ثم بين - سبحانه - وجه الحكمة والمصلحة فيما شرعه مما تقدم تفصيله فقال { ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } .
فاسم الإِشارة { ذلك } يعود إلى ما شرعه الله من أحكام تتعلق بالوصية التي تكون في السفر ويموت صاحبها .
أي : ذلك الحكم المذكور { أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ } أي : أقرب إلى أن يؤدي الأوصياء الشهادة في هذه الحادثة وأمثالها على وجهها الصحيح . أي : على حقيقتها من غير تغيير لها خوفا من عذاب الآخرة . فالوجه في قوله { على وَجْهِهَآ } بمعنى الذات والحقيقة .
والجملة الكريمة بيان لحكمة مشروعية التحليف بالتغليظ المتقدم ، وقوله : { أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } بيان لحكمة رد اليمين على الورثة . وهو معطوف على مقدر ينبئ عنه المقام فكأنه قيل : ذلك الذي شرعناه لكم أقرب إلى أن يأتي الأوصياء بالشهادة على وجهها الصحيح فكأنه قيل : ذلك الذي شرعناه لكم أقرب إلى أن يأتي الأوصياء بالشهادة على وجهها الصحيح ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة ، أو يخافوا أن ترد أيمان على الورثة بعد أيمانهم فيظهر كذبهم على رؤوس الأشهاد ، فيكون ذلك الخوف داعيا لهم إلى النطق بالحق وترك الكذب والخيانة .
فأي الخوفين حصل عندهم سيقودهم إلى التزام الحق وترك الخيانة وإيصال الحقوق لذويها كاملة غير منقوصة .
فمن لم يمنعه خوف اله من أن يكذب أو يخون لضعف دينه منعه خوف الفضيحة على رءوس الأشهاد .
ثم قال - سبحانه { ذلك أدنى } أي أقرب إلى الحق وأبعد عن الباطل لأن معرفة الحق من كل وجوهه وجزئياته ، مرجعها إلى الله العليم بخفايا الأمور وبواطنها وبواعثها . أما الحاكم فإنه يحكم على حسب ما يظهر له من حق ، وحكمه قابل للخطأ والصواب .
والضمير في قوله { يَأْتُواْ } { يخافوا } { وَأَيْمَانِهِمْ } يعود إلى الأوصياء الذين أوصاهم الميت بإيصال ما يريد إيصاله لورثته ، ثم حدث شك من الورثة في أمانتهم .
وجاء الضمير مجموعا مع أن السياق لاثنين فقط ، لأن المراد ما يعم هذين المذكورين وما يعم غيرهما من بقية الناس .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { واتقوا الله واسمعوا والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } .
أي : واتقوا الله في كل ما يأتون وتذرون من أموركم واسمعوا ما تؤمرون به سماع إذاعان وقبول وطاعة واعلموا أن الله - تعالى - لا يوفق القوم الخارجين عن طاعته إلى طريق الخير والفلاح ، لأنهم آثروا الغي على الرشد واستحبوا العمى على الهدى .
فهذا الخنام للآية الكريمة اشتمعل على ابلغ ألوان التحذير من معصية الله ومن مخالفة أمره .
هذا ؛ ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتي :
1 - الحث على الوصية وتأكيد أمرها ، وعدم التهاون فيها بسبب السفر أو غيره ، لأن الوصية تثبت الحقوق ، وتمنع التنازل ولهذا شدد الإِسلام في ضرورة كتابة الوصية ، والشخص قوى معافي ، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " .
قال ابن عمر - راوي هذا الحديث - : " ما مرت على ليلة منذ سمعت رسول الله قال ذلك إلا وعندي وصيتي " .
2 - الإِشهاد على الوصية في الحضر والسفر ، ليكون أمرها أمرها أثبت ، والرجاء في تنفيذها أقوى ، فإن عدم الإِشهاد عليها كثيراً ما يؤدي إلى التنازل وإلى التشكك في صحتها .
