التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (6)

وبعد أن بين - سبحانه - بعض مظاهر نعمه على عباده فيما يتعلق بمطاعمهم . وفي ما يتعلق بما يحل لهم من النساء . أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم فيما يتعلق بعبادتهم التي من أهمها الوضوء ، والغسل . والصلاة . وأمرهم بالمحافظة على شرعه لهم من شرائع وأحكام فقال - تعالى - :

{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة . . . }

قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - افتتح السورة بقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية .

فقوله : { أَوْفُواْ بالعقود } طلب الله - تعالى - من عباده أن يفوا بعهد العبودية . فكأنما قيل : يا إلهنا العهد نوعان : عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإِحسان . فقال - تعالى - : نعم أنا أوفى أولا بعهد الربوبية والكرم .

معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح فاستقصى - سبحانه - في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح . وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا بالوفاء بعهد الربوبية والكرم .

معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح فاستقصى - سبحانه - في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح . وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية .

ولما كان أعظم الطاعات بعد الإِيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة لا جرم بدأ - سبحانه - بذكر فرائض الوضوء فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } .

والمراد بالقيام إلى الصلاة إرادة القيام إليها ، والتهيؤ للدخول فيها من باب إطلاق المسبب وإرادة المسبب ، للإيجاز وللتنبيه على أن الشأن في المؤمنين أن يكونوا دائماً على ذكر من إرادتها ودم الإِهمال في أدائها .

وإنما قلنا المراد بالقيام إلى الصلاة إرادتها لأنه لو بقي الكلام على حقيقته للزم تأخير الوضوء عن الصلاة ، وهذا باطل بالإجماع .

وليس المراد بالقيام انتصاب القامة أو ما يشبه ذلك ، بل المراد به الاشتغال بأفعال الصلاة وأقوالها وكل ما يتعلق بذاتها .

قال الآلوسي ما ملخصه : وظاهر الآية يفيد وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم { الذين آمَنُواْ } من غير اختصاص بالمحدثين . لكن الإِجماع على خلاف ذلك ، فقد أخرج مسلم وغيره " أن النبي صلى الله عليه سلم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد . فقال له عمر : يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنعه . فقال صلى الله عليه وسلم : " عمداً فعلته يا عمر " " .

يعني : بيانا للجواز . فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة ، والمعنى : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون بقرينة دلالة الحال .

ولأنه اشتراط الحدث في البدل وهو التيمم ، فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا .

وقوله - تعالى - { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } صريح في البدلية .

ويحكى عن داود الظاهري أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يتوضأون لكل صلاة ، ورد بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب وقد ورد : " من توضأ على طهر كتب الله - تعالى - له عشر حسنات " .

وقوله : { فاغسلوا } من الغسل وهو إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه وزاد بعضهم : مع الدلك .

وقوله : { وُجُوهَكُمْ } جمع وجه . وهو مأخوذ من المواجهة .

وحد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضاً .

والمرافق : جمع مرفق - كمنبر ومجلس - وهو ملتقى عظم العضد بعظم الذراع .

والكعبين : تثنية كعب . وهما الجزءان البارزان في أعلى القدم .

والمعنى : يأيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون حدثا أصغر ، فاغسلوا وجوهكم ، أي : فأسيلوا الماء على وجوهكم ، وأسيلوه أيضاً على أيديكم إلى المرافق وامسحوا بأيديكم المبللة بالماء رءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين .

وهنا توسع الفقهاء وبعض المفسرين في ذكر مسائل تتعلق بهذه الآية نرى من الواجب الالمام بأهمها فنقول :

أولا : أخذ جمهور الفقهاء من قوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا } إلخ أن الوضوء لابد فيه من القصد إليه وإرادته لأجل الصلاة لا لأجل أي شيء آخر كالنظافة وغيرها مما يشبهها ، وذلك لأن الوضوء عمل من الأعمال التي يقصد بها المسلم الطاعة لله ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما الأعمال بالنيات " وعليه تكون النية ركنا من أركان الوضوء ، فإذا لم يقصد بوضوئه إرادة الصلاة وابتغاء رضاء الله ، لم تكن صلاته بهذا الوضوء صحيحة .

وقال الأحناف : إن النية في الوضوء ليست بفرض . لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة لذاتها .

وإنما هو وسيلة لغيره وهو الصلاة ، والنية إنما هي شرط في العبادة نفسها وهي الصلاة باعتبارها المقصد ، وليست شرطاً في الوسيلة وهي الوضوء .

وعليه فالوضوء يتحقق بغسل ما يجب غسله من الأعضاء المعروفة ، ومسح ما يجب مسحه منها ، وللمسلم أن يصلي بهذا الوضوء ما شاء من الفرائض والنوافل . قالوا : ومما يشهد بأن الوضوء وسيلة لعبادة ظاهر قوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } فإنه يدل على أن الصلاة هي المقصودة وهي الغاية أما الوضوء فقد شرع ليكون سبيلا إليها .

