وبعد أن بين - سبحانه - بعض مظاهر نعمه على عباده فيما يتعلق بمطاعمهم . وفي ما يتعلق بما يحل لهم من النساء . أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم فيما يتعلق بعبادتهم التي من أهمها الوضوء ، والغسل . والصلاة . وأمرهم بالمحافظة على شرعه لهم من شرائع وأحكام فقال - تعالى - :
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - افتتح السورة بقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية .
فقوله : { أَوْفُواْ بالعقود } طلب الله - تعالى - من عباده أن يفوا بعهد العبودية . فكأنما قيل : يا إلهنا العهد نوعان : عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإِحسان . فقال - تعالى - : نعم أنا أوفى أولا بعهد الربوبية والكرم .
معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح فاستقصى - سبحانه - في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح . وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا بالوفاء بعهد الربوبية والكرم .
معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح فاستقصى - سبحانه - في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح . وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية .
ولما كان أعظم الطاعات بعد الإِيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة لا جرم بدأ - سبحانه - بذكر فرائض الوضوء فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } .
والمراد بالقيام إلى الصلاة إرادة القيام إليها ، والتهيؤ للدخول فيها من باب إطلاق المسبب وإرادة المسبب ، للإيجاز وللتنبيه على أن الشأن في المؤمنين أن يكونوا دائماً على ذكر من إرادتها ودم الإِهمال في أدائها .
وإنما قلنا المراد بالقيام إلى الصلاة إرادتها لأنه لو بقي الكلام على حقيقته للزم تأخير الوضوء عن الصلاة ، وهذا باطل بالإجماع .
وليس المراد بالقيام انتصاب القامة أو ما يشبه ذلك ، بل المراد به الاشتغال بأفعال الصلاة وأقوالها وكل ما يتعلق بذاتها .
قال الآلوسي ما ملخصه : وظاهر الآية يفيد وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم { الذين آمَنُواْ } من غير اختصاص بالمحدثين . لكن الإِجماع على خلاف ذلك ، فقد أخرج مسلم وغيره " أن النبي صلى الله عليه سلم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد . فقال له عمر : يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنعه . فقال صلى الله عليه وسلم : " عمداً فعلته يا عمر " " .
يعني : بيانا للجواز . فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة ، والمعنى : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون بقرينة دلالة الحال .
ولأنه اشتراط الحدث في البدل وهو التيمم ، فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا .
وقوله - تعالى - { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } صريح في البدلية .
ويحكى عن داود الظاهري أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يتوضأون لكل صلاة ، ورد بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب وقد ورد : " من توضأ على طهر كتب الله - تعالى - له عشر حسنات " .
وقوله : { فاغسلوا } من الغسل وهو إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه وزاد بعضهم : مع الدلك .
وقوله : { وُجُوهَكُمْ } جمع وجه . وهو مأخوذ من المواجهة .
وحد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضاً .
والمرافق : جمع مرفق - كمنبر ومجلس - وهو ملتقى عظم العضد بعظم الذراع .
والكعبين : تثنية كعب . وهما الجزءان البارزان في أعلى القدم .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون حدثا أصغر ، فاغسلوا وجوهكم ، أي : فأسيلوا الماء على وجوهكم ، وأسيلوه أيضاً على أيديكم إلى المرافق وامسحوا بأيديكم المبللة بالماء رءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين .
وهنا توسع الفقهاء وبعض المفسرين في ذكر مسائل تتعلق بهذه الآية نرى من الواجب الالمام بأهمها فنقول :
أولا : أخذ جمهور الفقهاء من قوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا } إلخ أن الوضوء لابد فيه من القصد إليه وإرادته لأجل الصلاة لا لأجل أي شيء آخر كالنظافة وغيرها مما يشبهها ، وذلك لأن الوضوء عمل من الأعمال التي يقصد بها المسلم الطاعة لله ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما الأعمال بالنيات " وعليه تكون النية ركنا من أركان الوضوء ، فإذا لم يقصد بوضوئه إرادة الصلاة وابتغاء رضاء الله ، لم تكن صلاته بهذا الوضوء صحيحة .
وقال الأحناف : إن النية في الوضوء ليست بفرض . لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة لذاتها .
وإنما هو وسيلة لغيره وهو الصلاة ، والنية إنما هي شرط في العبادة نفسها وهي الصلاة باعتبارها المقصد ، وليست شرطاً في الوسيلة وهي الوضوء .
وعليه فالوضوء يتحقق بغسل ما يجب غسله من الأعضاء المعروفة ، ومسح ما يجب مسحه منها ، وللمسلم أن يصلي بهذا الوضوء ما شاء من الفرائض والنوافل . قالوا : ومما يشهد بأن الوضوء وسيلة لعبادة ظاهر قوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } فإنه يدل على أن الصلاة هي المقصودة وهي الغاية أما الوضوء فقد شرع ليكون سبيلا إليها .
ثانيا : قوله { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } اتفق الفقهاء على وجوب غسل الوجه إلا أنهم اختلفوا في دخول المضمضة والاستنشاق فيه .
فجمهور الفقهاء اتفقوا على أنهما لا يدخلان في غسل الوجه ، بل هما سنتان كان يفعلهما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل غسل الوجه .
وقال بعض الفقهاء : المضمضمة والاستنشاق داخلان في الغسل .
ثالثاً : أخذ كثير من الفقهاهء من قوله - تعالى - { إِلَى المرافق } . . و { إِلَى الكعبين } أن المرافق داخله مع اليدين في وجوب الغسل ، وأن الكعبين داخلان مع الرجلين في وجوب الغسل .
قالوا : لأن { إلى } هنا بمعنى مع ، ولأن بعض علماء اللغة وعلى رأسهم سيبوية قد قرروا أن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها دخل في الحد ، وإذا لم يكن من نوعه لم يدخل . وهنا ما بعد إلى من نوع ما قبلها فوجب دخوله في الحد .
