الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞وَعَنَتِ ٱلۡوُجُوهُ لِلۡحَيِّ ٱلۡقَيُّومِۖ وَقَدۡ خَابَ مَنۡ حَمَلَ ظُلۡمٗا} (111)

قوله تعالى : " وعنت الوجوه " أي ذلت وخضعت ، قاله ابن الأعرابي وغيره . ومنه قيل للأسير عان . قال أمية بن أبي الصلت :

مليكٌ على عرش السماء مُهَيْمِنٌ *** لعزَّتِه تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ

وقال أيضا :

وعنا له وَجْهِي وخَلْقِي كلُّه *** في الساجدين لوجهه مَشْكُوراً

قال الجوهري : عنا يعنو خضع وذل وأعناه غيره ، ومنه قوله تعالى : " وعنت الوجوه للحي القيوم " . ويقال أيضا : عنا فيهم فلان أسيرا ، أي قام فيهم على إساره واحتبس . وعناه غيره تعنية حبسه . والعاني الأسير . وقوم عناة ونسوة عوان . وعنت أمور نزلت . وقال ابن عباس : " عنت " ذلت . وقال مجاهد : خشعت . الماوردي : والفرق بين الذل والخشوع{[11178]} - وإن تقارب معناهما - أن الذل أن يكون ذليل النفس ، والخشوع أن يتذلل لذي طاعة . وقال الكلبي " عنت " أي علمت . عطية العوفي : استسلمت . وقال طلق بن حبيب : إنه وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود . النحاس : " وعنت الوجوه " في معناه قولان : أحدهما : أن هذا في الآخرة . وروى عكرمة عن ابن عباس " وعنت الوجوه للحي القيوم " قال : الركوع والسجود ، ومعنى " عنت " اللغة القهر والغلبة ، ومنه فتحت البلاد عنوة أي غلبة ، قال الشاعر{[11179]} :

فما أخذوها عَنْوَةً عن مَوَدَّةٍ *** ولكن بضرب المَشْرَفِيّ استَقَالَهَا

وقيل : هو من العناء بمعنى التعب ، وكنى عن الناس بالوجوه ؛ لأن أثار الذل إنما تتبين في الوجه . " للحي القيوم " وفي القيوم ثلاث تأويلات ، أحدهما : أنه القائم بتدبير الخلق . الثاني : أنه القائم على كل نفس بما كسبت . الثالث : أنه الدائم الذي لا يزول ولا يبيد . وقد مضى في " البقرة " {[11180]} . " وقد خاب من حمل ظلما " أي خسر من حمل شركا .


[11178]:في ك: الخضوع.
[11179]:أنشده الفراء لكُثَيّر كما في "اللسان".
[11180]:راجع جـ 3 ص 271 فما بعد.