التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا} (4)

وقوله { نصفه } بدل من { قليلا } بدل كل من كل ، على سبيل التفصيل بعد الإِجمال . .

أى : قم نصف الليل للعبادة لربك ، واجعل النصف الثانى من الليل لراحتك ونومك . .

ووصف - سبحانه - هذا النصف الكائن للراحة بالقلة فقال { إِلاَّ قَلِيلاً } للإِشعار بأن النصف الآخر ، العامر بالعبادة والصلاة . . هو النصف الأكثر ثوابا وقربا من الله - تعالى - بالنسبة للنصف الثانى المتخذ للراحة والنوم .

وقوله - سبحانه - : { أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ . . } تخيير له صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ، وإظهار لما اشتملت عليه شريعة الإِسلام من يسر وسماحة . .

فكأنه - تعالى - يقول له على سبيل التلطف والإرشاد إلى ما يشرح صدره - يأيها المتلفف بثيابه ، قم الليل للعبادة والصلاة ، إلا وقتا قليلا منه يكون لراحتك ونومك ، وهذا الوقت القليل المتخذ للنوم والراحة قد يكون نصف الليل ، أو قد يكون أقل من النصف بأن يكون فى حدود ثلث الليل ، ولك - أيها الرسول الكريم - أن تزيد على ذلك ، بأن تجعل ثلثى الليل للعبادة ، وثلثه للنوم والراحة .

.

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم فى أن يجعل نصف الليل أو ثلثه ، أو ثلثيه للعبادة والطاعة ، وأن يجعل المقدار الباقى من الليل للنوم والراحة . .

وخص - سبحانه - الليل بالقيام ، لأنه وقت سكون الأصوات . . فتكون العبادة فيه أكثر خشوعا ، وأدى لصفاء النفس ، وطهارة القلب ، وحسن الصلة بالله - عز وجل - .

هذا ، وقد استمر وجوب الليل على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بعد فرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته . تعظيما لشأنه ، ومداومة له على مناجاة ربه ، خصوصا فى الثلث الأخير من الليل ، يدل على ذلك قوله - تعالى - : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } وقد كان المسلمون يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم فى قيام الليل وقد أثنى - سبحانه - عليهم بسبب ذلك فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقد ذكر الإِمام أحمد حديثا طويلا عن سعيد بن هشام ، وفيه أنه سأل السيدة عائشة عن قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل ، فقالت له : ألست تقرأ هذه السورة ، يأيها المزمل . . ؟

إن الله افترض قيام الليل فى أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم . وأمسك الله ختامها فى السماء اثنى عشر شهرا ، ثم أنزل التخفيف فى آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة . .

قال القرطبى ما ملخصه : واختلف : هل كان قيام الليل فرضا وحتما ، أو كان ندبا وحضا ؟ والدلائل تقوى أن قيامه كان حتما وفرضا ، وذلك أن الندب والحض ، لا يقع على بعض الليل دون بعض ، لأن قيامه ليس مخصوصا به وقت دون وقت .

واختلف - أيضا - هل كان فرضا على النبى صلى الله عليه وسلم وحده ؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ؟ أو عليه وعلى أمته ؟ ثلاثة أقوال . . أصحها ثالثها للحديث المتقدم الذى رواه سعيد بن هشام عن عائشة - رضى الله عنها - .

وقال بعض العلماء بعد أن ساق العلماء فى هذه المسألة بشئ من التفصيل : والذى يستخلص من ذلك أن أرجح الأقوال ، هو القول القائل بأن التهجد كانفريضة على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى أمته ، إذ هو الذى يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية ، ويشهد له ما تقدم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما .

ويرى بعض العلماء أن وجوب التهجد باق على الناس جميعا ، وأنه لم ينسخ ، وإنما الذى نسخ هو وجوب قيام جزء مقدر من الليل ، لا ينقص كثيرا عن النصف .

ويرد على هذا القول بما ثبت فى الصحيحين ، من " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذى سأله عما يجب عليه من صلاة ؟ قال : خمس صلوات فى اليوم والليلة . قال : هل على غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع " .

ويرى فريق آخر : أن قيام الليل نسخ عن الرسول وعن أمته بآخر سورة المزمل . واستبدل به قراءة القرآن ، على ما يعطيه قوله - تعالى - { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } ويدل عليه - أيضا - ظاهر ما روى عن عائشة ، من قولها : فصار قيام الليل تطوعا من بعد الفريضة ، دون أن تقيد ذلك بقيد .

ويرى فريق ثالث : أن وجوب التهجد استمر على النبى وعلى الأمة ، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج .

ويرى فريق رابع : أن قيام الليل نسخ عن الأمة وحدها ، وبقى وجوبه على النبى صلى الله عليه وسلم على ما يعطيه ظاهر آية الإِسراء .

ولعل أرجح هذه الأقوال هو القول الرابع . . فإن آية سورة الإِسراء وهى قوله - تعالى - : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ . . . } تدل على أن وجوب التهجد قد بقى عليه صلى الله عليه وسلم .

وقوله - تعالى - : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } إرشاد له صلى الله عليه وسلم ولأمته إلى أفضل طريقة لقراءة القرآن الكريم ، حتى يستمروا عليها ، وهم فى أول عهدهم بنزول القرآن الكريم .

والترتيل : جعل الشئ مرتلا ، أى : منسقا منظما ، ومنه قولهم : ثغر مرتل ، أى : منظم الأسنان ، لم يشذ بعضها عن بعض .

أى : قم - أيها الرسول الكريم - الليل إلا قليلا منه . . متعبدا لربك مرتلا للقرآن ترتيلا جميلا حسنا ، تستبين معه الكلمات والحروف ، حتى يفهمها السامع ، وحتى يكون ذلك أعون على حسن تدبره ، وأثبت لمعانيه فى القلب . .

قال الإِمام ابن كثير : وكذلك كان يقرأ صلى الله عليه وسلم فقد قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها . . وسئل أنس عن قراءته صلى الله عليه وسلم فقال : كانت مدا . . وقال صلى الله عليه وسلم : " زينوا القرآن بأصواتكم " .

وقال عبد الله بن مسعود : لا تنثروه نثر الرمَل ، ولا تهذوه هذَّ الشِّعر وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب - أى لا تسرعوا فى قراءته كما تسرعوا فى قراءة الشعر .

والهذ : سرعة القطع - هذا ، وليس معنى قوله - سبحانه - : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } ، أن يقرأ بطريقة فيها تلحين أو تطريب يغير من ألفاظ القرآن ، ويخل بالقراءة الصحيحة من حيث الأداء ، ومخارج الحروف ، والغن والمد ، والإِدغام والإِظهار . . وغير ذلك مما يقتضيه القراءة السليمة للقرآن الكريم .

وإنما معنى قوله - تعالى - : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } أن يقرأه بصوت جميل وبخشوع وتدبر ، وبالتزام تام للقراءة الصحيحة ، من حيث مخارج الحروف ومن حيث الوقف والمد والإِظهار والإِخفاء ، وغير ذلك . .

وقد بسط القول فى هذه المسألة بعض العلماء فارجع إليه إن شئت .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا} (4)