التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَعَنَتِ ٱلۡوُجُوهُ لِلۡحَيِّ ٱلۡقَيُّومِۖ وَقَدۡ خَابَ مَنۡ حَمَلَ ظُلۡمٗا} (111)

وقوله - سبحانه - : { وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم . . . } مؤكد ومقرر لما قبله من خشوع الأصوات يوم القيامة للرحمن ، ومن عدم الشفاعة لأحد إلا بإذنه - عز وجل - .

والفعل { وَعَنَتِ } بمعنى ذلت يقال : عنا فلان يعنو عُنوا - من باب سما - إذا ذل لغيره وخضع وخشع ، ومنه قيل للأسير عانٍ لذله وخضوعه لمن أسره .

أى : وذلت وجوه الناس وخضعت فى هذا اليوم لله - تعالى - وحده ( الحى ) أى : الباقى الذى له الحياة الدائمة التى لا فناء معها { القيوم } أى : الدائم القيام بتدبير أمر خلقه وإحيائهم وإماتتهم ورزقهم . . . وسائر شئونهم .

وهذا اللفظ مبالغة فى القيام . وأصله قيووم بوزن فيعول . . . من قام بالأمر . إذا حفظه ودبره .

وخصت الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء ، وآثار الذل أكثر ما تكون ظهورا عليها .

وظاهر القرآن يفيد أن المراد بالوجوه جميعها ، سواء أكانت للمؤمنين أم لغيرهم ، فالكل يوم القيامة خاضع لله - تعالى - ومستسلم لقضائه ، فالألف واللام للاستغراق .

قال ابن كثير : قوله - تعالى - : { وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم } قال ابن عباس وغير واحد - من السلف - خضعة وذلت واستسلمت الخلائق لخالقها وجبارها الحى الذى لا يموت . . .

ويرى بعضهم أن المراد بالوجوه التى ذلت وخشعت فى هذا اليوم ، وجوه الكفار والفاسقين ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال : المراد بالوجوه وجوه العصاة ، وأنهم إذا عاينوا - يوم القيامة - الخيبة والشقوة وسوء الحساب وصارت وجوههم عانية ، أى : ذليلة خاشعة ، مثل وجوه العناة وهم الأسارى ، ونحوه قوله - تعالى - : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } ويبدو لنا أن القول الأول أقرب إلى الصواب ، لأن جميع الوجوه يوم القيامة تكون خاضعة لحكم الله - تعالى - ومستسلمة لقضائه .

وقوله : { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } جملة حالية ، أى : ذلت جميع الوجوه لله - تعالى - يوم القيامة ، والحال أنه قد خاب وخسر من حمل فى دنياه ظلما ، أى : شركا بالله - تعالى - أو فسوقا عن أمره - سبحانه - ولم يقدم العمل الصالح الذى ينفعه فى ذلك اليوم العسير .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَعَنَتِ ٱلۡوُجُوهُ لِلۡحَيِّ ٱلۡقَيُّومِۖ وَقَدۡ خَابَ مَنۡ حَمَلَ ظُلۡمٗا} (111)

{ وعنت } معناه ذلت ، والعاني الأسير ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمر النساء : «هن عوان عندكم{[8161]} » وهذه حالة الناس يوم القيامة . وقال طلق بن حبيب : أراد سجود الناس على الوجوه والآراب السبعة{[8162]} .

قال القاضي أبو محمد : وإن كان روي هذا أن الناس يوم القيامة سجوداً وجعل هذه الآية إخباراً فهو مستقيم وإن كان أراد سجود الدنيا فإنه أفسد نسق الآية ، و { القيوم } بناء مبالغة من قيامه عز وجل على كل شيء بما يجب فيه ، و { خاب } معناه لم ينجح ولا ظفر بمطلوبه ، والظلم يعم الشرك والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم فخيبة المشرك على الإطلاق ، وخيبة المعاصي مقيدة بوقت وحد في العقوبة .


[8161]:هذا جزء كم خطبة الوداع، وقد أوصى فيها بالنساء، قال صلوات الله وسلامه عليه، كما في مسند الإمام أحمد، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه: (فاتقوا الله عز وجل في النساء؛ فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإن لهن عليكم حقا ولكم عليهن حقا)،والحديث طويل، وقد أخرجه مسلم في الحج، وأبو داود في المناسك، والدرامي، وابن ماجه كذلك في المناسك، وأحمد (5 ـ 73).
[8162]:هكذا في الأصول، وفي بعض النسخ: "والآراب السبعة".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَعَنَتِ ٱلۡوُجُوهُ لِلۡحَيِّ ٱلۡقَيُّومِۖ وَقَدۡ خَابَ مَنۡ حَمَلَ ظُلۡمٗا} (111)

جملة { وعَنَتِ الوجوهُ للِحَيّ القيُّوم } معطوفة على جملة { وخَشَعَتِ الأصواتُ للرحمان } ، أي ظهر الخضوع في الأصوات والعناء في الوجوه .

والعناء : الذلة ، وأصله الأسر ، والعاني : الأسير . ولما كان الأسير ترهقه ذلة في وجهه أسند العناء إلى الوجوه على سبيل المجاز العقلي ، والجملة كلها تمثيل لحال المجرمين الذين الكلام عليهم من قوله { ونحشر المجرمين يومئذ رزْقاً } [ طه : 102 ] ، فاللاّم في { الوجوه عوض عن المضاف إليه ، أي وجوههم ، كقوله تعالى : { فإن الجحيم هي المأوى } [ النازعات : 39 ] أي لهم . وأما وجوه أهل الطاعات فهي وجوه يومئذ ضاحكة مستبشرة .

ويجوز أن يجعل التعريف في { الوجوه على العموم ، ويراد بعنت خضعت ، أي خضع جميع الناس إجلالاً لله تعالى .

والحيُّ : الذي ثبت له وصف الحياة ، وهي كيفية حاصلة لأرقَى الموجودات ، وهي قوّة للموجود بها بقاء ذاته وحصول إدراكه أبداً أوْ إلى أمد مّا . والحياة الحقيقية هي حياة الله تعالى لأنّها ذاتية غير مسبوقة بضدها ولا منتهية .

والقيوم : القائم بتدبير النّاس ، مبالغة في القَيّم ، أي الذي لا يفوته تدْبير شيء من الأمور .

وتقدم { الحي القيوم } في سورة البقرة ( 255 ) .

وجملة { وقد خَابَ من حَمَلَ ظُلْماً } ؛ إما معترضة في آخر الكلام تفيد التعليل إن جُعل التعريف في { الوجوه عوضاً عن المضاف إليه ، أي وجوه المجرمين . والمعنى : إذ قد خاب كلّ من حمل ظلماً ؛ وإما احتراس لبيان اختلاف عاقبة عناء الوجوه ، فمن حمل ظلماً فقد خاب يومئذ واستمر عناؤه ، ومن عمل صالحاً عاد عليه ذلك الخوف بالأمن والفرح . والظلم : ظلم النفس .