3 - شرعية اختيار الأوقات والأمكنة والصيغ المغلظة التي تؤثر في قلوب الشهود وفي قلوب مقسمى الأِيمان ، وتحملهم على النطق بالحق .
قال صاحب المنار : ويشهد لاختيار الأوقات جعل القسم بعد الصلاة ، ومثله في ذلك اختيار المكان ومما ورد في السنة في ذلك ما رواه مالك وأحمد وأبو داود . عن جابر مرفوعا ، " لا يحلف أحد عند منبري كاذاب إلا تبوأ مقعده من النار " .
ويشهد بجواز التغليظ على الحالف على صيغة اليمين - بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب - ما جاء في الآيات الكريمة من قوله - تعالى - { فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } .
4 - جواز تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام أو الخصوم في شهادتهم ، وقد روى عن ابن عباس أنه حلف المرأة التي شهدت في قضية رضاع بين زوجين .
5 - جواز شهادة غير المسلمين على المسلمين عند الضرورة ، وقد بسط الإِمام القرطبي القول في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
الأول : أن الكاف والميم في قوله { اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } ضمير للمسلمين ، وفي قوله { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } للكافرين . فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية . وهو الأشبه بسياق مع ما تقرر من الأحاديث .
وهوقول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل وهم : أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود وعبدالله بن عباس ، وتبعهم في ذلك جمع من التابعين ، واختاره أحمد بن حنبل وقال : شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ، كلهم يقولون : " منكم " من المؤمنين . ومعنى { مِنْ غَيْرِكُمْ } يعني الكفار .
القول الثاني : أن قوله - سبحانه - { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } منسوخ وهذا قول زيد بن أسلم ؛ والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء .
واحتجوا بقوله - تعالى - { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } وبقوله : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } فهؤلاء زعموا أن الآية الدين من آخر ما نزل وأن فيها { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } فهو ناسخ لذلك ، ولم يكن الإِسلام يومئذ إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب . وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم .
قال القرطبي : قلت : ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم وأما مع وجو مسلم فلا .
ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل ، وقد قال بالأولى ثلاثة من الصحابة ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم .
ويقوى هذا أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا ، حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما : إنه لا منسوخ فيها ، وما ادعوه من النسخ لا يصح ، فإن النسخ لابد فيه من إثبات الناسخ على وجه ينافي الجمع بينهما مع تراخي الناسخ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا ، فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة ، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات .
القول الثالث : أن الآية لا نسخ فيها . قاله الزهري والحسن وعكرمة ، ويكون معنى قوله { منكم } أي من عشيرتكم وقرابتكم . . ومعنى { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غيرالقرابة والعشيرة .
وهذا ينبي على معنى غامض في العربية ، وذلك أن معنى { آخر } في العربية من جنس الأول ، تقول : مررت بكريم وكريم آخر ولا تقول مررت بكريم وخسيس آخر ، فوجب على هذا أن يكون قوله { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي عدلان من غير عشيرتكم من المسلمين .
والمشار إليه في قوله : { ذلك أدنى } إلى المذكور من الحكم من قوله { تحبسوهما من بعد الصلاة } إلى قوله إنَّا إذن لمنَ الظالمين . و { أدنى } بمعنى أقرب ، والقرب هنا مجاز في قرب العلم وهو الظنّ ، أي أقوى إلى الظنّ بالصدق .
وضمير { يأتوا } عائد إلى « الشهداء » وهم : الآخران من غيركم ، والآخران اللذان يقومان مقامهما ، أي أن يأتي كلّ واحد منهم . فجمع الضمير على إرادة التوزيع .
والمعنى أنّ ما شرع الله من التوثيق والضبط ، ومن ردّ الشهادة عند العثور على الريبة أرجى إلى الظنّ بحصول الصدق لكثرة ما ضبط على كلا الفريقين ممّا ينفي الغفلة والتساهل ، بله الزور والجور مع توقّي سوء السمعة .