ثانيا : قوله { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } اتفق الفقهاء على وجوب غسل الوجه إلا أنهم اختلفوا في دخول المضمضة والاستنشاق فيه .

فجمهور الفقهاء اتفقوا على أنهما لا يدخلان في غسل الوجه ، بل هما سنتان كان يفعلهما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل غسل الوجه .

وقال بعض الفقهاء : المضمضمة والاستنشاق داخلان في الغسل .

ثالثاً : أخذ كثير من الفقهاهء من قوله - تعالى - { إِلَى المرافق } . . و { إِلَى الكعبين } أن المرافق داخله مع اليدين في وجوب الغسل ، وأن الكعبين داخلان مع الرجلين في وجوب الغسل .

قالوا : لأن { إلى } هنا بمعنى مع ، ولأن بعض علماء اللغة وعلى رأسهم سيبوية قد قرروا أن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها دخل في الحد ، وإذا لم يكن من نوعه لم يدخل . وهنا ما بعد إلى من نوع ما قبلها فوجب دخوله في الحد .

ولأن جعل ما قبل المرفقين حدا ، لا يصلح أن يكون علامة واضحة على ذلك ، ومن شأن العلامات أن تكون واضحة وهذا لا يتأتى إلا بغسل المرفقين والكعبين .

وفضلا عن كل ذلك فالمعروف من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل المرفقين والكعبين .

قال القرطبي : وهذا هو الصحيح لما رواه الدارقطني عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه " .

ويرى بعض الفقهاء أن غسل المرفقين والكعبين مستحب ، لأن الغاية من قوله : { إِلَى المرافق } و { إِلَى الكعبين } تحتمل أن تدخل المرافق والكعبين في الوجوب وتحتمل عدم الدخول ، ولا وجوب مع الاحتمال .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المسألة بقوله : قوله { إِلَى المرافق } تفيد معنى الغاية مطلقا . فأما دخولها في الحكم وخروجها ، فأمر يدور مع الدليل . فمما فيه دليل على الخروج قوله : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } لأن الإِعسار علة الإِنظار . وبوجود الميسرة تزول العلة . ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين معسراً وموسراً . وكذلك { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } لو دخل الليل لوجب الوصال في الصوم . ومما فيه دليل على الدخول قولك : حفظة القرآن من أوله إلى آخره - لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله . ومنه قوله - تعالى - : { مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } لوقووع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله .

وقوله { إِلَى المرافق } و { إِلَى الكعبين } لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل . وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها . " وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه " .

رابعا : أجمع الفقهاء على أن مسح الرأس من أركان الوضوء ، لقوله - تعالى - { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } إلا أنهم اختلفوا في مقدار المسح .

فال المالكية : يجب مسح جميع الرأس أخذا بالاحتياط ، وتبعهم في ذلك الحنابلة .

وقال الشافعية : يكفى مسح أقل ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين وقال الحنفية : يفترض مسح ربع الرأس .

ومنشأ الخلاف هنا اعتبار الباء زائدة أو أصلية . فقال المالكيبة والحنابلة إن الباء كما تكون أصلية تكون - أيضاً - زائدة لتقوية تعلق العامل بالمعمول واعتبارها هنا زائدة أولى ، لأن التركيب حينئذ يدل على مسح جميع الرأس ، ويكون البعض داخلا في ذلك .

وقال الأحناف والشافعية الباء هنا للتبعيض ، إلا أن البعض لم يقدره الشافعية بمقدار معين ، وقدره الأحناف بمقدار ربع الرأس أخذا من حديث المغيرة بن شعبة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته " قالوا : والناصية تساوي ربع الرأس .

قال بعض العلماء : والسنة الصحيحة وردت بالبيان . وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقص العمامة . وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر . وهذه هي التي استمر عليها صلى الله عليه وسلم فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي يداوم عليها . وهي مسح الرأس مقبلا ومدبراً . وإجراء غيرها في بعض الأحوال .

خامساً : قوله تعالى { وَأَرْجُلَكُمْ } وردت فيه قراءتان متواترتان .

إحداهما : بفتح اللام وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص الكسائي ويعقوب .

والثانية : بكسر اللام وهي قراءة الباقين .

أما قراءة النصب فعلى أن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } معطوف على قوله { وُجُوهَكُمْ } أو هو منصوب بفعل مقدر أي : وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين .

وأما قراءة الجر فعلى أن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } معطوف على { بِرُؤُوسِكُمْ } .

قال القرطبي ما ملخصه : فمن قرأ بالنصب جعل العامل " اغسلوا " وبنى على ذلك أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح . وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم واللازم من قوله في غير ما حديث . وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته . " ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء " ثم إن الله حدهما فقال : { إِلَى الكعبين } كما قال في اليدين { إِلَى المرافق } فدل على وجوب غسلهما .

ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء . فقال ابن العربي : اتفقت العلماء على وجوب غسلهما ، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين ، والرافضة من غيرهم . وتعلق الطبري بقراءة الخفض - أي قال بمسح الرجلين .

ثم قال : وقد قيل : إن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } بقراءة الخفض - معطوف على اللفظ دون المعنى - أي لفظ الرءوس - وهذا أيضاً يدل على الغسل ، فإن المراعي المعنى لا اللفظ وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب . وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال - تعالى - { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } بالجر لأن النحاس هو الدخان .

ثم قال : والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين السغل ما قدمناه ، وما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم

" ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " فخوفنا ذكر النار على مخالفة مراد الله . ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب . ومعلوم أن المسح ليس من شأنه الاستيعاب . ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما فتبين بهذا الحديث بطلان من قال بالمسح . إذ لا مدخل بطونهما عندهم ، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح .

ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما . وحسبك بهذا احجة في الغسل مع ما بيناه فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعنى فيها الغسل لا المسح وأن العامل في قوله و { وَأَرْجُلَكُمْ } وقوله { فاغسلوا } والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما . تقول : أكلت الخبز واللبن . أي : وشربت اللبن .

وقد عقد الإِمام ابن كثير فصلا أورد فيه - عند تفسيره لهذه الآية - كثيراً من الأحاديث التي وردت في غسل الرجلين ، وجعل عنوانه : " ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لابد منه " .

ومن هذه الأحاديث ما جاء في الصحيحين والسنن عن عثمان وعلى ابن عباس . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة ، وإما مرتين أو ثلاثاً . على اختلاف رواياتهم .

وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " .

وعن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رِجْلَ رَجل مثل الدرهم لم يغسله فقال : " ويل للأعقاب من النار " .

ثم قال ابن كثير : ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة . وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما ، أو أنه يجوز ذلك لما توعد على تركه ، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل . بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف .

ويرى الزمخشري أن قراءة الجر في قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } محمولة في المعنى على النصب ويكون السبب في عطفها على الرءوس المجرورة ، للإشارة إلى وجوب عدم الإِسراف في الماء . فقد قال : فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح ؟ قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها : فكانت مظنة للإِسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت على الثالث المسموح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها .

وقد وضح هذا المعنى الشيخ ابن المنير بقوله : لم يوجه الزمخشري قراءة الجر بما يشفي الغليل . والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث أن كل واحد منهما مساس بالعضو ، فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم ، كقوله : متقلداً سيفاً ورمحاً .

وعلفتها تبنا وماء باردا . ونظائره كثيرة .

ثم يقال : ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب ؟ وهلا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة ؟ فيقال : فائدته الإِيجاز والاختصار . وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا : واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد ، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح ، ونبه بهذا التشريك - الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جداً . على أن الغسل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح . وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة وهذا تقرير كامل لهذا المقصود .

هذا ومن كل ما تقدم نرى وجوب غسل الرجلين في الوضوء سواء أكانت القراءة بالنصب أم بالجر . وقد بسطت بعض كتب الفقه والتفسير هذه المسألة بسطا موسعا فليرجع إليها من شاء .

سادساً : أخذ الأحناف من هذه الآية الكريمة أن أركان الوضوء هي هذه الأربعة فحسب أي : غسل الوجه ، واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس ، وغسل الرجلين إلى الكعبين .

وقد أضاف جمهور الفقهاء إلى ذلك النية - كما سبق أن أشرنا - كما أضافوا الترتيب بين الأركان بحيث يغسل الوجه أولا ثم اليدان ثم من بعدهما مسح الرأس ، ثم غسل الرجلين ، لأن هذه الأركان قد ذكرت بهذا الترتيب في القرآن فيجب التزامه . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالف هذا الترتيب ولو مرة واحدة فوجب اتباع ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم .

وقال الأحناف : الترتيب ليس فرضاً ، لأن العطف بين الأركان بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا .

كذلك أضاف بعض الفقهاء إلى أركان الوضوء الموالاة بمعنى أن يواصل المتوضئ الاشتغال بوضوئه ولا ينقطع عنه . وذهب بعضهم إلى أن ذلك سنة .

والذي تطمئن إليه النفس أن المتوضئ إذا انقطع وضوؤه بعمل أجنبي لمدة جفت معها أعضاء الوضوء وجب عليه استئناف الوضوء مبتدئأ بأوله . أما إذا قطع المتوضئ وضوء لفترة قصيرة بحيث بقيت آثار الوضوء ظارهة فإنه في هذه الحالة يجوز له الاستمرار فيه .

