التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (110)

وقوله - سبحانه - : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } ، أي : عذبوا وأوذوا من أجل أن يرتدوا إلى الكفر .

وأصل الفتن : إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته ، ثم استعمل في الاختبار والامتحان بالمحن والشدائد ، وبالمنح واللطائف ، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة ، وأكثر ما تستعمل الفتنة في الامتحان والمحن ، وعليه يحمل بعضهم تفسير الفتنة بالمحنة .

والمراد بهؤلاء الذين هاجروا من بعد ما فتنوا - كما يقول ابن كثير - : جماعة كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم ، فوافقوهم على الفتنة ، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا . .

والمعنى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ } - أيها الرسول الكريم - تكفل بالولاية والمغفرة لهؤلاء الذين هاجروا من دار الكفر إلى دار الإِسلام ، من بعد أن عذبهم المشركون لكي يرتدوا عن دينهم .

قال الآلوسي : وقرأ ابن عامر : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } ، بالبناء للفاعل ، وهو ضمير المشركين عند غير واحد ، أي : عذبوا المؤمنين ، كالحضرمي ، أكره مولاه " جبرا " حتى ارتد ، ثم أسلما وهاجرا . . .

وقوله - تعالى - : { ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ } ، أي : جاهدوا المشركين حتى تكون كلمة الله هي العليا ، وصبروا على البلاء والأذى طلبا لرضا الله - تعالى - .

والضمير في قوله : { من بعدها } ، يعود إلى ما سبق ذكره من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر . أي : إن ربك - أيها الرسول الكريم - من بعد هذه الأفعال لكثير المغفرة والرحمة لهم ، جزاء هجرتهم وجهادهم وصبرهم على الأذى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (110)

وقوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا } الآية ، قال ابن عباس : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ، فاستغفروا لهم ، فنزلت : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم }{[7426]} [ النساء : 97 ] ، إلى آخر الآية قال : وكتب بها إلى من بقي بمكة من المسلمين وأن لا عذر لهم ، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 العنكبوت : 10 ] إلى آخر الآية{[7427]} ، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير ، ثم نزلت فيهم : { ثم إن ربك للذين هاجروا } الآية ، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا ، وقتل من قتل .

قال القاضي أبو محمد : جاءت هذه الرواية هكذا أن بعد نزول الآية خرجوا ، فجيء الجهاد الذي ذكر في الآية ، جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروت طائفة أنهم خرجوا وأتبعوا ، وجاهدوا متبعيهم ، فقتل من قتل ، ونجا من نجا فنزلت الآية حينئذ ، فعنى بالجهاد المذكور جهادهم لمتبعيهم ، وقال ابن إسحاق : ونزلت هذه الآية في عمار بن ياسر ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد .

قال القاضي أبو محمد : وذكر عمار في هذا عندي غير قويم ، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من شرح بالكفر صدراً{[7428]} فتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية ، وقال عكرمة والحسن : نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه ، فكأنه يقول من بعد ما فتنهم الشيطان وهذه الآية مدَنية ، ولا أعلم في ذلك خلافاً ، وإن وجد فهو ضعيف ، وقرأ الجمهور : «من بعد ما فُتِنوا » ، بضم الفاء وكسر التاء ، وقرأ ابن عامر وحده «فَتَنوا » ، بفتح الفاء والتاء ، فإن كان الضمير للمعذبين فيجيء بمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا للمشركين من القول ، كما فعل عمار ، وإن كان الضمير للمعذبين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم المشركون ، وإن كان الضمير للمشركين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم الشيطان . والضمير في : { بعدها } ، عائد على الفتنة ، أو على الفعلة ، أو الهجرة ، أو التوبة ، والكلام يعطيها ، وإن لم يجر لها ذكر صريح .


[7426]:من الآية (97) من سورة (النساء).
[7427]:من الآية (8) من سورة (البقرة).
[7428]:جاءت هذه الجملة في بعض النسخ: "وإنما هؤلاء من باب: فمن شرح بالكفر صدرا".