ومعنى { أن يأتوا بالشهادة } : أن يؤدّوا الشهادة . جعل أداؤها والإخبار بها كالإتيان بشيء من مكان .
ومعنى قوله { على وجهها } ، أي على سنّتها وما هو مقوّم تمامها وكمالها ، فاسم الوجه في مثل هذا مستعار لأحسن ما في الشيء وأكمله تشبيهاً بوجه الإنسان ، إذ هو العضو الذي يعرف به المرء ويتميز عن غيره . ولمّا أريد منه معنى الاستعمارة لهذا المعنى ، وشاع هذا المعنى في كلامهم ، قالوا : جاء بالشيء الفلاني على وجهه ، فجعلوا الشيء مأتيّاً به ، ووصفوه بأنه أتي به متمكّناً من وجهه ، أي من كمال أحواله .
فحرف ( على ) للاستعلاء المجازي المراد منه التمكّن ، مثل { أولئك على هدى من ربّهم } [ البقرة : 5 ] . والجارّ والمجرور في موضع الحال من { الشهادة } ، وصار ذلك قرينة على أنّ المراد من الوجه غير معناه الحقيقي .
وسنّة الشهادة وكمالها هو صدقها والتثبّت فيها والتنبّه لما يغفل عنه من مختلف الأحوال التي قد يستخفّ بها في الحال وتكون للغفلة عنها عواقب تضيِّع الحقوق ، أي ذلك يعلّمهم وجه التثبّت في التحمّل والأداء وتوخّي الصدق ، وهو يدخل في قاعدة لزوم صفة اليقظة للشاهد .
وفي الآية إيماء إلى حكمة مشروعية الإعذاء في الشهادة بالطعن أو المعارضة ، فإنّ في ذلك ما يحمل شهود الشهادة على التثبّت في مطابقة شهادتهم ، للواقع لأنّ المعارضة والإعذار يكشفان عن الحقّ .
وقوله { أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم } عطف على قوله { أن يأتوا } باعتبار ما تعلّق به من المجرورات ، وذلك لأنّ جملة { يأتوا بالشهادة على وجهها } أفادت الإتيان بها صادقة لا نقصان فيها بباعث من أنفس الشهود ، ولذلك قدّرناه بمعنى أن يعلموا كيف تكون الشهادة الصادقة . فأفادت الجملة المعطوف عليها إيجاد وازع للشهود من أنفسهم ، وأفادت الجملة المعطوفة وازعاً هو توقّع ظهور كذبهم . ومعنى { أن تردّ أيمان } أن تُرَجَّع أيمان إلى ورثة الموصي بعد أيمان الشهيدين . فالردّ هنا مجاز في الانتقال ، مثل قولهم : قلب عليه اليمين ، فيعيَّروا به بين الناس ؛ فحرف ( أوْ ) للتقسيم ، وهو تقسيم يفيد تفصيل ما أجمله الإشارة في قوله : { ذلك أدنى } الخ . . . وجمع { الأيمان } باعتبار عموم حكم الآية لسائر قضايا الوصايا التي من جنسها ، على أنّ العرب تعدل عن التثنية كثيراً . ومنه قوله تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ]
وذيّل هذا الحكم الجليل بموعظة جميع الأمّة فقال : { واتّقوا الله } الآية .
وقوله { واسمعوا } أمر بالسمع المستعمل في الطاعة مجازاً ، كما تقدّم في قوله تعالى : { إذ قلتم سمعنا وأطعنا } في هذه السورة ( 7 ) .