تلك هي بعض المسائل التي رأينا أن نتكلم عنها بإيجاز بمناسبة حديثنا عن هذه الآية الكريمة وهناك مسائل أخرى تتعلق بها تكفلت كتب الفروع بتفصيلها . وقد انتقلت الآية الكريمة بعد حديثها عن الوضوء إلى الحديث عن الاغتسال وموجبة فقال - تعالى - { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } .

والجنب من أصابته الجنابة بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما مما تتحقق معه الجنابة . وكلمة جنب من الألفاظ التي يستوي فيها الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث لجريانها مجرى المصدر ، فيقال : رجل جنب ، وامرأة جنب ، وهما جنب ، ورجال ونساء جنب . . واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة ، لأن الجنابة معنى شرعي يستلزم من السملم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يتطهر .

وقوله { فاطهروا } أصله فتطهروا فأدغمت التاء في الطاء فسكنت فأتى بالهمزة .

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم الدخول في الصلاة فعليكم أن تتوضئوا قبل دخولكم فيها بأن تغسلوا وجوهكم وتغسلوا أيديكم إلى المرافق ، وتمسحوا برؤوسكم . وتغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، هذا إذا كنتم محدثين حدثاً أصغر وأردتم الصلاة أما إذا كنتم محدثين حدثا أكبر ، بأن كنتم جنبا بسبب خروج منى أو التقاء ختانين وأردتم الدخول في الصلاة فعليكم في هذه الحالة أن تتطهروا . أي : تغسلوا بالماء جميع بدنكم . لأن الأمر بالتطهر لما لم يتعلق بعضو دون عضو ، كان أمراً شاملا لتطهير جميع البدن ، بدليل أن الوضوء لما تعلق بعضو دون عضو نص الله - تعالى - في الآية على تلك الأعضاء التي أوجب غسلها .

وإنما حملت الطهارة هنا على الطهارة بالماء لأن الماء هو الأصل كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى - { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } ولأنه - سبحانه - قد ذكر بعد هذه الحملة ما يحل محل الماء عند فقده .

والتعبير بقوله { فاطهروا } فيه إشارة إلى وجوب العناية في تعميم الماء على الجسد كله ، وإيماء إلى أن النجاسة المعنوية قد عمت كل أجزاء الجسم ، فوجب أن تكون الطهارة عامة لكل أجزاء الجسم ولا شك أن الاغتسال بعد الجنابة أو الحيض أو النفاس فيه انتعاش الجسم بعد أن أصابه التعب والإِنهاك ، وفيه كذلك طهارة نفسية ، لأنه يبعث في الإِنسان حسن الاستعداد لذكر الله ، ولأداء تكاليفه .

قال الفخر الرازي : والدلك غير واجب في الغسل . وقال مالك : الدلك واجب وحجة غيره أن قوله { فاطهروا } أمر بتطهير البدن وتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك . ثم قال : والشافعي قال : المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل - ومثله في ذلك الإِمام مالك .

وقال أبو حنيفة - والحنابلة - هما : واجبان لأن الآية تقول { فاطهروا } وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم . وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس ، ما عدا الأجزاء الباطنة التي لا يمكن تطهيرها . وداخل الفم والأنف يمكن تطيرهما . فوجب بقاؤهما تحت النص . ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " بلوا الشعر وأنقوا البشرة فإن تحت كل شعرة جنابة " فقوله " بلوا الشعر " يدخل فيه الأنف . لأن داخله شعر . وقوله " وأنقوا البشرة " يدخل في الجلدة التي داخل الفم . وحجة الشافعي - ومالك قوله صلى الله عليه وسلم أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في مجلس جماعة من أصحابه كانوا يتحدثون أمامه في أمر الغسل ، وكل يبين ما يعمله .

ثم شرع - سبحانه - في بيان الأعذار التي تبيح التيمم من أجل الطهارة عند العجز عن استعمال الماء فقال - تعالى - : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } .

والمراد بالمرضى في قوله - تعالى - { وَإِن كُنتُم مرضى } المرض الذي يمنع من استعمال الماء مطلقاً كأن يكون اسعمال الماء يزيد المرض شدة ، أو يبطئ البرء .

وقوله { أَوْ على سَفَرٍ } في محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله مرضي وليس المراد بالسفر هنا سفر القصر ، وإنما المراد السير خارج العمران سواء أوصل المسافر إلى مسافة القصر أم لا ، بخلافة في قوله - تعالى - في سورة البقرة : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فإن المراد به هناك سفر القصر ، إنما قيد الأمر هنا بالسفر مع أن المنظور إليه عدم الماء لأن السفر هو الذي يغلب فيه عدم الماء بخلاف الحضر ولو فرض عدم الماء في الحضر وجب التيمم على المحدث عند إرادة الصلاة عند الحنفية والمالكية والشافعية .

وقوله { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط } معطوف على ما قبله والغائط : من الغيط وهو المكان المنخفض من الأرض . وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت أن من يريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس .

وفي إسناد المجيء إلى واحد من مبهم من المخاطبين ، سمو في التعبير . حيث تحاشى - سبحانه - التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو يستهجن التصريح به . وفي ذلك ما فيه من تعليم الناس الأدب في الخطاب ، والبعد عن الألفاظ التي تخدش الحياء ، ويمجها الذوق السليم .

والمراد بالملامسة في قوله تعالى { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } الجماع : فهو هنا كناية عما يكون بين الرجل والمرأة مما يوجب الاغتسال : وهي كناية قرآنية أراد - سبحانه - أن يعلم الناس منها حسن التعبير ، والبعد عن الألفاظ التي تتنافى مع آداب الإِسلام وتعاليمه السامية .

وإلى هذا الرأي اتجه كثير من الصحابة ، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس وأبو موسى .

وتبعهم في ذلك كثير من الفقهاء كأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والثوري فقد قالوا : لا ضوءو على من مس امرأة سواء أكان المس بشهوة أو بدونها . واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل نساءه ثم يصلي ولم يتوضأ وكان يقبلهن وهو صائم .

واستدلوا - أيضاً - بأن ظاهر مادة المفاعلة يكون في الفعل من الجانبين مقصوداً ، وذلك إنما يتأتى في الجماع دون اللمس باليد . وأيضاً فإن اللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلا أنه قد عهد في القرآن إطلاقه كناية عن الجماع كما في قوله - تعالى -

{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } ويرى جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود أن المراد بالملامسة هنا اللمس باليد ، وكانا يوجبان على من مس امرأة الوضوء .

وقد سار الإِمام الشافعي على هذا الرأي فقال : إذا مس جسدها فعليه الوضوء سواء أكان المس بشهوة أم بغير شهوة .

ومن أدلته أن اللمس حقيقة في المس باليد ، وهو في الجماع مجاز أو كناية ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا عند تعذر الحقيقة ويرى الإِمام مالك أن اللمس إن كان بشهوة وتلذذ فعليه الوضوء ، وكاذا إذا مسته بشهوة وتلذذ ، وإن كان بغير شهوة فلا وضوء عليهما .

وقد انتصر كل فريق لرأيه بصورة أوسع من ذلك في كتب الفروع . والذي نراه أولى بالصواب في هذ المسألة ما قاله الإِمام مالك - رحمه الله - لأنه بني رأيه على وجود الشهوة وعدمها . والفاء في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله { وَإِن كُنتُم مرضى } .

والضمير في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ } يعودل لكل ما تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس وفيه تغليب للخطاب على الغيبة .

والمراد بعدم الوجدان في قوله هنا { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } ما هو أعم من الوجود الحسي أي : أن قوله : " فلم تجدوا ماء " كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا ، إذ أن الشيء المتعذر استعماله هو والمعدوم سواء .

وقوله : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } جواب الشرط وهو قوله : { وَإِن كُنتُم مرضى } .

والمعنى : وإن كنتم - أيها المؤمنون - في حالة مرض يحول بينكم وبين استعمال الماء أو كنتم مستقرين على سفر ؛ أو كنتم محدثين حدثاً أصغر أو أكبر ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء تستعملونه لطهارتكم ، ولأداء ما كلفكم الله به من تكاليف ، أو وجدتموه ولكن منعكم مانع من استعماله ، أو كنتم في حاجة ماسة إليه ، فعليكم في هذه الأحوال أن تتيمموا صعيداً طيبا بدلا من الماء ، فإن الله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين } ومنهم من يرى أن الضمير في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } يعود إلى الجميع ما عدا المرضي ، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله . وعلى هذا الرأي يكون المراد بعدم الوجدان ، عدم الوجدان الحسي .

والتيمم لغة القصد . يقال تيممت الشيء إذا قصدته .

ويطلق في الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به .

وأما الصعيد - بوزن فعيل - فيطلق على وجه الأرض البارز ترابا كان أو غيره . وقيل يطلق على التراب فحسب .

والطيب : الطاهر الذي لم تلوثه نجاسة ولا قذر .

وقوله : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } بيان لكيفية التيمم .

أي : إذا لم تجدوا ماء للتطهر به ، أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله ، فاقصدوا ترابا طاهرا فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم .

وقد استدل بعض الفقهاء بقوله : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } على أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر ، لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب .

ويرى بعض آخر أن التيمم يجوز التراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض . متى كان طاهراً . قالوا : لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض . وهذه الصفة لا تختص بالتراب .

قال القرطبي - بعد أن ذكر آراء الفقهاء في ذلك - " وإذا تقرر هذا فالعم أن مكان الإجماع فيما ذكرناه أن تيمم الرجل على تراب طاهر غير منقول ولا مغصوب . ومكان الإِجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب والصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما أو على النجاسات واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره " .

كما استدل الأحناف والشافعية بقوله - تعالى - { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } على أن التيمم المطلوب شرعا هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهير . والعضوان هما الوجه واليدان إلى المرفقين ، فقد جاء في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " التيمم ضربتان ضربة للوجه . وضربة للذراعين إلى المرفقين " .

