ثم يقال للكافر فى هذا اليوم العصيب : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ } تامة { مِّنْ هذا } الذى تعانيه اليوم وتشاهده { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } أى : فأنزلنا عنك فى هذا اليوم تلك الغفلة التى كانت تحجبك عن الاستعداد لهذا اليوم بالإِيمان والعمل الصالح .
{ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } أى : فبصرك ونظرك فى هذا اليوم نافذ قوى ، تستطيع أن تبصر به ما كنت تنكره فى الدنيا ، من البعث والحساب والثواب والعقاب .
يقال : فلان حديد البصر ، إذا كان شيدد الإِبصار بحيث ترى أكثر مما يراه غيره .
وهكذا نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد بينت بأسلوب بليغ مؤثر ، شمول علم الله - تعالى - لكل شئ ، كما بينت حالة الإِنسان يوم القيامة ، يوم تأتى كل نفس ومعها سائق وشهيد . .
وحكى ابن جرير ثلاثة أقوال في المراد بهذا الخطاب في قوله : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }
أحدها : أن المراد بذلك الكافر . رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وبه يقول الضحاك بن مزاحم وصالح بن كيسان .
والثاني : أن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر ؛ لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة والدنيا كالمنام . وهذا اختيار ابن جرير ، ونقله عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس .
والثالث : أن المخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم . وبه يقول زيد بن أسلم ، وابنه . والمعنى على قولهما : لقد كنت في غفلة من هذا الشأن {[27309]} قبل أن يوحى إليك ، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك ، فبصرك اليوم حديد .
والظاهر من السياق خلاف هذا ، بل الخطاب مع الإنسان من حيث هو ، والمراد بقوله : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } يعني : من هذا اليوم ، { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي : قوي ؛ لأن كل واحد يوم القيامة يكون مستبصرا ، حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة ، لكن لا ينفعهم ذلك . قال الله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] .
{ لقد كنت في غفلة من هذا } على إضمار القول والخطاب { لكل نفس } إذ ما من أحد إلا وله اشتغال ما عن الآخرة أو للكافر . { فكشفنا عنك غطاءك } الغطاء الحاجب لأمور المعاد وهو الغفلة ، والانهماك في المحسوسات والإلف بها وقصور النظر عليها . { فبصرك اليوم حديد } نافذ لزوال المانع للأبصار . وقيل الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى : كنت في غفلة من أمر الديانة فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن ، { فبصرك اليوم حديد } ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون . ويؤيد الأول قراءة من كسر التاء والكافات على خطاب النفس .
قرأ الجحدري : «لقد كنتِ » على مخاطبة النفس وكذلك كسر الكافات بعد .
وقال صالح بن كيسان والضحاك وابن عباس معنى قوله : { لقد كنت } أي يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد إذا حصل بين يدي الرحمن وعاين الحقائق التي كان لا يصدق بها في الدنيا ويتغافل عن النظر فيها ، { لقد كنت في غفلة من هذا } ، فلما كشف الغطاء عنك الآن احتد بصرك أي بصيرتك وهذا كما تقول : فلان حديد الذهن والفؤاد ونحوه ، وقال مجاهد : هو بصر العين إذا احتد التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة .
وقال زيد بن أسلم قوله تعالى : { ذلك ما كنت منه تحيد } [ ق : 19 ] وقوله تعالى : { لقد كنت } الآية ، مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أنه خوطب بهذا في الدنيا ، أي لقد كنت يا محمد في غفلة من معرفة هذا القصص والغيب حتى أرسلناك وأنعمنا عليك وعلمناك ، { فبصرك اليوم حديد } ، وهذا التأويل يضعف من وجوه ، أحدها أن الغفلة إنما تنسب أبداً إلى مقصر ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا تقصير له قبل بعثه ولا بعده وثان : أن قوله : بعد هذا : { وقال قرينه } يقتضي أن الضمير إنما يعود على أقرب مذكور ، وهو الذي يقال له { فبصرك اليوم حديد } وإن جعلناه عائداً على ذي النفس في الآية المتقدمة جاء هذا الاعتراض لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الكلامين غير متمكن فتأمله . وثالث : أن معنى توقيف الكافر وتوبيخه على حاله في الدنيا يسقط ، وهو أحرى بالآية وأولى بالرصف ، والوجه عندي ما قاله الحسن وسالم بن عبد الله إنها مخاطبة للإنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر .
و : { فكشفنا عنك غطاءك } ، قال ابن عباس : هي الحياة بعد الموت ، وينظر إلى معنى كشف الغطاء قول النبي صلى الله عليه وسلم : «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » .
مقول قول محذوف دل عليه تعينه من الخطاب ، أي يقال هذا الكلام لكل نفس من نفوس المشركين فهو خطاب التهكم التوبيخي للنفس الكافرة لأن المؤمن لم يكن في غفلة عن الحشر والجزاء .
وجملة القول ومقوله في موضع الحال من { كل نفس } [ ق : 21 ] أو موقع الصفة ، وعلامات الخطاب في كلمات { كُنتَ } و { عنكَ } و { غطاءكَ } و { بصركَ } مفتوحة لتأويل النفس بالشخص أو بالإنسان ثم غُلب فيه التذكير على التأنيث . وهذا الكلام صادر من جانب الله تعالى وهو شروع في ذكر الحساب .
والغفلة : الذهول عما شأنه أن يُعلم وأطلقت هنا على الإنكار والجحد على سبيل التهكم ، ورشَّح ذلك قولُه { فكشفنا عنك غطاءك } بمعنى : بيّنا لك الدليل بالحس فهو أيضاً تهكّم . وأوثر قوله : { في غفلة } على أن يقال غافلاً للدلالة على تمكن الغفلة منه ولذلك استتبع تمثيلَها بالغطاء .
وكشف الغطاء تمثيل لحصول اليقين بالشيء بعد إنكار وقوعه ، أي كشفنا عنك الغطاء الذي كان يحجب عنك وقوع هذا اليوم بما فيه ، وأسند الكشف إلى الله تعالى لأنه الذي أظهر لها أسباب حصول اليقين بشواهد عَيْن اليقين . وأضيف ( غطاء ) إلى ضمير الإنسان المخاطب للدلالة على اختصاصه به وأنه مما يعرف به .
وحدة البصر : قوة نفاذه في المَرئي ، وحدّة كل شيء قوةُ مفعوله ، ومنه حدة الذهن ، والكلام يتضمن تشبيه حصول اليقين برؤية المرئي ببصر قوي ، وتقييده بقوله : { اليوم } تعريض بالتوبيخ ، أي ليس حالك اليوم كحالك قبل اليوم إذ كنت في الدنيا منكراً للبعث .
والمعنى : فقد شاهدتَ البعث والحشر والجزاء ، فإنهم كانوا ينكرون ذلك كله ، قالوا { أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئنا المدينون } [ الصافات : 53 ] وقالوا : { وما نحن بمعذبين } [ الصافات : 59 ] فقد رأى العذاب ببصره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.