتقدم الكلام على الوأد عند قوله تعالى : { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } في سورةة [ الأنعام : 137 ] .
وجملة { نحن نرزقهم } معترضة بين المتعاطفات . وجملة { إن قتلهم كان خطأ كبيراً } تأكيد للنهي وتحذير من الوقوع في المنهي ، وفعل { كان } تأكيد للجملة .
والمراد بالأولاد خصوص البنات لأنهن اللاتي كانوا يقتلونهن وأداً ، ولكن عبر عنهن بلفظ الأولاد في هذه الآية ونظائرها لأن البنت يقال لها : ولد .
وجرى الضمير على اعتبار اللفظ في قوله { نرزقهم } .
و ( الخِطء ) بكسر الخاء وسكون الطاء مصدر خطىء بوزن فرح ، إذا أصاب إثماً ، ولا يكون الإثم إلا عن عمد ، قال تعالى : { إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } [ القصص : 8 ] وقال : { ناصية كاذبة خاطئة } [ العلق : 16 ] .
وأما الخَطَأ بفتح الخاء والطاء فهو ضد العمد . وفعله : أخطأ . واسم الفاعل مُخطىء ، قال تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } [ الأحزاب : 5 ] . وهذه التفرقة هي سر العربية وعليها المحققون من أيمتها .
وقرأ الجمهور { خطأ } بكسر الخاء وسكون الطاء بعدها همزة ، أي إثماً . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ، وأبو جعفر { خَطَأ } بفتح الخاء وفتح الطاء . والخطأ ضد الصواب ، أي أن قتلهم محض خَطأ ليس فيه ما يعذر عليه فاعله .
وقرأه ابن كثير { خِطَاءً } بكسر الخاء وفتح الطاء وألف بعد الطاء بعده همزة ممدوداً . وهو فعال من خَطِىء إذا أجرم ، وهو لغة في خِطْء ، وكأن الفعال فيها للمبالغة . وأكد ب ( إن ) لتحقيقه رداً على أهل الجاهلية إذ كانوا يزعمون أن وأد البنات من السداد ، ويقولون : دفن البنات من المَكرمات . وأكد أيضاً بفعل ( كان ) لإشعار ( كان ) بأن كونه إثماً أمراً استقر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.