وقوله والله لا يهدي القوم الفاسقين } تحريض على التقوى والطاعة لله فيما أمر ونهى ، وتحذير من مخالفة ذلك ، لأنّ في اتّباع أمر الله هُدى وفي الإعراض فسقاً . { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي المعرضين عن أمر الله ، فإنّ ذلك لا يستهان به لأنّه يؤدّي إلى الرين على القلب فلا ينفذ إليه الهدى من بعدُ فلا تكونُوهم وكونوا من المهتدين .
هذا تفسير الآيات توخّيتُ فيه أوضح المعاني وأوفقها بالشريعة ، وأطلت في بيان ذلك لإزالة ما غمض من المعاني تحت إيجازها البليغ . وقد نقل الطيبي عن الزجّاج أنّ هذه الآية من أشكل ما في القرآن من الإعراب . وقال الفخر : رَوَى الواحدي عن عمر : هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام . وقال ابن عطية عن مكّي بن أبي طالب : هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً .
قال ابن عطية : وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها . وذلك بيّن من كتابه .
ولقصد استيفاء معاني الآيات متتابعة تجنّبت التعرّض لما تفيده من الأحكام واختلاف علماء الإسلام فيها في أثناء تفسيرها . وأخّرت ذلك إلى هذا الموضع حين انتهيت من تفسير معانيها . وقد اشتملت على أصلين : أحدهما الأمر بالإشهاد على الوصية ، وثانيهما فصل القضاء في قضية تميم الداري وعدي بن بدّاء مع أولياء بديل بن أبي مريم .
فالأصل الأول : من قوله تعالى : { شهادة بينكم } إلى قوله { ولا نكتم شهادة الله } .
والأصل الثاني : من قوله : { فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً } إلى قوله { بعد أيمانهم } . ويحصل من ذلك معرفة وجه القضاء في أمثال تلك القضية ممّا يتّهم فيه الشهود .
وقوله : { شهادة بينكم } الآية بيان لكيفية الشهادة ، وهو يتضمّن الأمر بها ، ولكن عدل عن ذكر الأمر لأنّ الناس معتادون باستحفاظ وصاياهم عند محلّ ثقتهم .
وأهمّ الأحكام التي تؤخذ من الآية ثلاثة : أحدها : استشهاد غير المسلمين في حقوق المسلمين ، على رأي من جعله المراد من قوله { أو آخران من غيركم } . وثانيها : تحليف الشاهد على أنّه صادق في شهادته . وثالثها : تغليظ اليمين بالزمان .
فأمّا الحكم الأول : فقد دلّ عليه قوله تعالى : { أو آخران من غيركم } . وقد بيّنا أنّ الأظهر أنّ الغيرية غيرية في الدين . وقد اختلف في قبول شهادة غير المسلمين في القضايا الجارية بين المسلمين ؛ فذهب الجمهور إلى أنّ حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } [ الطلاق : 2 ] وقوله { ممّن ترْضَوْن من الشهداء } [ البقرة : 282 ] وهذا قول مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي . وذهب جماعة إلى أنّ الآية محكمة ، فمنهم من جعلها خاصّة بالشهادة على الوصية في السفر إذا لم يكن مع الموصي مسلمون . وهو قول أبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، وقضى بذلك أبو موسى الأشعري في وصية مثل هذه ، أيام قضائه بالكوفة ، وقال : هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيّب ، وابن جبير ، وشريح ، وابن سيرين ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدّي ، وسفيان الثوري ، وجماعة ، وهم يقولون : لا منسوخ في سورة المائدة ، تبعاً لابن عباس . ومنهم من تأوّل قوله { من غيركم } على أنّه من غير قبيلتكم ، وهو قول الزهري ، والحسن ، وعكرمة .