ولأن جعل ما قبل المرفقين حدا ، لا يصلح أن يكون علامة واضحة على ذلك ، ومن شأن العلامات أن تكون واضحة وهذا لا يتأتى إلا بغسل المرفقين والكعبين .
وفضلا عن كل ذلك فالمعروف من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل المرفقين والكعبين .
قال القرطبي : وهذا هو الصحيح لما رواه الدارقطني عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه " .
ويرى بعض الفقهاء أن غسل المرفقين والكعبين مستحب ، لأن الغاية من قوله : { إِلَى المرافق } و { إِلَى الكعبين } تحتمل أن تدخل المرافق والكعبين في الوجوب وتحتمل عدم الدخول ، ولا وجوب مع الاحتمال .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المسألة بقوله : قوله { إِلَى المرافق } تفيد معنى الغاية مطلقا . فأما دخولها في الحكم وخروجها ، فأمر يدور مع الدليل . فمما فيه دليل على الخروج قوله : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } لأن الإِعسار علة الإِنظار . وبوجود الميسرة تزول العلة . ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين معسراً وموسراً . وكذلك { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } لو دخل الليل لوجب الوصال في الصوم . ومما فيه دليل على الدخول قولك : حفظة القرآن من أوله إلى آخره - لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله . ومنه قوله - تعالى - : { مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } لوقووع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله .
وقوله { إِلَى المرافق } و { إِلَى الكعبين } لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل . وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها . " وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه " .
رابعا : أجمع الفقهاء على أن مسح الرأس من أركان الوضوء ، لقوله - تعالى - { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } إلا أنهم اختلفوا في مقدار المسح .
فال المالكية : يجب مسح جميع الرأس أخذا بالاحتياط ، وتبعهم في ذلك الحنابلة .
وقال الشافعية : يكفى مسح أقل ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين وقال الحنفية : يفترض مسح ربع الرأس .
ومنشأ الخلاف هنا اعتبار الباء زائدة أو أصلية . فقال المالكيبة والحنابلة إن الباء كما تكون أصلية تكون - أيضاً - زائدة لتقوية تعلق العامل بالمعمول واعتبارها هنا زائدة أولى ، لأن التركيب حينئذ يدل على مسح جميع الرأس ، ويكون البعض داخلا في ذلك .
وقال الأحناف والشافعية الباء هنا للتبعيض ، إلا أن البعض لم يقدره الشافعية بمقدار معين ، وقدره الأحناف بمقدار ربع الرأس أخذا من حديث المغيرة بن شعبة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته " قالوا : والناصية تساوي ربع الرأس .
قال بعض العلماء : والسنة الصحيحة وردت بالبيان . وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقص العمامة . وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر . وهذه هي التي استمر عليها صلى الله عليه وسلم فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي يداوم عليها . وهي مسح الرأس مقبلا ومدبراً . وإجراء غيرها في بعض الأحوال .
خامساً : قوله تعالى { وَأَرْجُلَكُمْ } وردت فيه قراءتان متواترتان .
إحداهما : بفتح اللام وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص الكسائي ويعقوب .
والثانية : بكسر اللام وهي قراءة الباقين .
أما قراءة النصب فعلى أن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } معطوف على قوله { وُجُوهَكُمْ } أو هو منصوب بفعل مقدر أي : وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين .
وأما قراءة الجر فعلى أن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } معطوف على { بِرُؤُوسِكُمْ } .
قال القرطبي ما ملخصه : فمن قرأ بالنصب جعل العامل " اغسلوا " وبنى على ذلك أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح . وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم واللازم من قوله في غير ما حديث . وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته . " ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء " ثم إن الله حدهما فقال : { إِلَى الكعبين } كما قال في اليدين { إِلَى المرافق } فدل على وجوب غسلهما .
ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء . فقال ابن العربي : اتفقت العلماء على وجوب غسلهما ، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين ، والرافضة من غيرهم . وتعلق الطبري بقراءة الخفض - أي قال بمسح الرجلين .
ثم قال : وقد قيل : إن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } بقراءة الخفض - معطوف على اللفظ دون المعنى - أي لفظ الرءوس - وهذا أيضاً يدل على الغسل ، فإن المراعي المعنى لا اللفظ وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب . وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال - تعالى - { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } بالجر لأن النحاس هو الدخان .
ثم قال : والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين السغل ما قدمناه ، وما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم
" ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " فخوفنا ذكر النار على مخالفة مراد الله . ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب . ومعلوم أن المسح ليس من شأنه الاستيعاب . ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما فتبين بهذا الحديث بطلان من قال بالمسح . إذ لا مدخل بطونهما عندهم ، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح .
ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما . وحسبك بهذا احجة في الغسل مع ما بيناه فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعنى فيها الغسل لا المسح وأن العامل في قوله و { وَأَرْجُلَكُمْ } وقوله { فاغسلوا } والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما . تقول : أكلت الخبز واللبن . أي : وشربت اللبن .
وقد عقد الإِمام ابن كثير فصلا أورد فيه - عند تفسيره لهذه الآية - كثيراً من الأحاديث التي وردت في غسل الرجلين ، وجعل عنوانه : " ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لابد منه " .
ومن هذه الأحاديث ما جاء في الصحيحين والسنن عن عثمان وعلى ابن عباس . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة ، وإما مرتين أو ثلاثاً . على اختلاف رواياتهم .
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " .
وعن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رِجْلَ رَجل مثل الدرهم لم يغسله فقال : " ويل للأعقاب من النار " .
ثم قال ابن كثير : ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة . وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما ، أو أنه يجوز ذلك لما توعد على تركه ، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل . بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف .
ويرى الزمخشري أن قراءة الجر في قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } محمولة في المعنى على النصب ويكون السبب في عطفها على الرءوس المجرورة ، للإشارة إلى وجوب عدم الإِسراف في الماء . فقد قال : فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح ؟ قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها : فكانت مظنة للإِسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت على الثالث المسموح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها .
وقد وضح هذا المعنى الشيخ ابن المنير بقوله : لم يوجه الزمخشري قراءة الجر بما يشفي الغليل . والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث أن كل واحد منهما مساس بالعضو ، فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم ، كقوله : متقلداً سيفاً ورمحاً .
وعلفتها تبنا وماء باردا . ونظائره كثيرة .
ثم يقال : ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب ؟ وهلا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة ؟ فيقال : فائدته الإِيجاز والاختصار . وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا : واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد ، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح ، ونبه بهذا التشريك - الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جداً . على أن الغسل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح . وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة وهذا تقرير كامل لهذا المقصود .
هذا ومن كل ما تقدم نرى وجوب غسل الرجلين في الوضوء سواء أكانت القراءة بالنصب أم بالجر . وقد بسطت بعض كتب الفقه والتفسير هذه المسألة بسطا موسعا فليرجع إليها من شاء .
سادساً : أخذ الأحناف من هذه الآية الكريمة أن أركان الوضوء هي هذه الأربعة فحسب أي : غسل الوجه ، واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس ، وغسل الرجلين إلى الكعبين .
وقد أضاف جمهور الفقهاء إلى ذلك النية - كما سبق أن أشرنا - كما أضافوا الترتيب بين الأركان بحيث يغسل الوجه أولا ثم اليدان ثم من بعدهما مسح الرأس ، ثم غسل الرجلين ، لأن هذه الأركان قد ذكرت بهذا الترتيب في القرآن فيجب التزامه . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالف هذا الترتيب ولو مرة واحدة فوجب اتباع ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم .
وقال الأحناف : الترتيب ليس فرضاً ، لأن العطف بين الأركان بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا .
كذلك أضاف بعض الفقهاء إلى أركان الوضوء الموالاة بمعنى أن يواصل المتوضئ الاشتغال بوضوئه ولا ينقطع عنه . وذهب بعضهم إلى أن ذلك سنة .
والذي تطمئن إليه النفس أن المتوضئ إذا انقطع وضوؤه بعمل أجنبي لمدة جفت معها أعضاء الوضوء وجب عليه استئناف الوضوء مبتدئأ بأوله . أما إذا قطع المتوضئ وضوء لفترة قصيرة بحيث بقيت آثار الوضوء ظارهة فإنه في هذه الحالة يجوز له الاستمرار فيه .
تلك هي بعض المسائل التي رأينا أن نتكلم عنها بإيجاز بمناسبة حديثنا عن هذه الآية الكريمة وهناك مسائل أخرى تتعلق بها تكفلت كتب الفروع بتفصيلها . وقد انتقلت الآية الكريمة بعد حديثها عن الوضوء إلى الحديث عن الاغتسال وموجبة فقال - تعالى - { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } .
والجنب من أصابته الجنابة بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما مما تتحقق معه الجنابة . وكلمة جنب من الألفاظ التي يستوي فيها الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث لجريانها مجرى المصدر ، فيقال : رجل جنب ، وامرأة جنب ، وهما جنب ، ورجال ونساء جنب . . واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة ، لأن الجنابة معنى شرعي يستلزم من السملم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يتطهر .
وقوله { فاطهروا } أصله فتطهروا فأدغمت التاء في الطاء فسكنت فأتى بالهمزة .
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم الدخول في الصلاة فعليكم أن تتوضئوا قبل دخولكم فيها بأن تغسلوا وجوهكم وتغسلوا أيديكم إلى المرافق ، وتمسحوا برؤوسكم . وتغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، هذا إذا كنتم محدثين حدثاً أصغر وأردتم الصلاة أما إذا كنتم محدثين حدثا أكبر ، بأن كنتم جنبا بسبب خروج منى أو التقاء ختانين وأردتم الدخول في الصلاة فعليكم في هذه الحالة أن تتطهروا . أي : تغسلوا بالماء جميع بدنكم . لأن الأمر بالتطهر لما لم يتعلق بعضو دون عضو ، كان أمراً شاملا لتطهير جميع البدن ، بدليل أن الوضوء لما تعلق بعضو دون عضو نص الله - تعالى - في الآية على تلك الأعضاء التي أوجب غسلها .
وإنما حملت الطهارة هنا على الطهارة بالماء لأن الماء هو الأصل كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى - { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } ولأنه - سبحانه - قد ذكر بعد هذه الحملة ما يحل محل الماء عند فقده .
والتعبير بقوله { فاطهروا } فيه إشارة إلى وجوب العناية في تعميم الماء على الجسد كله ، وإيماء إلى أن النجاسة المعنوية قد عمت كل أجزاء الجسم ، فوجب أن تكون الطهارة عامة لكل أجزاء الجسم ولا شك أن الاغتسال بعد الجنابة أو الحيض أو النفاس فيه انتعاش الجسم بعد أن أصابه التعب والإِنهاك ، وفيه كذلك طهارة نفسية ، لأنه يبعث في الإِنسان حسن الاستعداد لذكر الله ، ولأداء تكاليفه .
قال الفخر الرازي : والدلك غير واجب في الغسل . وقال مالك : الدلك واجب وحجة غيره أن قوله { فاطهروا } أمر بتطهير البدن وتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك . ثم قال : والشافعي قال : المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل - ومثله في ذلك الإِمام مالك .
