التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّهُۥ كَانَت تَّأۡتِيهِمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَقَالُوٓاْ أَبَشَرٞ يَهۡدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْۖ وَّٱسۡتَغۡنَى ٱللَّهُۚ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٞ} (6)

ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت إلى سوء عاقبة هؤلاء السابقين فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } .

أى : ذلك الذى أصاب الأقوام السابقين من هلاك ودمار ، سببه أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالآيات البينات ، وبالمعجزات الواضحات ، الدالة على صدقهم ، فما كان من هؤلاء الأقوام إلا أن أعرضوا عن دعوة الرسل ، وقال كل قوم منهم لرسولهم على سبيل الإنكار والتكذيب والتعجب : أبشر مثلنا يهدوننا إلى الحق والرشد ؟ !

فالباء فى قوله { بِأَنَّهُ } للسببية ، والضمير ضمير الشأن لقصد التهويل والاستفهام فى قوله { أَبَشَرٌ } للإنكار والمراد بالبشر : الجنس ، وهو مرفوع على أنه مبتدأ وخبره جملة { يَهْدُونَنَا } .

وشبيه بهذه الآية ما حكاه القرآن من قول قوم صالح له : { فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ . . . } والفاء فى قوله : { فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ واستغنى الله } للسببية .

أى : فكفروا بسبب هذا القول الفاسد : { وَتَوَلَّواْ } أى : وأعرضوا عن الحق إعراضا تاما { واستغنى الله } أى : واستغنى الله - تعالى - عنهم وعن إيمانهم ، والسين والتاء للمبالغة فى غناه - سبحانه - عنهم .

{ والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أى : والله - تعالى - غنى عنهم وعن العالمين ، محمود من كل مخلوقاته بلسان الحال والمقال وهو - تعالى - يجازى الشاكرين له بما يستحقونه من جزاء كريم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّهُۥ كَانَت تَّأۡتِيهِمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَقَالُوٓاْ أَبَشَرٞ يَهۡدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْۖ وَّٱسۡتَغۡنَى ٱللَّهُۚ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٞ} (6)

ثم علل ذلك فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والدلائل والبراهين { فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } ؟ أي : استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر ، وأن يكون هداهم على يدي بشر مثلهم ، { فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا } أي : كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل ، { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } أي : عنهم { وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّهُۥ كَانَت تَّأۡتِيهِمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَقَالُوٓاْ أَبَشَرٞ يَهۡدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْۖ وَّٱسۡتَغۡنَى ٱللَّهُۚ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٞ} (6)

ارتقاء في التعريض إلى ضرب منه قريببٍ من الصريح . وهو المسمى في الكناية بالإِشارة . كانت مقالةُ الذين من قبلُ مماثلة لمقالة المخاطبين فإذا كانت هي سبب ما ذاقوه من الوبال فيوشك أن يذوق مماثلوهم في المقالة مثل ذلك الوبال .

فاسم الإِشارة عائد إلى المذكور من الوبال والعذاب الأليم .

فهذا عَدّ لكفر آخر من وجوه كفرهم وهو تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم بالقرآن فإن القرآن بيِّنة من البيّنات لأنه معجزة .

والباء للسببية فالجملة في موقع العلة . والضمير ضمير الشأن لقصد تهويل ما يفسر الضمير ، وهو جملة { كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } إلى آخرها .

والاستفهام في { أبشر } استفهام إنكار وإبطال فهم أحالوا أن يكون بشر مثلهم يهدون بشراً أمثالهم ، وهذا من جهلهم بمراتب النفوس البشرية ومن يصطفيه الله منها ، ويخلقه مضطلعاً بتبليغ رسالته إلى عباده . كما قال : { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ] وجهلوا أنه لا يصلح لإِرشاد الناس إلا مَن هو من نوعهم قال تعالى : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } [ الإسراء : 95 ] ولمَّا أحالوا أن يكون البشر أهلاً لهداية بشر مثله جعلوا ذلك كافياً في إعراضهم عن قبول القرآن والتدبر فيه .

والبشر : اسم جنس للإِنسان يصدق على الواحد كما في قوله تعالى : { قل إنما أنا بشر مثلكم } [ الكهف : 110 ] ويقال على الجمع كما هنا . وتقدم في قوله : { وقلن حاش لله ما هذا بشراً } في سورة [ يوسف : 31 ] وفي سورة [ مريم : 17 ] عند قوله : { فتمثل لها بشراً سوياً }

وتنكير بشر } للنوعية لأن محط الإِنكار على كونهم يَهدونهم ، هو نوعُ البشرية .

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لقصد تقوّي حكم الإِنكار ، وما قالوا ذلك حتى اعتقدوه فلذلك أقدموا على الكفر برسلهم إذ قد اعتقدوا استحالة إرسال الله إياهم فجزموا بكذبهم في دعوى الرسالة فلذلك فرع عليه { فكفروا وتولوا } .

والتولي أصله : الانصراف عن المكان الذي أنت فيه ، وهو هنا مستعار للإِعراض عن قبول دعوة رسلهم ، وتقدم عند قوله تعالى : { ثم توليتم من بعد ذلك } في سورة [ البقرة : 64 ] .

واستغنى } غَنِيَ فالسين والتاء للمبالغة كقوله : { أما من استغنى } [ عبس : 5 ] . والمعنى : غَنِي الله عن إيمانهم قال تعالى : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } [ الزمر : 7 ] .

والواو واو الحال ، أي والحال أن الله غني عنهم من زمن مضى فإن غنى الله عن إيمانهم مقرر في الأزل .

ويجوز أن يراد : واستغنى الله عن إعادة دعوتهم لأن فيما أظهر لهم من البينات على أيدي رسلهم ما هو كاف لحصول التصديق بدعوة رسلهم لولا المكابرة فلذلك عجّل لهم بالعذاب .

وعلى الوجهين فمتعلق { استغنى } محذوف دل عليه قوله : { فكفروا } وقوله : { بالبينات } والتقدير : واستغنى الله عن إيمانهم .

وجملة { والله غني حميد } تذييل ، أي غني عن كل شيء فيما طلب منهم ، حميد لمن امتثل وشكر .