وقال أحمد بن حنبل بقياس بقية العقود المشهود فيها في السفر على شهادة الوصية ، فقال بأنّ شهادة أهل الذمّة على المسلمين في السفر ماضية ، وزاد فجعلها بدون يمين . والأظهر عندي أنّ حكم الآية غير منسوخ ، وأنّ قبول شهادة غير المسلمين خاصّ بالوصية في السفر حيث لا يوجد مسلمون للضرورة ، وأنّ وجه اختصاص الوصية بهذا الحكم أنّها تعرض في حالة لا يستعدّ لها المرء من قبلُ فكان معذوراً في إشهاد غير المسلمين في تلك الحالة خشية الفوات ، بخلاف غيرها من العقود فيمكن الاستعداد لها من قبل والتوثّق لها بغير ذلك ؛ فكان هذا الحكم رخصة .
والحكمة التي من أجلها لم تقبل في شريعة الإسلام شهادة غير المسلمين إلاّ في الضرورة ، عند من رأى إعمالها في الضرورة ، أنّ قبول الشهادة تزكية وتعديل للشاهد وترفيع لمقداره إذ جعل خبره مَقطَعاً للحقوق . فقد كان بعض القضاة من السلف يقول للشهود : اتّقوا الله فينا فأنتم القضاة ونحن المنفّذون . ولمّا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم قد دعا الناس إلى اتّباع دينه فأعرض عنه أهل الكتاب لم يكونوا أهلاً لأن تزكّيهم أمّته وتسمهم بالصدق وهم كذّبوا رسولنا ، ولأنّ من لم يكن دينه ديننا لا نكون عالمين بحدود ما يزعه عن الكذب في خبره ، ولا لمجال التضييق والتوسّع في أعماله الناشئة عن معتقداته ، إذ لعلّ في دينه ما يبيح له الكذب ، وبخاصّة إذا كانت شهادته في حقّ لمن يخالفه في الدين ، فإنّنا عهدنا منهم أنّهم لا يتوخّون الاحتياط في حقوق من لم يكن من أهل دينهم . قال تعالى حكاية عنهم « ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين ( أي المسلمين ) سبيل » فمن أجل ذلك لم يكن مظنّة للعدالة ولا كان مقدارها فيه مضبوطاً . وهذا حال الغالب منهم ، وفيهم من قال الله في شأنه { من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك } [ آل عمران : 75 ] ولكن الحكم للغالب .
وأمّا حكم تحليف الشاهد على صدقه في شهادته : فلم يرد في المأثور إلاّ في هذا الموضع ؛ فأمّا الذين قالوا بنسخ قبول شهادة الكافر فتحليف شاهدي الوصية الكافرين منسوخ تبعاً ، وهو قول الجمهور . وأمّا الذين جعلوه محكَماً فقد اختلفوا ، فمنهم من خصّ اليمين بشاهدي الوصية من غير المسلمين ، ومنهم من اعتبر بعلّة مشروعية تحليف الشاهدين من غير المسلمين ، فقاس عليه تحليف الشاهدين إذا تطرّقت إليهما الريبة ولو كانا مسلمين . وهذا لا وجه له إذ قد شرط الله فيهما العدالة وهي تنافي الريبة ، نعم قد يقال : هذا إذا تعذّرت العدالة أو ضعفت في بعض الأوقات ووقع الاضطرار إلى استشهاد غير العدول كما هي حالة معظم بلاد الإسلام اليومَ ، فلا يبعد أن يكون لتحيلف الشاهد المستور الحال وجهٌ في القضاء . والمسألة مبسوطة في كتب الفقه .
وأمّا حكم تغليظ اليمين : فقد أخذ من الآية أنّ اليمين تقع بعد الصلاة ، فكان ذلك أصلاً في تغليظ اليمين في نظر بعض أهل العلم ، ويجيء في تغليظ اليمين أن يكون بالزمان والمكان واللفظ . وفي جميعها اختلاف بين العلماء . وليس في الآية ما يتمسّك به بواحد من هذه الثلاثة إلاّ قوله : { من بعد الصلاة } وقد بيّنتُ أنّ الأظهر أنّه خاصّ بالوصية ، وأمّا التغليظ بالمكان وباللفظ فتفصيله في كتب الخلاف .