ثم أنكر - سبحانه - على هؤلاء المنافقين وأشباههم عدم تدبرهم للقرآن وحضهم على تأمل حكمه وأحكامه وهدايته فقال : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } .
وقوله { يَتَدَبَّرُونَ } من التدبير ، وتدبر الأمر - كما يقول الزمخشرى - تأمله والنظر فى أدباره وما يئول اليه فى عاقبته ومنتهاه ، ثم استعمل فى كل تأمل فمعنى تدبر القرآن : تأمل معانيه وتبصر ما فيه .
والاستفهام لإِنكار عدم تدبرهم ، والتعجيب من استمرارهم فى جهلهم ونفاقهم مع توفر الأسباب التى توصلهم إلى الهداية وعلى رأسها تدبر القرآن وتفهم معانيه .
والفاء للعطف على مقدر . أى : أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه .
والمعنى : إن هؤلاء المنافقين والذين فى قلوبهم مرض قد خيب الله سعيهم ، وكشف خباياهم ، ورأوا بأعينهم سوء عاقبة الكافرين وحسن عاقبة المؤمنين ، فهلا دفعهم ذلك إلى الإِيمان وإلى تدبر القرآن وما اشتمل عليه من هدايات وإرشادات وأخبار صادقة ، وأحكام حكيمة . . تشهد بأنه من عند الله - تعالى - ، ولو كان هذا القرآن من عند غير الله أى من إنشاء البشر لوجدوا فى أخباره وفى نظمه وفى أسلوبه وفى معانيه اختلافا كثيرا فضلا عن الاختلاف القليل ، ولكن القرآن لأنه من عند الله وحده قد تنزه عن كل ذلك وخلا من كل اختلاف سواء أكان كثيراً أم قليلا .
فالمراد بالاختلاف : تباين النظم ، وتناقض الحقائق ، وتعارض الأخبار وتضارب المعانى ، وغير ذلك مما خلا منه القرآن الكريم لأنه يتنافى مع بلاغته وصدقه .
وفى ذلك يقول صاحب الكشاف : قوله { لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } أى : لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه فكان بعضه بالغا حد الإِعجاز . وبعضه قاصرا عنه تمكن معارضته ، وبعضه إخبارا يغيب قد وافق المخبر عنه ، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه ، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعانى ، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم .
فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة لقوى البلغاء ، وتناصر معان ، وصدق أخبار دل على أنه ليس إلا من عند قادر على ما لم يقدر عليه غيره ، عالم بما لا يعلمه أحد سواه .
فالآية الكريمة تدعو الناس فى كل زمان ومكان إلى تدبر القرآن الكريم وتأمل أحكامه ، والانقياد لما اشتمل عليه من توجيهات وإرشادات وأوامر ونواه ، ليسعدوا فى دنياهم وآخرتهم .
يقول تعالى آمرًا عباده بتدبر القرآن ، وناهيا لهم عن الإعراض عنه ، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، ولا تضادّ ولا تعارض ؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد ، فهو حق من حق ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ]{[7929]} } [ محمد : 24 ] ثم قال : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ } أي : لو كان مفتعلا مختلقا ، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم { لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } أي : اضطرابا وتضادًّا كثيرًا . أي : وهذا سالم من الاختلاف ، فهو من عند الله . كما قال تعالى مخبرا عن الراسخين في العلم حيث قالوا : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [ آل عمران : 7 ] أي : محكمه ومتشابهه حق ؛ فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا ، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا ؛ ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين .
قال{[7930]} الإمام أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حُمر النَّعم ، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة{[7931]} رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب من أبوابه ، فكرهنا أن نفرق بينهم ، فجلسنا حَجْرَة ، إذ ذكروا آية من القرآن ، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم ، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا حتى احمر وجهه ، يرميهم بالتراب ، ويقول : " مهلا يا قوم ، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتب بعضها ببعض ، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا ، بل يصدّق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمِه " {[7932]} .
وهكذا رواه أيضا عن أبي معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، والناس يتكلمون في القدر ، فكأنما يُفْقَأ في وجهه حب الرُّمان من الغضب ، فقال لهم : " ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ؟ بهذا هلك من كان قبلكم " . قال : فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس ، أني لم أشهده .
ورواه ابن ماجه من حديث داود بن أبي هند ، به نحوه{[7933]} .
وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أبي عمْران الجَوْني قال : كتب إلي عبد الله بن رَبَاح ، يحدث عن عبد الله بن عمرو قال : هَجَّرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ، فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية ، فارتفعت أصواتهما فقال : " إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب " ورواه مسلم والنسائي ، من حديث حماد بن زيد ، به{[7934]} .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ( 82 )
الفاء تفريع على الكلام السابق المتعلّق بهؤلاء المنافقين أو الكفرةِ الصرحاءِ وبتوليّهم المعرض بهم في شأنه بقوله : { ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } [ النساء : 80 ] ، وبقولهم { طاعة } [ النساء : 81 ] ، ثم تدبير العصيان فيما وعدوا بالطاعة في شأنه . ولمّا كان ذلك كلّه أثراً من آثار استبطان الكفر ، أو الشكّ ، أو اختيار ما هو في نظرهم أولى ممّا أمروا به ، وكان استمرارهم على ذلك ، مع ظهور دلائل الدّين ، منبئاً بقلّة تفهّمهم القرآن ، وضعف استفادتهم ، كان المقام لتفريع الاستفهام عن قلّة تفهمّهم . فالاستفهام إنكاري للتوبيخ والتعجيب منهم في استمرار جهلهم مع توفّر أسباب التدبير لديهم .
تحدّى الله تعالى هؤلاء بمعاني القرآن ، كما تحدّاهم بألفاظه ، لبلاغته إذ كان المنافقون قد شكّوا في أنّ القرآن من عند الله ، فلذلك يظهرون الطاعة بما يأمرهم به ، فإذا خرجوا من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خالفوا ما أمرهم به لعدم ثقتهم ، ويشكّكون ويشكّون إذا بدا لهم شيء من التعارض ، فأمرهم الله تعالى بتدبير القرآن كما قال تعالى : { فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه } [ آل عمران : 7 ] الآية .
والتدبّر مشتقّ من الدُّبر ، أي الظَّهر ، اشتقّوا من الدُّبر فعلاً ، فقالوا : تدبّر إذا نظر في دبر الأمر ، أي في غائبه أو في عاقبته ، فهو من الأفعال التي اشتقّت من الأسماء الجامدة . والتدبّر يتعدّى إلى المتأمَّل فيه بنفسه ، يقال : تدبّر الأمَر . فمعنى { يتدبَّرون القرآن } يتأمّلون دلالته ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما أن يتأمّلوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين ، أي تدبّر تفاصيله ؛ وثانيهما أن يتأمّلوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنّه من عند الله ، وأنّ الذي جاء به صادق . وسياق هذه الآيات يرجّح حمل التدبُّر هنا على المعنى الأول ، أي لو تأمّلوا وتدبّروا هدي القرآن لحصل لهم خير عظيم ، ولمَا بَقُوا على فتنتهم التي هي سبب إضمارهم الكفر مع إظهارهم الإسلام . وكلا المعنيين صالح بحالهم ، إلاّ أنّ المعنى الأول أشدّ ارتباطاً بما حكي عنهم من أحوالهم .
وقوله : { ولو كان من عند غير الله } الخ يجوز أن يكون عطفاً على الجملة الاستفهامية فيكونوا أمروا بالتدبّر في تفاصيله ، وأعلموا بما يدلّ على أنّه من عند الله ، وذلك انتفاء الاختلاف منه ، فيكون الأمر بالتدبّر عامّاً ، وهذا جزئيّ من جزئيات التدبّر ذكر هنا انتهازاً لفرصة المناسبة لغَمْرهم بالاستدلال على صدق الرسول ، فيكون زائداً على الإنكار المسوق له الكلام ، تعرّض له لأنّه من المهمّ بالنسبة إليهم إذ كانوا في شكّ من أمرهم . وهذا الإعراب أليق بالمعنى الأول من معنيي التدبّر هنا . ويجوز أن تكون الجملة حالاً من « القرآن » ، ويكون قيداً للتدبّر ، أي ألاَ يتدبّرون انتفاء الاختلاففِ منه فيعلمون أنّه من عند الله ، وهذا أليق بالمعنى الثاني من معنيي التدبّر .
وممّا يستأنس به للإعراب الأوّل عدم ذكر هذه الزيادة في الآية المماثلة لهذه من سورة القتال ، وهي قوله : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذُكر فيها القتال } إلى قوله : { أفلا يتدبّرون القرآنَ أم على قلوب أقفالُها } [ محمد : 20 24 ] وهذه دقائق من تفسير الآية أهملها جميع المفسّرين .
والاختلاف يظهر أنّه أريد به اختلاف بعضه مع بعض ، أي اضطرابه ، ويحتمل أنّه اختلافه مع أحوالهم : أي لوجدوا فيه اختلافاً بين ما يذكره من أحوالهم وبين الواقع فليكتفوا بذلك في العلم بأنّه من عند الله ، إذ كان يصف ما في قلوبهم وصفَ المطّلع على الغيوب ، وهذا استدلال وجيز وعجيب قصد منه قطع معذرتهم في استمرار كفرهم . ووُصِفَ الاختلاف بالكثير في الطَرف الممتنع وقُوعه بمدلول ( لو ) . ليعلم المتدبّر أنّ انتفاء الاختلاف من أصله أكبر دليل على أنّه من عند الله ، وهذا القيد غير معتبر في الطرف المقابل لجواب ( لو ) ، فلا يقدَّر ذلك الطرف مقيَّداً بقوله : { كثيراً } بل يقدر هكذا : لكنّه من عند الله فلا اختلاف فيه أصلاً .