ثم فصل - سبحانه - ما عليه المشركون من ضلال فقال : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } .
و { إِن } هنا هى النافية . ويدعون من الدعاء وهو هنا بمعنى العبادة لأن من عبد شيئا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه .
والمراد بالإِناث : الأصنام التى كانوا يعبدونها من دون الله .
أى : أن هؤلاء المشركين ما يعبدون من دون الله إلا أصناما ، أو ما ينادون من دون الله لقضاء حاوئجهم إلا أوثاناً لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا .
وعبر عن الأصنام بالإِناث لأن المشركين سموا أكثر هذه الأصنام بأسماء الإِناث ، كاللات والعزى ومناة .
قال الحسن : كان لكل حى من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بنى فلان وكانوا يزينونه بالحلى كالنساء .
وقيل : المراد بالإِناث هنا الملائكة ، لأن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون عنها : بنات الله . قال - تعالى - { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } وقيل : المراد بها هنا : الجمادات التى لا حياة فيها ومع ذلك يعبدونها .
قال أبو حيان : قال الراغب : أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة . فبكتهم الله أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلا من كل وجه . وعلى هذا نبه إبراهيم - عليه السلام - أباه بقوله : { ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وقد رجح ابن جرير القول الأول فقال : وأولى التأويلات التى ذكرت بتأويل ذلك تأويل من قال : عنى بذلك الآلهة التى كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ، ويسمونها بالإِناث من الأسماء كاللات والعزى ونائلة ومناة وما أشبه ذلك .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ؛ لأن الأظهر من معانى الإِناث فى كلام العرب ، ما عرف بالتأنيث دون غيره فإذا كان ذلك كذلك فالواجب توجيه تأويله إلا الأشهر من معانيه . فكأنه - تعالى - يقول : فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه حجةعليهم فى ضلالهم وكفرهم أنهم يعبدون إناثا . والإِناث من كل شئ أخسه . فهم يقرون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته وبمتنعون من إخلاص العبودية للذى ملك كل شئ وبيده الخلق والأمر .
وقوله { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } بيان لما دفعهم إلى الوقوع فى ذلك الضلال الذى انغمسوا فيه .
ومريداً . أى عاتيا متمردا بالغا الغاية فى الشرور والفساد .
قال الراغب : والمراد والمريد من شياطين الجن والإِنس المتعرى من الخيرات . من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق . ومنه قيل رملة مرداء أى : لم تنبت شيئا . ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر .
فأصل مادة مرد للملاسة والتجرد . ومنه قوله - تعالى - { صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ } أى أملس . ووصف الشيطان بالتمرد لتجرده للشر .
وعدم علوق شئ من الخير به . أو لظهور شره ظهور عيدان الشجرة المرداء .
والمعنى : إن هؤلاء المشركين ما يعبدون من دون الله إلا أصناما سموها بأسماء الإِناث ، وما يطيعون فى عبادتها إلا شيطانا عاتيا متجردا من كل خير ، ومتعريا من كل فضيلة . فهذا الشيطان الشرير دعاهم لعبادة غير الله فانقادوا له انقيادا تاما . وخضعوا له خضوعا لا مكان معه لتعقل أو تدبر .
وقوله : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غَيْلان ، أنبأنا الفضل بن موسى ، أخبرنا الحسن{[8336]} بن واقد ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قال : مع كل صنم جنيَّة .
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سلمة الباهلي ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن هشام - يعني ابن عروة - عن أبيه عن عائشة : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قالت : أوثانا .
وروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، {[8337]} وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، وأبي مالك ، والسدي ، ومقاتل بن حيان نحو ذلك .
وقال جُوَيْبر عن الضحاك في [ قوله ]{[8338]} { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قال المشركون : إن الملائكة بنات الله ، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، قال : اتخذوها أربابا وصوروهن صور الجواري ، فحكموا{[8339]} وقلدوا ، وقالوا : هؤلاء يُشْبهن بنات الله الذي نعبده ، يعنون الملائكة .
وهذا التفسير شبيه بقوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . [ مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى . أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى . تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى . إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ]{[8340]} } [ النجم : 19 - 23 ] ، وقال تعالى : { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [ أشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ]{[8341]} } [ الزخرف : 19 ] ، وقال تعالى : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ . سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ]{[8342]} } [ الصافات : 158 ، 159 ] .
وقال علي بن أبي طلحة والضحاك ، عن ابن عباس : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قال : يعني موتى .
وقال مبارك - يعني ابن فَضَالة - عن الحسن : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قال الحسن : الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح ، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس . ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وهو غريب .
وقوله : { وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا } أي : هو الذي أمرهم بذلك وحسنه لهم وزينه ، وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر ، كما قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ]{[8343]} } [ يس : 60 ] وقال تعالى إخبارًا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا : { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] .
{ إن يدعون من دونه إلا إناثا } يعني اللات والعزى ومناة ونحوها ، كان لكل حي صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان وذلك إما لتأنيث أسمائها كما قال : وما ذكر فإن يسمن فأنثى *** شديد الأزم ليس له ضروس
فإنه عنى القراد وهو ما كان صغيرا سمي قرادا فإذا كبر سمي حلمة ، أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث من حيث إنها ضاهت الإناث لا نفعا لها ، ولعله سبحانه وتعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيها على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثا لأنه ينفعل ولا يفعل ، ومن حق المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل ليكون دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم . وقيل المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله ، سبحانه وتعالى ، وهو جمع أنثى كرباب وربى ، وقرئ " أنثى " على التوحيد وأننا على أنه جمع أنيث كخبث وخبيث ، ووثنا بالتخفيف ووثنا بالتثقيل وهو جمع وثن كأسد وأسد وأسد وأثنا أثنا بهما على قلب الواو لضمها همزة . { وإن يدعون } وإن يعبدون بعبادتها . { إلا شيطانا مريدا } لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها ، فكأن طاعته في ذلك عبادة له ، والمارد والمريد الذي لا يعلق بخير . وأصل التركيب للملابسة . ومنه { صرح ممرد } وغلام أمرد وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها .
الضمير في { يدعون } عائد على من تقدم ذكره من الكفرة في قوله : { ومن يشاقق الرسول } [ النساء : 115 ] { إن } نافية بمعنى «ما » ويدعون عبارة مغنية موجزة في معنيي : يعبدون ويتخذون آلهة ، وقرأ أبو رجاء العطاردي «إن تدعون » بالتاء من فوق ، ورويت عن عاصم ، واختلف في معنى «الإناث » فقال أبو مالك والسدي وغيرهما : ذلك لأن العرب كانت تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة ، فاللات والعزى ومناة ونائلة .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : ويرد على هذا أنها كانت تسمي بأسماء مذكرة كثيرة ، وقال الضحاك وغيره : المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها ، فقيل لهم هذا على جهة إقامة الحجة من فاسد قولهم ، وقال ابن عباس والحسن وقتادة : المراد : الخشب والحجارة وهي مؤنثات لا تعقل ، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء فيجيء قوله : { إلا إناثاً } عبارة عن الجمادات ، وقيل : إنما هذا لأن العرب كانت تسمي الصنم أنثى فتقول : أنثى بني فلان .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا على اختلافه يقضي بتعييرهم بالتأنيث وأن التأنيث نقص وخساسة بالإضافة إلى التذكير ، وقيل معنى { إناثاً } أوثاناً ، وفي مصحف عائشة «إن يدعون من دونه إلا أوثاناً » وقرأ ابن عباس فيما روى عنه أبو صالح «إلا أنثاً » يريد وثناً ، فأبدل الهمزة واواً ، وهو جمع جمع على ما حكى بعض الناس ، كأنه جمع وثناً على وثان ، كجمل وجمال ، ثم جمع وثاناً على وثن كرهان ورهن وكمثال ومثل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ ، لأن فعالاً في جمع فعل إنما هو للتكثير والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع وإنما تجمع جموع التقليل ، والصواب أن تقول وثن جمع وثن دون واسطة ، كأسد وأسد ، قال أبو عمرو : وبهذا قرأ ابن عمر وسعيد بن المسيب ومسلم بن جندب وعطاء ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «إلا وَثنَاً » بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس وقرأ ابن عباس أيضاً «وُثُناً » بضم الواو والثاء وقرأت فرقة «إلا وثنَاً وقرأت فرقة » إلا أثناً «بسكون الثاء ، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم » إلا أنثاً «بتقديم النون وهو جمع أنيث كغدير وغدر ونحو ذلك ، وحكى الطبري : أنه جمع إناث كثمار وثمر ، وحكى هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو عمرو الداني ، قال : وقرأ بها ابن عباس وأبو حيوة والحسن . واختلف في المعنى ب » الشيطان «فقالت فرقة : هو الشيطان المقترن بكل صنم ، فكأنه موحد باللفظ جمع بالمعنى ، لأن الواحد يدل على الجنس ، وقال الجمهور : المراد إبليس وهذا هو الصواب ، لأن سائر المقالة به تليق ، و { مريداً } معناه عاتياً صليباً في غوايته ، وهو فعيل من مرد : إذا عتا وغلا في انحرافه وتجرد للشر والغواية .
كان قوله : { إن يدعون } بياناً لقوله : { فقد ضلّ ضلالاً بعيداً } [ النساء : 116 ] ، وأي ضلال أشدّ من أن يشرك أحد بالله غيرَه ثم أن يَدّعي أنّ شركاءه إناث ، وقد علموا أنّ الأنثى أضعف الصنفين من كلّ نوع . وأعجب من ذلك أن يَكون هذا صادراً من العرب ، وقد علم الناس حال المرأة بينهم ، وقد حَرَمُوها من حقوق كثيرة واستضعفوها . فالحصر في قوله : { إن يدعون من دونه إلا إناثاً } قصر ادّعائي لأنّه أعجبُ أحوال إشراكهم ، ولأنّ أكبر آلهتهم يعتقدونها أنثى وهي : اللاّت ، والعُزّى ، ومَنَاة ، فهذا كقولك لا عالم إلاّ زيد . وكانت العزّى لقريش ، وكانت مناة للأوس والخزرج ، ولا يخفى أنّ معظم المعاندين للمسلمين يومئذ كانوا من هذين الحيّين : مشركو قريش هم أشدّ الناس عداء للإسلام : ومنافقوا المدينة ومشركوها أشدّ الناس فتنة في الإسلام .
ومعنى { وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً } أنّ دعوتهم الأصنام دعوة للشيطان ، والمراد جنس الشيطان ، وإنما جعلوا يدعون الشيطان لأنه الذي سوّل لهم عبادة الأصنام . والمَريد : العاصي والخارج عن المَلِك ، وفي المثل « تمرّد مارد وعزّ الأبلق » اسما حصنين للسموأل ، فالمريد صفة مشبّهة مشتقّة من مردُ بضم الراء إذا عتا في العصيان .