ويرى الحنابلة والمالكية أن العضوين هما الوجه واليدين إلى الرسغين . هذا ، وقد تكلمنا عن هذه المسألة وغيرها بصورة أوسع عند تفسينا لقوله - تعالى - في سورة النساء : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان بعض مظاهر رحمته بعباده ، ورعايته لمصالحهم فقال - تعالى { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .

أي : ما يريد الله - تعالى - بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة ومن الغسل بعد الجنابة ، ومن الأمر بالتيمم عند وجود أسبابه ، ما يريد - سبحانه - بذلك { لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي ضيق ومشقة وعسر ، ولكن يريد بذلك ليطهركم .

أي : ليطهر نفوسكم من الأرجاس الحسية والمعنوية وليزيل عنها ما علق بها من ذنوب وأوساخ ، ويريد بذلك أيضاً { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } بما شرع لكم من أحكام ميسرة ومن آداب عالية ، ومن تكاليف جليلة لكي تشكروه على نعمه وإحسانه وتشريعاته ، لأنكم متى شكرتموه زادكم من فضله ومننه .

وعبر - سبحانه - عن نفي الحرج بنفي إرادته ، مبالغة في بيان رأفته - سبحانه - بعباده ، ورعايته لمصالحهم . فكأنه - سبحانه - يقول : ما كان من شأن الله - تعالى - مع عباده أن يشرع لهم ما فيه مشقة أو حرج .

وقوله { لِيَجْعَلَ } يحتمل أن يكون الجعل بمعنى الخلق والإِِيجاد فيتعدى لواحد وهو قوله : { مِّنْ حَرَجٍ } وتكون { من } زائدة لتأكيد النفي وقوله { عَلَيْكُم } متعلق بالجعل . ويحتمل أن يكون بمعنى التصير فيكون قوله { عَلَيْكُم } هو المفعول الثاني ، وقوله : { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } استدراك قصد به بيان بعض مظاهر رحمته - سبحانه - بالمؤمنين ومحبته لسعادتهم ولتزكية نفوسهم وتطيرها من الذنوب والأدران كما قصد به حضهم على مداومة شكره حتى يزيدهم من فضله .

وقريب من معنى هذه الجملة قوله - تعالى - { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقوله تعالى - { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما أرادوا الدخول في الصلاة ، وما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما كانوا جنبا ، وما يجبع أن يفعلوه إذا ما فقدوا الماء أو عجزوا عن استعماله وكانوا يريدون الطهارو أو أداء ما علهيم من تكاليف ، كما بينت لهم حكمة الله في تشريعاته لهم ، ورعايته لمصالحهم حتى يشكروه على نعمه فيزيدهم منها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (6)

إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحّص : من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولاً ، وأنّها نزلت في عام حجّة الوداع ، جَزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيراً بنعمة عظيمة من نعم التّشريع : وهي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهُّر بالماء ، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبْل ، وإنَّما ذُكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ الله بها على المسلمين ، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصّلاة ، وبأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ . وقد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى } في سورة النّساء ( 43 ) الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أهي آية سورة النّساء ، أم آية سورة المائدة . وذكرنا هنالك أنّ حديث الموطأ من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سَمّاها آية التيمّم ، وأنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم ، وكذلك اختار الواحدي في « أسباب النّزول » ، وذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حُريث عن عائشة : أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية ، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمان بن القاسم ، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة ، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهواً من أحد رواتِه غير عبدِ الرحمان بن القاسم وأبِيهِ ، أراد أن يذكر آية { يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتُم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون ولا جُنباً إلاّ عابري سبيل حتّى تغتسلوا } ، وهي آية النّساء ( 43 ) ، فذكر آية { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية . فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية { يأيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة } قد نزلت قبل نزول سورة المائدة ، ثُمّ أعيد نزولها في سورة المائدة ، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة ، والأرجح عندي : أن يكون ما في حديث البخاري وهماً من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة .

فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمّم خلفاً عن الوضوء بنصّ القرآن ؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآنٍ فيه ولكنّه كان مشروعاً بالسنّة . ولا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعاً من قبل ذلك ، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة إلاّ بوضوء . قال أبو بكر ابن العربي في « الأحكام » « لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية ، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولاً قبل نزولها غير متلوّ ولذلك قال علماؤنا : إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة ، معناه كان بالسنّة . فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلاّ فرضاً .

وقد روى ابن إسحاق وغيره أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لمّا فرض الله سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظُهْر ذلك اليوْم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضّأ معلِّماً له وتوضّأ هو معه فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح وإنْ كان لم يروه أهل الصّحيح ولكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه اهـ .

