وقوله : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم } أى : دعاؤهم في هذه الجنات يكون بقولهم : سبحانك اللهم . فالدعوى ها هنا بمعنى الدعاء . يقال : دعا يدعو دعاء ودعوى . كما يقال : شكا يشكو شكاية وشكوى .
ولفظ سبحان : اسم مصدر بمعنى التسبيح وهو منصوب بفعل مضمر لا يكاد يذكر معه .
ولفظ اللهم أصله يا الله ، فلما استعمل دون حرف النداء الذي هو " يا " جعلت هذه الميم المشددة في آخره عوضا عن حرف النداء .
قال الإِمام الرازي : " ومما يقوي أن المراد من الدعووى هنا الدعاء ، أنهم قالوا : اللهم .
وهذا نداء الله - تعالى - ومعنى قولهم : سبحانك اللهم . إنا نسبحك . كقول القانت في دعاء القنوت " اللهم إياك نعبد " .
ثم قال : ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة . ونظيره قوله - تعالى - : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أى : وما تعبدون ، فيكون معنى الآية : أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه ، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف ، بل على سبيل الابتهاج بذكر الله - تعالى - .
وقوله { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } معطوف على ما قبله . والتحية : التكرمة بالحال الجليلة ، وأصلها أحياك الله حياة طيبة . والسلام : بمعنى السلامة من كل مكروه .
أى : دعاؤهم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم . وتحيتهم التي يحيون بها هي السلامة من كل مكروه .
وهذه التحية تكون من الله - تعالى - لهم كما في قوله - سبحانه - { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } وتكون من الملائكة كما في قوله - تعالى - : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار }
وتكون منهم فيما بينهم كما يتبادر من قوله - تعالى - { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً . . . } وقوله : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } أى : وختام دعائهم يكون بقولهم : الحمد لله رب العالمين .
قال الإِمام القرطبي ما ملخصه : " ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن التهليل والتسبيح والحمد قد يسمى دعاء " .
روى الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب : " لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ، ورب العرش الكريم " . قال الطبري : كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب .
والذي يقطع النزاع ويثبت أن هذا يسمى دعاء ، وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء ، وإنما هو تعظيم لله - تعالى - وثناء عليه ، ما رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له " .
ويستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال الله - تعالى - حكاية عن أهل الجنة : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } .
وقوله : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : هذا حال أهل الجنة .
قال ابن جريج : أخبرتُ أن قوله : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } [ قال : إذا مر بهم الطير يشتهونه ، قالوا : سبحانك اللهم ]{[14077]} وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه ، فيسلم عليهم ، فيردون عليه . فذلك قوله : { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } قال : فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم ، فذلك قوله : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
وقال مقاتل بن حيان : إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم : { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } قال : فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم ، مع كل خادم صحفة من ذهب ، فيها طعام ليس في الأخرى ، قال : فيأكل منهن كلهن .
وقال سفيان الثوري : إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال : { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } وهذه الآية فيها شبه من قوله : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } [ الأحزاب : 44 ] ، وقوله : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } [ الواقعة : 25 ، 26 ] . وقوله : { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [ يس : 58 ] . وقوله : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [ الرعد : 23 ، 24 ] .
وقوله : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } هذا فيه دلالة على أن الله تعالى هو المحمود أبدا ، المعبود على طول المدى ؛ ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره ، وفي ابتداء كتابه ، وعند ابتداء تنزيله ، حيث يقول تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } [ الكهف : 1 ] ، { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } [ الأنعام : 1 ] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها ، وأنه المحمود في الأول و[ في ]{[14078]} الآخر ، في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، في جميع الأحوال ؛ ولهذا جاء في الحديث : " إن أهل الجنة يُلْهَمُونَ التسبيح والتحميد كما يُلْهَمُونَ النَّفَس " {[14079]} وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تضاعف نعم الله عليهم ، فتكرّر{[14080]} وتعاد وتزاد ، فليس لها انقضاء ولا أمد ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه .
جملة : { دعواهم فيها سبحانك اللهم } وما عطف عليها أحوال من ضمير { الذين آمنوا } .
والدعوى : هنا الدعاء . يقال : دعوة بالهاء ، ودعوَى بألف التأنيث .
وسبحان : مصدر بمعنى التسبيح ، أي التنزيه .
وقد تقدم عند قوله تعالى : { قالوا سبحانك لا علم لنا } في سورة [ البقرة : 32 ] .
{ اللهم } نداء لله تعالى ، فيكون إطلاق الدعاء على هذا التسبيح من أجل أنه أريد به خطاب الله لإنشاء تنزيهه ، فالدعاء فيه بالمعنى اللغوي . ويجوز أن تكون تسمية هذا التسبيح دعاء من حيث إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة الرحمات والنعيم ، كما قال أمية بن أبي الصلت :
إذَا أثنى عليك المرءُ يوماً *** كَفَاه عن تَعَرضِه الثناء
واعلم أن الاقتصار على كون دعواهم فيها كلمة { سبحانك اللهم } يشعر بأنهم لا دعوى لهم في الجنة غير ذلك القول ، لأن الاقتصار في مقام البيان يشعر بالقصر ، ( وإن لم يكن هو من طرق القصر لكنه يستفاد من المقام ) ولكن قوله : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } يفيد أن هذا التحميد من دعواهم ، فتحصل من ذلك أن لهم دعوى وخاتمة دعوى .
ووجه ذكر هذا في عدد أحوالهم أنها تدل على أن ما هم فيه من النعيم هو غايات الراغبين بحيث إن أرادوا أن ينعَموا بمقام دعاء ربهم الذي هو مقام القرب لم يجدوا أنفسهم مشتاقين لشيء يسألونه فاعتاضوا عن السؤال بالثناء على ربهم فألهموا إلى التزام التسبيح لأنه أدل لفظ على التمجيد والتنزيه ، فهو جامع للعبارة عن الكمالات .
والتحية : اسم جنس لما يُفاتح به عند اللقاء من كلمات التكرمة . وأصلها مشتقة من مصدر حيَّاهُ إذا قال له عند اللقاء أحياك الله . ثم غلبت في كل لفظ يقال عند اللقاء ، كما غلب لفظ السلام ، فيشمل : نحو حيَّاك الله ، وعِم صباحاً ، وعِمْ مساء وصبّحك الله بخير ، وبتّ بخير . وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } في سورة [ النساء : 86 ] .
ولهذا أخبر عن تحيتهم بأنها سلام ، أي لفظ سلام ، إخباراً عن الجنس بفرد من أفراده ، أي جعل الله لهم لفظ السلام تحية لهم .
والظاهر أن التحية بينهم هي كلمة ( سلام ) ، وأنها محكية هنا بلفظها دون لفظ السلام عليكم أو سلام عليكم ، لأنه لو أريد ذلك لقيل وتحيتهم فيها السلام بالتعريف ليتبادر من التعريف أنه السلام المعروف في الإسلام ، وهو كلمة السلام عليكم . وكذلك سلام الله عليهم بهذا اللفظ قال تعالى : { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] وأما قوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم } [ الرعد : 23 ، 24 ] فهو تلطف معهم بتحيتهم التي جاءهم بها الإسلام .
ونكتة حذف كلمة ( عليكم ) في سلام أهل الجنة بعضهم على بعض أن التحيّة بينهم مجرد إيناس وتكرمة فكانت أشبه بالخبر والشكر منها بالدعاء والتأمين كأنهم يغتبطون بالسلامة الكاملة التي هم فيها في الجنة فتنطلق ألسنتهم عند اللقاء معبرة عما في ضمائرهم ، بخلاف تحيّة أهل الدنيا فإنها تقع كثيراً بين المتلاقين الذين لا يعرِف بعضهم بعضاً فكانت فيها بقية من المعنى الذي أحدَث البشر لأجله السلامَ ، وهو معنى تأمين الملاقِي من الشر المتوقَّع من بين كثير من المتناكرين .