التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ} (169)

وبعد هذا الحديث الكاشف عن طبيعة المنافقين وعن أحوالهم ، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الشهداء وفضلهم وما أعده الله لهم من نعيم مقيم فقال - تعالى - : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ . . } .

قوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } كلام مستأنف ساقه الله - تعالى - لبيان أن القتل فى سبيل الله الذى يحذره المنافقون ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر ، بل هو أجل المطالب وأسناها ، إثر بيان أن الحذر لا يدفع القدر ، لأن من قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه . ومن لم يقدر له ذلك لا خوف عليه منه .

فهذه الآيات الكريمة رد على شماتة المنافقين إثر الردود السابقة ، وتحريض للمؤمنين على القتال ، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة هى أن الاستشهاد فى سبيل الله ليس فناء بل هو بقاء .

والخطاب فى قوله " ولا تحسبن " للنبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى له الخطاب .

والحسبان : الظن ، والنهى بلا هنا منصب على هذا الظن ، أى أنهاكم عن أن تظنوا أنهم أموات ، ونون التوكيد فى قوله " ولا تحسبن " لتأكيد هذا النهى .

أى : لا تحسبن أيها الرسول الكريم ، أو أيها المؤمن أن الذين قتلوا فى سبيل الله ، من أجل إعلان كلمته ، لا تحسبنهم أمواتا لا يحسون شيئاً ولا يتلذون ولا يتنعمون ، بل هم أحياء عند ربهم ، يرزقون رز الأحياء ، ويتنعمون بألوان النعم التى أسبغها الله عليهم ، جزاء إخلاصهم وجهادهم وبذلهم أنفسهم فى سبيل الله .

وقوله { الذين } مفعول أول لقوله : { تَحْسَبَنَّ } وقوله { أَمْوَاتاً } مفعوله الثانى وقوله { أَحْيَاءٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى بل هم أحياء .

وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } يصح أن يكون خبرا ثانيا للمبتدأ المقدر أو صفة لأحياء أو ظرفا له لأن المعنى : يحيون عند ربهم .

والمراد بالعندية هنا المجاز عن القرب والإكرام والتشريف ، أى هم أحياء مقربون عنده ، فقد خصهم بالمنازل الرفيعة ، والدرجات العالية ، وليس المراد بها القرب المكانى لاستحالة ذلك فى حق الله - تعالى - .

وقوله { يُرْزَقُونَ } صفة لقوله { أَحْيَاءٌ } أو حال من الضمير فيه أى يحيون مرزوقين .

هذا وقد وردت أحاديث متعددة تصرح بأن هذه الآيات الكريمة قد نزلت فى شهداء أحد ، ويدخل فى حكمهم كل شهيد فى سبيل الله ، ومن هذه الأحدايث ما أرخرجه أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر تَرِد أنهار الجنة تأكل من ثمارها ، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش . فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء فى الجنة نرزق لئلا يزهدوا فى الجهاد ، ولا ينكلوا عند الحرب . فقال الله - تعالى - : " أنا أبلغهم عنكم . قال : فأنزل الله هؤلاء الآيات { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } . . . إلخ الآيات " .

وأخرج الترمذى وابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال : لقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " " يا جابر مالى أراك منكساً مهتما " ؟ قلت يا رسول الله استشهد أبى - فى أحد - وترك عيالا وعليه دين . فقال : ألا أبشرك بما لقى الله - عز وجل - به أباك ؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحاً - أى مواجهة ليس بينهما حجاب - وما كلم أحداً قط إلا من وراء حجاب ، فقال له يا عبدى تمن أعطك . قال يا رب فردنى إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية . فقال الرب - تعالى - إنه قد سبق منى أنهم إليها لا يرجعون . قال : يا رب فأبلغ من ورائى فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } . . . الآية " .

قال القرطبى - بعد أن ساق هذين الحديثين وغيرهما - ما ملخصه : " فقد أخبر الله - تعالى - فى هذه الآيات عن الشهداء أنهم أحياء فى الجنة يرزقون . والذى عليه الكثيرون أن حياة الشهداء محققه . ثم منهم من يقول : ترد إليهم الأرواح فى قبورهم فينعمون ، كما يحيا الكفار فى قبورهم فيعذبون . وصار قوم إلى أن هذا مجاز ، والمعنى أنهم فى حكم الله مستحقون للتنعم فى الجنة . وقال آخرون أرواحهم فى أجواف طير خضر وأنهم يزرقون فى الجنة ويأكلون ويتنعمون . وهذا هو الصحيح من الأقوال ، لأن ما صح به النقل فهو الواقع . وحديث ابن عباس - الذى سقناه قبل قليل - نص يرفع الخلاف " .

والذى تطمئن إليه النفس : أن الآية الكريمة تنبه على أن للشهداء مزية خاصة تجعلهم يفضلون الموتى المعروفين لدى الناس ، وهى أنهم فى حياة سارة ، ونعيم لذيذ ، ورزق حسن عند ربهم . وهذه الحياة الممتازة ترفعهم عن أن يقال فيهم كما يقال فى غيرهم : أموات ، وإن كان المعنى اللغوى للموت - بمعنى مفارقة الروح للجسد فى ظاهر الأمر - حاصلا للشهداء كغيرهم من الموتى .

إلا أن الحياة البرزخية التى أخبر الله بها عن الشهداء نؤمن بها كما ذكرها الله - تعالى - ولا ندرك حقيقتها ، إذ لا يمكن إدراكها إلا من طريق الوحى ، فقد قال - تعالى - فى آية أخرى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أى ولكن لا تحسون وال تدركون حال هؤلاء الذين قتلوا فى سبيل الله بمشاعركم وحواسكم ، لأنها من شئون الغيب التى لا طريق للعمل بها إلا بالوحى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ} (169)

وقرأ جمهور القراء : «ولا تحسبن » بالتاء مخاطبة للنبي عليه السلام ، وقرأ حميد بن قيس ، «ولا يحسبن » بالياء على ذكر الغائب ، ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر : ولا يحسبن أحد أو حاسب ، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى : ولا يحسب الناس ، ويحسبن ، معناه يظن ، وقرأ الحسن : «الذين قتّلوا » ، بشد التاء ، وابن عامر من السبعة ، وروي عن عاصم أنه قرأ : «الذين قاتلوا » بألف بين القاف والتاء ، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء : أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة ، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم ، قال الحسن بن أبي الحسن : ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حياً لا يموت بالشهادة في سبيل الله ، فقوله : { بل أحياء } مقدمة قوله : { يرزقون } إذ لا يرزق إلا الحي ، وهذا كما تقول لمن ذم رجلاً : بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل ، وقرأ جمهور الناس : «بل أحياءٌ » بالرفع على خبر ابتداء مضمر ، أي هم أحياء ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «بل أحياءً » بالنصب ، قال الزجّاج : ويجوز النصب على معنى بل أحسبهم أحياء ، قال أبو علي في الأغفال : ذلك لا يجوز لأن الأمر يقين فلا يجوز أن يؤمر في بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة .

قال القاضي : فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلاً غير المحسبة ، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر ، وقوله { عند ربهم } فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ، لأن { عند } تقتضي غاية القرب ، ولذلك لم تصغر قاله سيبويه ، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً{[3704]} ، وروي عنه عليه السلام أنه قال : ( أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ) {[3705]} .

قال القاضي رحمه الله : وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة ، يجمعها أنهم يرزقون ، وقال عليه السلام : ، ويروى يعلق بفتح اللام وبالياء ، والحديث معناه في الشهداء خاصة ، لأن أرواح المؤمنين غير الشهداء ، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن تدخلها ، وأيضاً فإنها لا ترزق ، وتعلق معناه : تصيب العلقة من الطعام ، وفتح اللام هو من التعلق ، وقد رواه الفراء في إصابة العلقة ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : «إن الله تعالى يطلع إلى الشهداء فيقول : يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم ؟ فيقولون يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا ، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء ، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى ، فيقول تعالى : قد سبق أنكم لا تردون »{[3707]} ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله : «ألا أبشرك يا جابر ؟ » قال جابر : قلت بلى يا رسول الله ، قال : «إن أباك حيث أصيب - بأحد - أحياه الله ، ثم قال : ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك ؟ قال : يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى »{[3708]} ، وقال قتادة رحمه الله : ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين أصيبوا -بأحد- فنزلت هذه الآية{[3709]} وقال محمد بن قيس بن مخرمة{[3710]} في حديث إن الشهداء قالوا يا ربنا ألا رسول يخبر نبينا عنا بما أعطيتنا ؟ فقال الله تعالى : أنا رسولكم ، فنزل جبريل بهذه الآيات ){[3711]} .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وكثرت هذه الأحاديث في هذا المعنى ، واختلفت الروايات وجميع ذلك جائز على ما اقتضبته من هذه المعاني{[3712]} وقوله تعالى : { فرحين } نصب في موضع الحال وهو من الفرح بمعنى السرور ، و «الفضل » في هذه الآية : التنعيم المذكور .


[3704]:- أخرجه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، والطبراني، وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن ابن عباس (الدر المنثور 2/96 وكذا "مجمع الزوائد" 5/298. والمنذري في "الترغيب والترهيب"2/232).
[3705]:- أخرجه الإمام أحمد، وهناد، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس: (الدر المنثور2/95. وفتح القدير للشوكاني1/367).
[3706]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد فيه الأئمة الثلاثة. عن كعب بن مالك الأنصاري.(ابن كثير1/247. والقسطلاني في المواهب 2/55).
[3707]:-أخرجه عبد الرزاق في المصنف، والفريابي وابن أبي حاتم، والطبراني، وسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، ومسلم، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في "الدلائل"- عن مسروق (الدر المنثور 2/96، وابن إسحاق في "السيرة" 3/127. وابن كثير 1/246) قال: وروى نحوه أنس، وأبو سعيد.
[3708]:- أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجة، وابن أبي عاصم في "السنة"، وابن خزيمة، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن جابر، وأخرجه أيضا الحاكم عن عائشة. (الدر المنثور للسيوطي 2/95. وفتح القدير 1/367، وابن كثير 1/427 وابن إسحاق في السيرة 3/127، والقسطلاني في المواهب 3/53).
[3709]:- أخرجه ابن جرير في تفسيره بلفظه. (4/172. والدر المنثور للسيوطي 2/95.
[3710]:- هو محمد بن قيس بن مخرمة بن عبد المطلب القرشي المطلبي، ذكره العسكري: وقال: لحق النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن أبي داود، والبارودي في الصحابة، وجزم البغوي وابن منده وغيرهما أن حديثه مرسل، ذكره ابن حبان، وأبو داود في الثقات، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أمه، وعن إسحاق، وابن جريج، وغيرهم، (الإصابة 3/476. وتهذيب التهذيب).
[3711]:- أخرجه ابن جرير، وابن المنذر- عن محمد بن قيس بن مخرمة. (الدر المنثور 2/95).
[3712]:- من أراد استيفاء هذه الأحاديث فليراجع في هذا الموضوع تفسير "ابن كثير"، و"ابن جرير" و"الدر المنثور" للسيوطي.