وقال أبو حنيفة - والحنابلة - هما : واجبان لأن الآية تقول { فاطهروا } وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم . وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس ، ما عدا الأجزاء الباطنة التي لا يمكن تطهيرها . وداخل الفم والأنف يمكن تطيرهما . فوجب بقاؤهما تحت النص . ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " بلوا الشعر وأنقوا البشرة فإن تحت كل شعرة جنابة " فقوله " بلوا الشعر " يدخل فيه الأنف . لأن داخله شعر . وقوله " وأنقوا البشرة " يدخل في الجلدة التي داخل الفم . وحجة الشافعي - ومالك قوله صلى الله عليه وسلم أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في مجلس جماعة من أصحابه كانوا يتحدثون أمامه في أمر الغسل ، وكل يبين ما يعمله .
ثم شرع - سبحانه - في بيان الأعذار التي تبيح التيمم من أجل الطهارة عند العجز عن استعمال الماء فقال - تعالى - : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } .
والمراد بالمرضى في قوله - تعالى - { وَإِن كُنتُم مرضى } المرض الذي يمنع من استعمال الماء مطلقاً كأن يكون اسعمال الماء يزيد المرض شدة ، أو يبطئ البرء .
وقوله { أَوْ على سَفَرٍ } في محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله مرضي وليس المراد بالسفر هنا سفر القصر ، وإنما المراد السير خارج العمران سواء أوصل المسافر إلى مسافة القصر أم لا ، بخلافة في قوله - تعالى - في سورة البقرة : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فإن المراد به هناك سفر القصر ، إنما قيد الأمر هنا بالسفر مع أن المنظور إليه عدم الماء لأن السفر هو الذي يغلب فيه عدم الماء بخلاف الحضر ولو فرض عدم الماء في الحضر وجب التيمم على المحدث عند إرادة الصلاة عند الحنفية والمالكية والشافعية .
وقوله { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط } معطوف على ما قبله والغائط : من الغيط وهو المكان المنخفض من الأرض . وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت أن من يريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس .
وفي إسناد المجيء إلى واحد من مبهم من المخاطبين ، سمو في التعبير . حيث تحاشى - سبحانه - التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو يستهجن التصريح به . وفي ذلك ما فيه من تعليم الناس الأدب في الخطاب ، والبعد عن الألفاظ التي تخدش الحياء ، ويمجها الذوق السليم .
والمراد بالملامسة في قوله تعالى { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } الجماع : فهو هنا كناية عما يكون بين الرجل والمرأة مما يوجب الاغتسال : وهي كناية قرآنية أراد - سبحانه - أن يعلم الناس منها حسن التعبير ، والبعد عن الألفاظ التي تتنافى مع آداب الإِسلام وتعاليمه السامية .
وإلى هذا الرأي اتجه كثير من الصحابة ، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس وأبو موسى .
وتبعهم في ذلك كثير من الفقهاء كأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والثوري فقد قالوا : لا ضوءو على من مس امرأة سواء أكان المس بشهوة أو بدونها . واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل نساءه ثم يصلي ولم يتوضأ وكان يقبلهن وهو صائم .
واستدلوا - أيضاً - بأن ظاهر مادة المفاعلة يكون في الفعل من الجانبين مقصوداً ، وذلك إنما يتأتى في الجماع دون اللمس باليد . وأيضاً فإن اللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلا أنه قد عهد في القرآن إطلاقه كناية عن الجماع كما في قوله - تعالى -
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } ويرى جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود أن المراد بالملامسة هنا اللمس باليد ، وكانا يوجبان على من مس امرأة الوضوء .
وقد سار الإِمام الشافعي على هذا الرأي فقال : إذا مس جسدها فعليه الوضوء سواء أكان المس بشهوة أم بغير شهوة .
ومن أدلته أن اللمس حقيقة في المس باليد ، وهو في الجماع مجاز أو كناية ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا عند تعذر الحقيقة ويرى الإِمام مالك أن اللمس إن كان بشهوة وتلذذ فعليه الوضوء ، وكاذا إذا مسته بشهوة وتلذذ ، وإن كان بغير شهوة فلا وضوء عليهما .
وقد انتصر كل فريق لرأيه بصورة أوسع من ذلك في كتب الفروع . والذي نراه أولى بالصواب في هذ المسألة ما قاله الإِمام مالك - رحمه الله - لأنه بني رأيه على وجود الشهوة وعدمها . والفاء في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله { وَإِن كُنتُم مرضى } .
والضمير في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ } يعودل لكل ما تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس وفيه تغليب للخطاب على الغيبة .
والمراد بعدم الوجدان في قوله هنا { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } ما هو أعم من الوجود الحسي أي : أن قوله : " فلم تجدوا ماء " كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا ، إذ أن الشيء المتعذر استعماله هو والمعدوم سواء .
وقوله : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } جواب الشرط وهو قوله : { وَإِن كُنتُم مرضى } .
والمعنى : وإن كنتم - أيها المؤمنون - في حالة مرض يحول بينكم وبين استعمال الماء أو كنتم مستقرين على سفر ؛ أو كنتم محدثين حدثاً أصغر أو أكبر ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء تستعملونه لطهارتكم ، ولأداء ما كلفكم الله به من تكاليف ، أو وجدتموه ولكن منعكم مانع من استعماله ، أو كنتم في حاجة ماسة إليه ، فعليكم في هذه الأحوال أن تتيمموا صعيداً طيبا بدلا من الماء ، فإن الله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين } ومنهم من يرى أن الضمير في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } يعود إلى الجميع ما عدا المرضي ، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله . وعلى هذا الرأي يكون المراد بعدم الوجدان ، عدم الوجدان الحسي .
والتيمم لغة القصد . يقال تيممت الشيء إذا قصدته .
ويطلق في الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به .
وأما الصعيد - بوزن فعيل - فيطلق على وجه الأرض البارز ترابا كان أو غيره . وقيل يطلق على التراب فحسب .
والطيب : الطاهر الذي لم تلوثه نجاسة ولا قذر .