وفي « سيرة ابن إسحاق » ثُمّ انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجةَ فتوضّأ لها ليريها كيف الطُهور للصّلاة كما أراه جبريل اهـ . وقولهم : الوضوء سنّة روي عن عبد الله بن مسعود . وقد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة . قال بعض علمائنا : ولذلك قالوا في حديث عائشة : فنزلت آية التّيمّم ؛ ولم يقولوا : آية الوضوء ؛ لمعرفتهم إيَّاه قبل الآية .

فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة ، إذ لم يذكر العلماء إلاّ شرع الصّلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك ، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن . وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل ، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء ؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة ، وقد وضّحنا ذلك في سورة النّساء . ولذلك أجمل التّعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا { فاطَّهّروا } ، وقوله هنالك { تغتسلوا } [ النساء : 43 ] ، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضاً عن الوضوء .

ومعنى { إذا قمتم إلى الصّلاة } إذا عزمْتم على الصّلاة ، لأنّ القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل ، قال الشاعر :

فقام يذود النّاس عنها بسيفه *** وقال ألا لا من سبيل إلى هند

وعلى العزم على الفعل ، قال النابغة :

قاموا فقالوا حمانا غيرُ مقروب

أي عزموا رأيهم فقالوا . والقيام هنا كذلك بقرينة تعديته ب ( إلى ) لتضمينه معنى عمدتم إلى أن تصلّوا .

وروى مالك في « الموطّأ » عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم ، وهو مروي عن السديُّ . فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية ، وكلّها تَؤُول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة .

وأمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شُرط ب { إذا قمتم } فاقتضى طلبُ غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة . والأمر ظاهر في الوجوب . وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف ؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوبُ الوضوء لكلّ صلاة ونسبه الطبرسي إلى داوود الظاهري ، ولم يذكر ذلك ابن حزم في « المحلّى » ولم أره لغير الطبرسي .

وقال بريدة بن أبي بردة : كان الوضوء واجباً على المسلمين لكلّ صلاة ثُمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى الله عليه وسلم فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد ، وصلّى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد . وقال بعضهم : هذا حكم خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه ، كيفَ وهي مصدّرة بقوله : { يأيّها الّذين آمنوا } . والجمهور حملوا الآية على معنى « إذا قمتُم محدثين » ولعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء ( 43 ) المصدّرة بقوله : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - إلى قوله- ولا جُنباً } الآية . وحملوا ما كان يفعله النّبيء صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضاً على النّبيء صلى الله عليه وسلم خاصّاً به غير داخل في هذه الآية ، وأنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة ؛ ومنهم من حمله على أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لِكلّ صلاة . وهو الّذي لا ينبغي القول بغيره . والّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب الوضوء . وإنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها ؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط ، هو القيام إلى الصّلاة ، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة ثمّ بيّن هذا الإجمال بقوله : { وإنْ كنتم مرضى -إلى قوله- أو جاء أحد منكم من الغائط -إلى قوله- فلم تجدوا ماء فتيمّموا } فجعل هذه الأشياء موجبة للتّيمّم إذا لم يوجد الماء ، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أنّ امتثال الأمر يستمرّ إلى حدوث حادث من هذه المذكورات ، إمّا مانِعٍ من أصل الوضوء وهو المرض والسفر ، وإمَّا رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ، فإن وجد الماء فالوضوء وإلاّ فالتيمّم ، فمفهوم الشرط وهو قوله : { وإن كنتم مرضى } ومفهوم النّفي وهو { فلم تجدوا ماء } تأويل بَيِّن في صرف هذا الظّاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل ، وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنّه لقصد الفضيلة لا للوجوب .

وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنّة واجبة . وحدّدت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأنّ اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النّظافة وسكتت في التّيمّم فعلمنا أنّ السكوت مقصود وأنّ التيمّم لمّا كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو ، ولذلك اقتصر على قوله : { وأيديكم } في التيمّم في هذه السورة وفي سورة النّساء . وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة ، وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما .

وقد اختلف الأيمّة في أنّ المرافق مغسولة أو متروكة ، والأظهر أنّها مغسولة لأنّ الأصل في الغاية في الحدّ أنّه داخل في المحدود . وفي « المدارك » أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحدّ في المحدود فتوقّف فيها . ثمّ قال للسائل بعد أيّام : قرأت « كتاب سيبويه » فرأيت أنّ الحدّ داخل في المحدود . وفي مذهب مالك : قولان في دخول المرافق في الغسل ، وأوْلاهما دخولهما . قال الشيخ أبو محمد : وإدخالهما فيه أحوط لزوال تَكلُّف التحديد . وعن أبي هريرة : أنّه يغسل يديه إلى الإبطين ، وتؤوّل عليه بأنّه أراد إطالة الغُرّة يوم القيامة . وقيل : تكره الزيادة .

