التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمٗاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٞۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (20)

ثم بين - سبحانه - حال الحياة ، التى ركن إليها الكافرون واطمأنوا بها . . . ودعا المؤمنين إلى أن تكون هممهم متجهة نحو الآخرة ، عن طريق التسلح بالأعمال الصالحة . فقال - تعالى - : { اعلموا أَنَّمَا الحياة . . . } .

أى : { اعلموا } - أيها المؤمنون علم استجابة وامتثال لما آمركم به - { أَنَّمَا الحياة الدنيا } التى تعيشون فيها ما شاء الله لكم أن تعيشوا . . . { لَعِبٌ } واللعب : هو قضاء الوقت فى قول أو فعل لا فائدة من روائه .

{ وَلَهْوٌ } واللهو : اسم لفعل أو قول يقصد من روائه التلذذ والتمتع ، وصرف الآلام والهموم عن النفس .

{ وَزِينَةٌ } الزينة اسم لما يتزين به الإنسان من ملبس أو مسكن أو ما يشبههما مما يفعله من أجل أن يكون فى أعين الناس مهيبا جميلا .

{ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } أى : وتفاخر فيما بينكم بالأموال والمناصب والأحساب والأعمال . . . وتكاثر فى الأموال والأولاد ، والتكاثر تفاعل من الكثرة - كما أن التفاخر تفاعل من الفخر - وصيغة التفاعل جىء بها هنا ، للمبالغة فى إظهار ما يتفاخرون به ، وما يتكاثرون فيه ، حتى لكأنه ينافس غيره فى ذلك ويريد الظهور عليه .

والحرص على التفاخر والتكاثر فى الأموال والأولاد ، من طبيعة كثير من الناس ، كما قال - تعالى - : { أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر } ثم بين - سبحانه - حال الحياة الدنيا ، التى يلعب الناس فيها ، ويلهون ويتفاخرون . ويتكاثرون .

فقال : { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ } .

أى : هذه الحياة الدنيا حالها وصفتها ومثلها كمثل مطر أعجب الكفار وراقهم وسرهم ، ما ترتب على هذا المطر ، من نبات جميل نبت من الأرض بعد هطول الغيث عليها .

فقوله - تعالى - : { كَمَثَلِ } خبر لمبتدأ محذوف ، أى : مثلها كمثل مطر .

والمراد بالكفار هنا : الجاحدون لنعم الله - تعالى - الساترون لها ، وخصوا بالذكر ، لأنهم أشد إعجابا وسروراً وانغماسا فى زينة الحياة الدنيا من غيرهم .

وروى عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - أن المراد بالكفار هنا : الزراع الذين يزرعون الأرض بعد نزول المطر عليها ، ويبذورن فيها البذور سموا كفارا من الكفر بمعنى الستر والإخفاء ، يقال : كفر الزارع بذره أو زرعه إذا أخفاه فى الأرض ، حتى لا يتعرض للتلف أو الضياع .

وقوله - سبحانه - : { ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } .

والهيجان : الاضطراب والثوران ، ومنه سميت الحرب بالهيجاء ، لأن فيها يضطرب المقاتلون ، ويثور بعضهم على بعض .

ويرى بعضهم أن معنى { يَهِيجُ } هنا : ييبس ويجف .

وعطف - سبحانه - جملة { يَهِيجُ } بحرف { ثُمَّ } لإفادة التراخى الرتبى ، إذ أن وصول النبات إلى درجة من الهيجان وبلوغ منتهاه ، لا يتأتى إلا بعد زمن طويل من بدء زراعته .

ولم يرتض بعض المحققين هذا المعنى فقال : تفسير { يَهِيجُ } بييبس فيه تسامح ، فإن حقيقته أن يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له . أى : من الطول والغلظ .

أى : ثم يتحرك هذا النبات الذى أعجب الكفار إلى أقصى ما يتأتى له من طول وقوة ، ثم يبدأ فى الضعف ، فتراه - أيها الناظر إليه - نباتا مصفراً متغيراً عما كان عليه من النضرة ، آخذا فى الذبول وفى التهيؤ للحصاد .

ثم يكون بعد ذلك حطاما ، أى : نباتا محطما مكسرا .

والمقصود بقوله - تعالى - { كَمَثَلِ غَيْثٍ . . } إلخ التقرير والتأكيد لما وصفت به الدنيا من كونها لعبا ولهوا وزينة .

وتشبيهها فى سرعة زوالها ، وانقضاء نعيمها ، وقلة فائدتها . . بحال نبات ظهر على الأرض بعد هطول المطر عليها ، واستمر فى ظهوره وجماله ونضرته وهيجانه ، لفترة مَّا من الحياة ، أعجب خلالها الكفار به ، ثم حل بهذا النبات اليانع الاصفرار والاضمحلال حتى صار حطاما مفتتا تذروه الرياح .