وقوله : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } بيان لكيفية التيمم .
أي : إذا لم تجدوا ماء للتطهر به ، أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله ، فاقصدوا ترابا طاهرا فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم .
وقد استدل بعض الفقهاء بقوله : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } على أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر ، لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب .
ويرى بعض آخر أن التيمم يجوز التراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض . متى كان طاهراً . قالوا : لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض . وهذه الصفة لا تختص بالتراب .
قال القرطبي - بعد أن ذكر آراء الفقهاء في ذلك - " وإذا تقرر هذا فالعم أن مكان الإجماع فيما ذكرناه أن تيمم الرجل على تراب طاهر غير منقول ولا مغصوب . ومكان الإِجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب والصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما أو على النجاسات واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره " .
كما استدل الأحناف والشافعية بقوله - تعالى - { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } على أن التيمم المطلوب شرعا هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهير . والعضوان هما الوجه واليدان إلى المرفقين ، فقد جاء في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " التيمم ضربتان ضربة للوجه . وضربة للذراعين إلى المرفقين " .
ويرى الحنابلة والمالكية أن العضوين هما الوجه واليدين إلى الرسغين . هذا ، وقد تكلمنا عن هذه المسألة وغيرها بصورة أوسع عند تفسينا لقوله - تعالى - في سورة النساء : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان بعض مظاهر رحمته بعباده ، ورعايته لمصالحهم فقال - تعالى { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
أي : ما يريد الله - تعالى - بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة ومن الغسل بعد الجنابة ، ومن الأمر بالتيمم عند وجود أسبابه ، ما يريد - سبحانه - بذلك { لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي ضيق ومشقة وعسر ، ولكن يريد بذلك ليطهركم .
أي : ليطهر نفوسكم من الأرجاس الحسية والمعنوية وليزيل عنها ما علق بها من ذنوب وأوساخ ، ويريد بذلك أيضاً { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } بما شرع لكم من أحكام ميسرة ومن آداب عالية ، ومن تكاليف جليلة لكي تشكروه على نعمه وإحسانه وتشريعاته ، لأنكم متى شكرتموه زادكم من فضله ومننه .
وعبر - سبحانه - عن نفي الحرج بنفي إرادته ، مبالغة في بيان رأفته - سبحانه - بعباده ، ورعايته لمصالحهم . فكأنه - سبحانه - يقول : ما كان من شأن الله - تعالى - مع عباده أن يشرع لهم ما فيه مشقة أو حرج .
وقوله { لِيَجْعَلَ } يحتمل أن يكون الجعل بمعنى الخلق والإِِيجاد فيتعدى لواحد وهو قوله : { مِّنْ حَرَجٍ } وتكون { من } زائدة لتأكيد النفي وقوله { عَلَيْكُم } متعلق بالجعل . ويحتمل أن يكون بمعنى التصير فيكون قوله { عَلَيْكُم } هو المفعول الثاني ، وقوله : { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } استدراك قصد به بيان بعض مظاهر رحمته - سبحانه - بالمؤمنين ومحبته لسعادتهم ولتزكية نفوسهم وتطيرها من الذنوب والأدران كما قصد به حضهم على مداومة شكره حتى يزيدهم من فضله .
وقريب من معنى هذه الجملة قوله - تعالى - { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقوله تعالى - { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما أرادوا الدخول في الصلاة ، وما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما كانوا جنبا ، وما يجبع أن يفعلوه إذا ما فقدوا الماء أو عجزوا عن استعماله وكانوا يريدون الطهارو أو أداء ما علهيم من تكاليف ، كما بينت لهم حكمة الله في تشريعاته لهم ، ورعايته لمصالحهم حتى يشكروه على نعمه فيزيدهم منها .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } أي إذا أردتم القيام كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } عبر عن إرادة الفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها ، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، أو إذا قصدتم الصلاة لأن التوجه إلى الشيء والقيام إليه قصد له ، وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا ، والإجماع على خلافه لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه : صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال عمدا فعلته " فقيل مطلق أريد به التقييد ، والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين . وقيل الأمر فيه للندب . وقيل كان ذلك أول الأمر ثم نسخ وهو ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام : " المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " . { فاغسلوا وجوهكم } أمروا الماء عليها ولا حاجة إلى الدلك خلافا لمالك . { وأيديكم إلى المرافق } الجمهور على دخول المرفقين في المغسول ولذلك قيل : { إلى } بمعنى مع كقوله تعالى : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } أو متعلقة بمحذوف تقديره : وأيديكم مضافة إلى المرافق ، ولو كان كذلك لم يبق لمعنى التحديد ولا لذكره مزيد فائدة ، لأن مطلق اليد يشتمل عليها . وقيل : إلى تفيد الغاية مطلقا وأما دخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه وإنما يعلم من خارج ولم يكن في الآية ، وكانت الأيدي متناولة لها فحكم بدخولها احتياطا . وقيل إلى من حيث أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها وإلا لم تكن غاية لقوله تعالى : { فنظرة إلى ميسرة } وقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } لكن لما لم تتميز الغاية ها هنا عن ذي الغاية وجب إدخالها احتياطا . { وامسحوا برؤوسكم } الباء مزيدة . وقيل للتبعيض ، فإنه الفارق بين قولك مسحت المنديل وبالمنديل ، ووجهه أن يقال إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل : وألصقوا المسح برؤوسكم ، وذلك لا يقتضي الاستيعاب بخلاف ما لو قيل : وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله : { فاغسلوا وجوهكم } واختلف العلماء في قدر الواجب . فأوجب الشافعي رضي الله تعالى عنه : أقل ما يقع عليه الاسم أخذا باليقين . وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : مسح ربع الرأس ، لأنه عليه الصلاة والسلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع . ومالك رضي الله تعالى عنه : مسح كله أخذا بالاحتياط . { وأرجلكم إلى الكعبين } نصبه نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب عطفا على وجوهكم ويؤيده : السنة الشائعة ، وعمل الصحابة ، وقول أكثر الأئمة ، والتحديد ، إذ المسح لم يحد . وجره الباقون على الجوار ونظيره كثير في القرآن والشعر كقوله تعالى : { عذاب يوم أليم } { وحور عين } بالجر
في قراءة حمزة والكسائي ، وقولهم جحر ضب خرب . وللنحاة باب في ذلك ، وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها ويغسل غسلا يقرب من المسح ، وفي الفصل بينه وبين أخويه إيماء على وجوب الترتيب . وقرئ بالرفع على { وأرجلكم } مغسولة . { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فاغتسلوا . { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } سبق تفسيره ، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة . { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي ما يريد الأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمم تضييقا عليكم . { ولكن يريد ليطهركم } لينظفكم ، أو ليطهركم عن الذنوب فإن الوضوء تكفير للذنوب ، أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء . فمفعول { يريد } في الموضعين محذوف واللام للعلة . وقيل مزيدة والمعنى : ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم ، ولكن يريد أن يطهركم وهو ضعيف لأن أن لا تقدر بعد المزيدة . { وليتم نعمته عليكم } ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين ، أوليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه . { لعلكم تشكرون } نعمته . والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى : طهارتان أصل وبدل ، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب ، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود ، وأن آلتهما مائع وجامد ، وموجبهما حدث أصغر وأكبر ، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر ، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة .
لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة رضي الله عنها فيها نزلت آية التيمم وهي آية الوضوء ، لكن من حيث كان الوضوء متقرراً عندهم مستعملاً فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوة ، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم واستدل على حصول الوضوء بقول عائشة فأقام رسول الله بالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء وآية النساء إما نزلت معها أو بعدها بيسير ، وكانت قصة التيمم في سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وفيها كان هبوب الريح فيما روي ، وفيها كان قول عبد الله بن أبي ابن سلول { لئن رجعنا إلى المدينة } [ المنافقون : 8 ] القصة بطولها ، وفيها وقع حديث الإفك{[4460]} ، ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام جاءت العبارة { إذا قمتم } ، واختلف الناس في القرينة التي أريدت مع قوله { إذا قمتم } فقالت طائفة : هذا لفظ عام في كل قيام سواء كان المرء على طهور أو محدثاً فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وروي أن علي بن أبي طالب كان يفعل ذلك ويقرأ الآية ، وروي نحوه عن عكرمة ، وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة ، وروي أن عمر بن الخطاب توضأ وضوءاً فيه تجوز ثم قال هذا وضوء من لم يحدث{[4461]} . وقال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث{[4462]} .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : فكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر وغيره يتوضؤون لكل صلاة انتداباً إلى فضيلة وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد في حديث سويد بن النعمان وفي غير موطن إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد{[4463]} إرادة البيان لأمته وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات ، »{[4464]} وقال : إنما رغبت في هذا ، وقالت فرقة : نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان لا يعمل عملاً إلا وهو على وضوء ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً إلى غير ذلك فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال ، قال ذلك علقمة بن الفغواء وهو من الصحابة{[4465]} ، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وقال زيد بن أسلم والسدي : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع يعني النوم .
قال القاضي أبو محمد : والقصد بهذا التأويل أن تعم الأحداث بالذكر ، ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو في نفسه حدث ، وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير تقديره { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } من النوم { أوجاء أحد منكم من الغائط أولا مستم النساء } يعني الملامسة الصغرى { فاغتسلوا } فتمت أحكام المحدث حدثاً أصغر ثم قال : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } فهذا حكم نوع آخر ، ثم قال للنوعين جميعاً { وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً } وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك رحمه الله وغيره ، وقال جمهور أهل العلم معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين{[4466]} وليس في الآية على هذا تقديم ولا تأخير بل يترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله : { فاطهروا } ودخلت الملامسة الصغرى في قوله محدثين ، ثم ذكر بعد ذلك بقوله : { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعاً وكانت الملامسة الصغرى في قوله محدثين ، ثم ذكر بعد ذلك بقوله : { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعاً وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد ، ليذكر الجُنب العادم للماء كما ذكر الواجد ، وهذا هو تأويل الشافعي وغيره وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى وغيرهم .
وقوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } الغسل في اللغة إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد أو ما قام مقامها ، وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء أو التقليل منه ، وغسل الوجه في الوضوء هو بنقل الماء إليه وإمرار اليد عليه ، والوجه ما واجه الناظر وقابله ، وحدّه في ذي اللحية فقيل : حده من اللحية إلى ما قابل آخر الذقن ، وقيل بل حده فيها آخر الشعر ، واختلف العلماء في تخليل اللحية على قولين روي تخليلها عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس ذكره الطبري{[4467]} ، واختلف في حده عرضاً فهو في المرأة والأمرد من الأذن إلى الأذن وفي ذي اللحية ثلاثة أقوال فقيل : من الشعر إلى الشعر يعني شعر العارضين وقيل : من الأذن إلى الأذن ويدخل البياض الذي بين العارض والأذن في الوجه وقيل : يغسل ذلك بنفسه ليس من الوجه ولا من الرأس ، وقيل : ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر فهو من الرأس ، واختلف في المضمضة والاستنشاق فجمهور الأمة يرونها سنة ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه وقال مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء ، وقال حماد بن أبي سليمان وقتادة وعطاء والزهري وابن أبي ليلى وابن راهويه : من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة ، وقال أحمد : يعيد من ترك الاستنشاق ولا يعيد من ترك المضمضة والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه .
وقوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } اليد في اللغة تقع على العضو الذي هو من المنكب إلى أطراف الأصابع ولذلك كان أبو هريرة يغسل جميعه في الوضوء أحياناً ليطيل الغرة ، وحَّد الله تعالى موضع الغسل منه { إلى المرافق } يقال في واحدها مرفق ومرفق ، وكسر الميم وفتح الفاء أشهر ، واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا فقالت طائفة لا تدخل لأن إلى غاية تحول بين ما قبلها وما بعدها ، وقالت طائفة تدخل المرافق في الغسل لأن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها فهو داخل ، ومثل أبو العباس المبرد في ذلك بأن تقول : اشتريت الفدان إلى حاشيته أو بأن تقول اشتريت الفدان إلى الدار وبقوله : { أتموا الصيام إلى الليل }{[4468]} .
قال القاضي أبو محمد : وتحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال : إذا كان ما بعد { إلى } ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها ، وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد المذكور بعدها ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل . والروايتان محفوظتان عن مالك بن أنس رضي الله عنه ، روى عنه أشهب أن المرفقين غير داخلين في الحد ، وروي عنه أنهما داخلان .
وقوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } المسح أن يمر على الشيء بشيء مبلول بالماء وسنة مسح الرأس أن يؤخذ ماء باليدين ثم يرسل ثم يمسح الرأس بما تعلق باليدين ، واختلف في مسح الرأس في مواضع منها هيئة المسح فقالت طائفة منها مالك والشافعي وجماعة من الصحابة والتابعين يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه ، وقالت فرقة يبدأ من مؤخر الرأس حتى يجيء إلى المقدم ثم يرد إلى المؤخر ، وقالت فرقة : يبدأ من وسط الرأس فيجيء بيديه نحو الوجه ثم يرد فيصيب باطن الشعر فإذا انتهى إلى وسط الرأس أمرّ يديه كذلك على ظاهر شعر مؤخر الرأس ثم يرد فيصيب باطنه ويقف عند وسط الرأس ، وقالت فرقة يمسح رأسه من هنا وهنا على غير نظام ولا مبدأ محدود حتى يعمه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله قول بالعموم واختلف في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أم سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن فالجمهور على أنه سنة وقيل : هو فرض ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس قدر ما يمسح فقالت جماعة : الواجب من مسح الرأس عمومه ثم اختلفوا في الهيئات على ما ذكرناه وقال محمد بن مسلمة أن مسح ثلثي الرأس وترك الثلث أجزأ وقال أبو الفرج المالكي : وروي عن مالك أنه إن مسح الثلث أجزأ لأنه كثير في أمور من الشرع وقال أشهب إن مسح الناصية أجزأ .
قال القاضي أبو محمد : وكل من أحفظ عنه إجزاء بعض الرأس فإنه يرى ذلك البعض من مقدم الرأس ، وذلك أنه قد روي في ذلك أحاديث في بعضها ذكر الناصية وفي بعضها ذكر مقدم الرأس ، إلا ما روي عن إبراهيم والشعبي قالا : أي نواحي رأسك مسحت أجزأك ، وكان سلمة بن الأكوع يمسح مقدم رأسه ، وروي عن ابن عمر أنه مسح اليافوخ فقط ، وقال أصحاب الرأي : إن مسح بثلاث أصابع أجزأه وإن كان الممسوح أقل مما يمر عليه ثلاث أصابع لم يجزىء وقال قوم : يجزىء من مسح الرأس أن يمسح مسحة بأصبع واحدة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها ، وحكى الطبري وغيره عن سفيان الثوري أن الرجل إذا مسح شعرة واحدة أجزأه ، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس ما العضو الذي يمسح به ؟ فالإجماع على استحسان المسح باليدين جميعاً وعلى الإجزاء إن مسح بواحدة ، واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس فالمشهور أن ذلك يجزىء وقيل لا يجزىء .
قال القاضي أبو محمد : ويترجح أنه لا يجزىء لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي أن لا يختلف في الاجزاء ، ومن مواضع الخلاف عدد المسحات ، فالجمهور على مرة واحدة ويجزىء ذلك عند الشافعي وثلاثاً أحب إليه وروي عن ابن سيرين أنه مسح رأسه مرتين ، وروي عن أنس أنه قال يمسح الرأس ثلاثاً ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء وميسرة ، والباء في قوله { برؤوسكم } مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس ، والمعنى عنده وامسحوا رؤوسكم ، وهي للإلزاق المحض عند من يرى إجزاء بعض الرأس كان المعنى أوجدوا مسحاً برؤوسكم فمن مسح شعرة فقد فعل ذلك ، ثم اتبعوا في المقادير التي حدوها آثاراً وأقيسة بحسب اجتهاد العلماء رحمهم الله .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة «وأرجلِكم » خفضاً وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأرجلكم نصباً ، وروى أبو بكر عن عاصم الخفض ، وروى عنه حفص النصب ، وقرأ الحسن والأعمش «وأرجلُكم » بالرفع المعنى فاغسلوها ، ورويت عن نافع ، وبحسب هذا اختلاف الصحابة والتابعين ، فكل من قرأ بالنصب جعل العامل اغسلوا وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء دون المسح ، وهنا هو الجمهور وعليه علم فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو اللازم من قوله صلى الله عليه وسلم وقد رأى قوماً يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته ، «ويل للأعقاب من النار »{[4469]} ، ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين ، واختلفوا ، فقالت فرقة منهم ، الفرض في الرجلين المسح لا الغسل وروي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه «فاغسلوا » بطونهما وظهورهما وعراقيبهما فسمع ذلك أنس بن مالك فقال صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى : { فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم }{[4470]} قال وكان أنس إذا مسح رجليه بَّلهما وروي أيضاً عن أنس أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وكان عكرمة يمسح على رجليه وليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح .
وقال الشعبي : نزل جبريل بالمسح ثم قال : «ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلاً ويلغى ما كان مسحاً » وروي عن أبي جعفر أنه قال : امسح على رأسك وقدميك ، وقال قتادة : افترض الله غسلتين ومسحتين ، وكل من ذكرنا فقراءته «وأرجلِكم » بكسر اللام ، وبذلك قرأ علقمة والأعمش والضحاك وغيرهم ، وذكرهم الطبري تحت ترجمة القول بالمسح . وذهب قوم ممن يقرأ بكسر اللام إلى أن المسح في «الرجلين » هو الغسل ، وروي عن أبي زيد أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحاً ويقولون تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي ، وقال أبو عبيدة وغيره في تفسير قوله تعالى : { فطفق مسحاً }{[4471]} : إنه الضرب ، ويقال : مسح علاوته{[4472]} إذا ضربه ، قال أبو علي : فهذا يقوي أن المراد بمسح الرجلين الغسل ، ومن الدليل على أن مسح الرجلين يراد به الغسل ، أن الحد قد وقع فيهما ب { إلى } كما وقع في الأيدي وهي مغسولة ولم يقع في الممسوح حد .
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا التأويل بترك الحد في الوجه ، فكان الوضوء مغسولين ُحَّد أحدهما وممسوحين حَُّد أحدهما ، وقال الطبري رحمه الله : إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء إليهما ثم يمسح بيديه بعد ذلك فيكون المرء غاسلاً ماسحاً ، قال : ولذلك كره أكثر العلماء للمتوضىء أن يدخل رجليه في الماء دون أن يمر يديه .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقد جوز ذلك قوم منهم الحسن البصري وبعض فقهاء الأمصار . وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل وأن المسح لا يجزىء . وروي ذلك عن الضحاك وهو يقرأ بكسر اللام{[4473]} .
والكلام في قوله { إلى الكعبين } كما تقدم في قوله { إلى المرافق } واختلف اللغويون في { الكعبين } فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل . وهذان هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت ، واختلف هل يدخلان في الغسل أم لا كما تقدم في المرفق . وقال قوم الكعب هو العظم الناتىء في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل .
قال القاضي أبو محمد : ولا أعلم أحداً جعل حد الوضوء إلى هذا ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإبهام .
قال الشافعي رحمه الله لم أعلم مخالفاً في أن { الكعبين } هما العظمان في مجمع مفصل الساق ، وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال : الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر ذلك من الآية من قوله في الأيدي { إلى المرافق } أي في كل يد مرفق ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب فلما كان في كل رجل كعبان خصا بالذكر ، وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء واختلف العلماء في ذلك فقال ابن أبي سلمة وابن وهب ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان ، وقال ابن عبد الحكم ليس بفرض مع الذكر ، وقال مالك هو فرض مع الذكر ساقط مع النسيان ، وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب واختلف فيه ، فقال الأبهري : الترتيب سنة ، وظاهر المذهب أن التنكيس{[4474]} للناسي مجزىء ، واختلف في العامد فقيل : يجزىء ويرتب في المستقبل ، وقال أبو بكر القاضي وغيره : لا يجزىء لأنه عابث .
وقوله تعالى : { وإن كنتم جنباً } الجنب مأخوذ من جنب امرأة في الأغلب ، ومن المجاورة والقرب قيل { والجار الجنب } [ النساء : 36 ] ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه ، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون { الجار الجنب } [ النساء : 36 ] هو البعيد الجوار ويكون مقابلاً للصاحب بالجنب و «اطهروا » أمر بالاغتسال بالماء ، ولذلك رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وغيرهما أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء ، وقال جمهورالناس : بل هذه العبارة هي لواجد الماء ، وقد ذكر الجنب أيضاً بعد في أحكام عادم الماء بقوله تعالى : { أو لامستم النساء } إذ الملامسة هنا الجماع ، والطهور بالماء صفته أن يعم الجسد بالماء وتمر اليد مع ذلك عليه ، هذا ينغمس الرجل في الماء دون تدلك ، وقد تقدم في سورة النساء تفسير قوله عز وجل : { وإن كنتم مرضى } إلى قوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وقراءة من قرأ «من الغيط » .
وقوله تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } الإرادة صفة ذات وجاء الفعل مستقبلاً مراعاة للحوادث التي تظهر عن الإرادة فإنها تجيء مؤتنفة ، من تطهير المؤمنين وإتمام النعم عليهم ، وتعدية ( أراد ) وما تصرف منه بهذه اللام عرف في كلام العرب ، ومنه قول الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل سبيل{[4475]}
قال سيبويه وسألته رحمه الله عن هذا فقال ، المعنى إرادتي لأنسى ، ومن ذلك قول قيس بن سعد :
أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود{[4476]}
ويحتمل أن يكون في الكلام مفعول محذوف تتعلق به اللام ، وما قال الخليل لسيبويه أخصر وأحسن ، ويعترض هذا الاحتمال في المفعول المحذوف بأن من تصير زائدة في الواجب وينفصل بأن قوة النفي الذي في صدر الكلام يشفع لزيادة [ من ] وإن لم يكن النفي واقعاً على الفعل الواقع على الحرج ، ولهذا نظائر ، والحرج : الضيق ، والحرجة : الشجر الملتف المتضايق ، ومنه قيل يوم بدر في أبي جهل إنه كان في مثل الحرج من الرماح ، ويجري مع معنى هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم«دين الله يسر »{[4477]} وقوله «بعثت بالحنيفية السمحة »{[4478]} وجاء لفظ الآية على العموم والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم والرخصة فيه وزوال الحرج في تحمل الماء أبداً ولذلك قال أسيد : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر .
وقوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } الآية ، إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله تبارك وتعالى ، و { لعلكم } : ترجّ في حق البشر ، وقرأ سعيد بن المسيب «يطْهركم » بسكون الطاء وتخفيف الهاء .