وقوله : { وأرجلكم } قرأه نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوبُ بالنّصب عطفاً على { وأيديكم } وتكون جملة { وامسحوا برؤوسكم } معترضة بين المتعاطفين . وكأنّ فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يدلّ على التّرتيب الوجودي ، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة ؛ إذ حكمة الوضوء وهي النّقاء والوضاءة والتنظّف والتأهّب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشدّ تعرّضاً للوسخ ؛ فإنّ الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتُفرز الفضلات بكثرة حركة المشي ، ولذلك كان النّبيء صلى الله عليه وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها ، وقد نادَى بأعلى صوته للذي لم يُحسن غسل رجليه " وَيْلٌ للأعقاب من النّار "

وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف بخفض { وأرجلكم } . وللعلماء في هذه القراءة تأويلات : منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكمَ الرجلين المسح دون الغسل ، وروي هذا عن ابن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة . وعن أنس بن مالك أنّه بلغه أنّ الحجّاج خطب يوماً بالأهواز فذكر الوضوء فقال : « إنَّه ليس شيء من ابن آدم أقربَ مِن خبثه مِن قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما » فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق اللّهُ وكذب الحجّاج قال الله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم } . ورويت عن أنس رواية أخرى : قال نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل ، وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسحُ الرجلين منسوخاً بالسنّة ، ففي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضّؤون وأعقابهم تلوح ، فنادى بأعلى صوته « ويل للأعقاب من النّار » مرّتين . وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التّابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذّ عن ذلك إلاّ الإمامية من الشيعة ، قالوا : ليس في الرجلين إلاّ المسح ، وإلاّ ابن جرير الطبري : رأى التخيير بين الغسل والمسح ، وجعَل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجّح .

واستأنس الشعبي لمذهبه بأنّ التيمّم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء . ومن الذين قرأوا بالخفض من تأوّل المسح في الرجلين بمعنى الغسل ، وزعموا أنّ العرب تسمّي الغسل الخفيف مسحاً وهذا الإطلاق إن صحّ لا يصحّ أن يكون مراداً هنا لأنّ القرآن فرّق في التعبير بين الغسل والمسح .

وجملة { وإن كنتم جنباً فاطّهروا إلى قوله وأيديكم منه } مضى القول في نظيره في سورة النّساء بما أغنى عن إعادته هنا .

وجملة { مَا يريد الله ليجعل عليكم من حرج } تعليل لرخصة التيمّم ، ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأنّ المريد الّذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق .

واللام في { ليجعل } داخلة على أن المصدرية محذوفةً وهي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة وأفعال مادّة الأمر ، وهي لام زائدة على الأرجح ، وتسمّى لام أَنْ . وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يُريد الله ليبيّن لكُم } في سورة النّساء ( 26 ) ، وهي قريبة في الموقع من موقع لام الجحود .

والحرج : الضيق والشدّة ، والحَرَجَة : البقعة من الشجر الملتفّ المتضايق ، والجمع حَرَج . والحَرج المنفي هنا هو الحرج الحِسّي لو كلّفوا بطَهارة الماء مع المرض أو السفر ، والحرجُ النفسي لو مُنِعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضرّ أو سفرٍ أو فقد ماء فإنّهم يرتاحون إلى الصّلاة ويحبّونها .

وقوله : { ولكن يريد ليطهّركم } إشارة إلى أنّ من حكمة الأمر بالغسل والوضوء التطهير وهو تطهير حسّي لأنّه تنظيف ، وتطهير نفسي جعله الله فيه لمّا جعله عبادة ؛ فإنّ العبادات كلّها مشتملة على عدّة أسرار : منها ما تهتدي إليه الأفهام ونعبر عنها بالحكمة ؛ ومنها ما لا يعلمه إلاّ الله ، ككون الظهر أربع ركعات ، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أنّ الحكمَ منحصرة فيما علمناه وإنّما هو بعض من كلّ وظنّ لا يبلغ منتهى العلم ، فلمّا تعذّر الماء عوّض بالتيمّم ، ولو أراد الحرج لكلّفهم طلب الماء ولو بالثّمن أو ترك الصّلاة إلى أن يوجد الماء ثُمّ يقضون الجميع . فالتيمّم ليس فيه تطهير حسّي وفيه التّطهير النّفسي الذي في الوضوء لمّا جُعل التّيمّم بدلاً عن الوضوء ، كما تقدّم في سورة النساء .

وقوله { وليتمّ نعمته عليكم } أي يكمل النّعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام ، أو ويكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الرّاجعة إلى التزكيّة والتطهير مع التيْسير في أحوال كثيرة . فالإتمام إمّا بزيادة أنواع من النّعم لم تكن ، وإمّا بتكثير فروع النّوع من النّعم .

وقوله : { لعلّكم تشكرون } أي رجاء شكركم إيّاه . جعل الشكر علّة لإتمام النّعمة على طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلى الأمر لقصد الحثّ عليه وإظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول .