التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ} (78)

ثم كشف القرآن الكريم عن حقيقة الدوافع التي جعلتهم يصفون الحق بأنه سحر مبين فقال - تعالى - : { قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .

واللفت : الصرف واللى يقال : لفته يلفته لفتا ، أى : صرفه عن وجهته إلى ذات اليمين أو الشمال .

أى : قال فرعون وملؤه لموسى - عليه السلام - بعد أن جاءهم بالحق المبين : أجئتنا يا موسى بما جئتنا به { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أى : لتصرفنا عن الدين الذي وجدنا عليه آباءنا ، وتكون لك ولأخيك هارون { الكبريآء فِي الأرض } أي السيادة والرياسة والزعامة الدينية والدنيوية في الأرض بصفة عامة ، وفى أرض مصر بصفة خاصة .

ثم أكدوا إنكارهم لما جاءهم به موسى - عليه السلام - من الدين الحق فقالوا - كما حكى القرآن عنهم - { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } أى وما نحن لكما بمصدقين فيما جئتما به ، لأن تصديقنا لكما يخرجنا عن الدين الذي وجدنا عليه آباءنا ، وينزع منا ملكنا الذي تتمتع بكبريائه خاصتنا ، وتعيش تحت سلطانه وقهره عامتنا .

وأفردوا موسى - عليه السلام - بالخطاب في قولهم { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا . . } لأنه هو الذي كان يجابههم بالحجج التي تقطع دابر باطلهم ، ويرد على أكاذيبهم بما يفضحهم ويكشف عن غرورهم وغبائهم .

وجمعوا بين موسى وهارون - عليهما السلام - في قولهم { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } باعبتار شمول الكبرياء والرياسة والملك لهما ، وباعتبار أن الإِيمان بأحدهما يستلزم الإِيمان بالآخر .

هذا ، والذى يتدبر هذه الآية الكريمة ، يرى أن التهمة التي وجهها فرعون وملؤه إلى موسى وهارون - عليهما السلام - هي تهمة قديمة جديدة فقوم نوح - مثلا - يمتنعون عن قبول دعوته ، لأنه في نظرهم جاء بما جاء به بقصد التفضل عليهم ، وفي هذا يقول القرآن الكريم : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ . فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أى : يريد أن تكون له السيادة والفضل عليكم ، فيكون زعيما وأنتم له تابعون .

ولقد أفاض في شرح هذا المعنى صاحب الظلال - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فقال ما ملخصه :

وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة ، التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادى ، وهو الخوف على السلطان في الأرض ، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة .

إنها العلة القديمة الجديدة التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة دعوات الإِصلاح ورمى الدعاة بأشنع التهم ؛ والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة . . إنها هي " الكبرياء في الأرض " وما تقوم عليه من معتقدات باطلة ، يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير ، بكل ما فيها من زيف وفساد ، وأوهام وخرافات ، لأن تفتح القلوب على العقيدة الصحيحة ، خطر على القيم الجاهلية الموروثة .

وما كان رجال من أذكياء قريش - مثلا - ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من صدق وسمو ، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد ، ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة ، القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد ، كمى خشى الملأ من قوم فرعون على سطانهم في الأرض ، فقالوا متبجحين { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ} (78)

يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا } من بعد تلك الرسل { مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : قومه . {[14341]} { بِآيَاتِنَا } أي : حجَجنا وبراهيننا ، { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } أي : استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له ، { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ } كأنهم - قبَّحهم الله - أقسموا على ذلك ، وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] .

{ قَاَلَ } لهم { مُوسَى } منكرا عليهم : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } أي : تثنينا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : الدّين الذي كانوا عليه ، { وَتَكُونَ لَكُمَا } أي : لك ولهارون { الْكِبْرِيَاء } أي : العظمة والرياسة { فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .

وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى ، عليه السلام ، مع فرعون في كتابه العزيز ؛ لأنها من أعجب القصص ، فإن فرعون حَذر من موسى كل{[14342]} الحذر ، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم ، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم ، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده{[14343]} ويرجع إليه ، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان ، فجاءه برسالة الله ، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه{[14344]} السلام ، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية ، والنفس الخبيثة الأبية ، وقوى رأسه وتولّى بركنه ، وادعى ما ليس له ، وتجهرم على الله ، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل ، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون ، ويحوطهما ، بعنايته ، ويحرسهما بعينه التي لا تنام ، ولم تزل{[14345]} المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا{[14346]} بعد شيء ، ومرة{[14347]} بعد مرة ، مما يبهر العقول ويدهش الألباب ، مما لا يقوم له شيء ، ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله ، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، وصمم فرعون وَمَلَؤه - قبحهم الله - على التكذيب بذلك كله ، والجحد والعناد والمكابرة ، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد ، وأغرقهم في صبيحة{[14348]} واحدة أجمعين ، { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 45 ] .


[14341]:- في ت ، أ : "أي إلى قومه".
[14342]:- في أ : "من".
[14343]:- في ت ، أ : "فيعبده".
[14344]:- في ت ، أ : "عليهما".
[14345]:- في ت : "ولم يزل".
[14346]:- في ت : "شيء".
[14347]:- في ت : "وكره".
[14348]:- في ت : "صيحة".

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَلۡفِتَنَا عَمَّا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا نَحۡنُ لَكُمَا بِمُؤۡمِنِينَ} (78)

{ قالوا أجئتنا لتلفتنا } لتصرفنا واللفت والفتل أخوان . { عما وجدنا عليه آباءنا } من عبادة الأصنام . { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } الملك فيها سمي بها لاتصاف الملوك بالكبر ، أو التكبر على الناس باستتباعهم . { وما نحن لكما بمؤمنين } بمصدقين فيما جئتما به .