والمقصود بهذا التشبيه ، زجر الناس عن الركون إلى الحياة الدنيا ركونا ينسون معه فرائض الله - تعالى - وتكاليفه التى كلفهم بها - سبحانه - .

وعطف - سبحانه - : { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } بالفاء للإشعار بقصر المسافة ، مهما طالت فى عرف الناس - بين نضرة الزرع واستوائه ، وبين اصفراره ونهايته .

قال صاحب الكشاف - رحمه الله - : أراد - سبحانه - أن الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور ، وهى اللعب واللهو . . . وأما الآخرة فما هى إلا أمور عظام .

وشبه حال الدنيا بسرعة تقضّيها ، مع قلة جدواها ، بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتمل ، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله ، فيما رزقهم من الغيث ، والنبات . . . فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطاما .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان عظم الآخرة ، وهوان الدنيا فقال : { وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ } أى : لمن كفر بالله - تعالى - وفسق عن أمره .

{ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ } أى : لمن آمن بالله - تعالى - واتبع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحافظ على أداء ما كلف به بإخلاص وحسن اقتداء .

{ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } أى : وما أحوال الحياة الدنيا وما اشتملت عليه من شهوات ، إلا متاع زائل ، لا يقدم عليه ، ولا يتشبع به إلا من خدع بزخرفه ، واغتر بمظهره .

فالمراد بالغرور : الخديعة ، مصدر غره . أى : خدعه وأطمعه بالباطل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمٗاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٞۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (20)

هذه الآية وعظ وتبيين لأمر الدنيا وضعة منزلتها و : { إنما } سادة مسد المفعولين للعلم بأنها تدخل على اثنين وهي وإن كفت عن العمل ، فالجملة بعدها باقية . و : { الحياة الدنيا } في هذه الآية عبارة عن الأشغال والتصرفات والفكر التي هي مختصة بالحياة الدنيا ، وأما ما كان من ذلك في طاعة الله وسبيله وما كان من الضرورات التي تقيم الأود وتعين على الطاعات فلا مدخل له في هذه الآية . وتأمل حال الملوك بعد فقرهم بين لك أن جميع نزوتهم { لعب ولهو } . والزينة : التحسين الذي هو خارج من ذات الشيء ، والتفاخر : هو بالأنساب والأموال وغير ذلك والتكاثر : هو الرغبة في الدنيا ، وعددها لتكون العزة للكفار على المذهب الجاهلي{[10983]} .

ثم ضرب تعالى مثل الدنيا ، فالكاف في قوله : { كمثل } في رفع صفة لما تقدم ، وصورة هذا المثال : أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس ، ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط ، فيشيب ويضعف ويسقم ، وتصيبه النوائب في ماله وذريته ، ويموت ويضمحل أمره ، وتصير أمواله لغيره ، وتغير رسومه ، فأمره مثل مطر أصاب أرضاً فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق . ثم هاج : أي يبس واصفر ، ثم تحطم ، ثم تفرق بالرياح واضمحل .

واختلف المتأولون في لفظة { الكفار } هنا ، فقال بعض أهل التأويل : هو من الكفر بالله ، وذلك لأنهم أشد تعظيماً للدنيا وأشد إعجاباً بمحاسنها . وقال آخرون منهم : هو من كفر الحب ، أي ستره في الأرض ، فهم الزراع وخصهم بالذكر ، لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة ، الذي لا عيب له .

وهاج الزرع : معناه : يبس واصفر ، وحطام : بناء مبالغة ، يقال حطيم وحطام بمعنى محطوم ، أو متحطم ، كعجيب وعجاب ، بمعنى معجب ومتعجب منه . ثم قال تعالى : { وفي الآخرة } كأنه قال : والحقيقة هاهنا ، ثم ذكر العذاب أولاً تهمماً به من حيث الحذر في الإنسان ينبغي أن يكون أولاً ، فإذا تحرر من المخاوف مد حينئذ أمله . فذكر الله تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه وهو المغفرة والرضوان . وروي عن عاصم : ضم الراء من : «رُضوان » . و : { متاع الغرور } معناه : الشيء الذي لا يعظم الاستمتاع به إلا مغتر . وقال عكرمة وغيره : { متاع الغرور } القوارير{[10984]} ، لأن الفساد والآفات تسرع إليها ، فالدنيا كذلك أو هي أشد .


[10983]:الكاثر هو الكثير، قال الأعشى: ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر
[10984]:لأنها معرضة للكسر.