{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } أى : قبل هؤلاء الكافرين المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق { قَوْمُ نُوحٍ } الذين أغرقناهم بسبب هذا التكذيب لنبيهم .
{ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ } أى : وكذلك الأقوام الآخرون الذين جاءوا من بعد قوم نوح ، قد تحزبوا على أنبيائهم ، وأجمعوا على تكذيبهم ، كما فعل قوم عاد مع نبيهم هود ، وكما فعل قوم ثمود مع نبيهم صالح ، وكما فعل أهل مدين مع نبيهم شعيب . .
فالضمير فى قوله - تعالى - : { مِن بَعْدِهِمْ } يعود إلى قوم نوح .
وأفردهم - سبحانه - بالذكر لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما . ولم يزدهم دعاؤه لهم إلا عتوا ونفورا .
وقوله - تعالى - : { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } بيان لما فعله هؤلاء الأقوام المجرمين ، لم يكتفوا بالتكذيب لأنبيائهم ، بل إن كل أمة منهم قد مكرت بنبيها ، وأرادت به السوء ، وحاولت أن تتمكن منه بالأسر أو بالقتل ، وجادلته بالجدال الباطل ، لتزيل به الحق الذى جاء به من عند ربه وتبطله .
والتعبير بقوله : { لِيَأْخُذُوهُ } يشعر بأن هؤلاء المجرمين كانوا حريصين على التمكن من إيذاء نبيهم ومن الاعتداء عليه ، كما يحرص الشخص على أخذ عدوه وأسره ليفعل به ما يشاء .
وقوله - تعالى - : { فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } بيان لما آل إليه مكرهم وجدالهم بالباطل .
أى : هموا بما هموا ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، وحاولوا أن يجعلوا رسولهم بمنزلة الأسير فيهم . فكانت نتيجة كل ذلك أن أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، بأن دمرناهم تدميرا فكيف كان عقابى لهم ؟ لقد كان عقابا مدمرا ، جعلهم أثرا بعد عين ، وترك آثار مساكنهم تشهد بهلاكهم واستئصالهم .
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه {[25416]} محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ، بأن له أسوة من سلف من الأنبياء ؛ فإنه قد كذبهم {[25417]} أممهم وخالفوهم ، وما آمن بهم منهم إلا قليل{[25418]} ، فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } وهو أول رسول بَعَثه الله ينهى عن عبادة الأوثان ، { وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : من كل أمة ، { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي : حرصوا على قتله بكل ممكن ، ومنهم من قتل رسوله {[25419]} ، { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } أي : مَاحَلُوا بالشبهة {[25420]} ليردوا الحق الواضح الجلي .
وقد قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا عارم أبو النعمان ، حدثنا مُعْتَمِر ابن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن حَنَش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس {[25421]} [ رضي الله عنه ] {[25422]} ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أعان باطلا ليدحض بباطله حقًّا ، فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله " {[25423]} .
وقوله : { فَأَخَذْتُهُمْ } أي : أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام ، { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي : فكيف بلغك عذابي لهم ، ونكالي بهم ؟ قد كان شديدًا موجعًا مؤلمًا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية ليحذروا، فلا يكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال: {كذبت قبلهم} قبل أهل مكة {قوم نوح} الخالية رسلهم.
{و} كذبت {والأحزاب} يعني الأمم الخالية رسلهم {من بعدهم} يعني من بعد قوم نوح.
{وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه} يعني ليقتلوه {وجادلوا} يعني وخاصموا رسلهم.
{بالباطل ليدحضوا به الحق} يعني ليبطلوا به الحق الذي جاءت به الرسل... {فأخذتهم} بالعذاب {فكيف كان عقاب} يعني عقابي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قصّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قصص الأمم المكذّبة رسلها، وأخبره أنهم كانوا من جدالهم لرسله على مثل الذي عليه قومه الذين أرسل إليهم، وإنه أحلّ بهم من نقمته عند بلوغهم أمدهم بعد إعذار رسله إليهم، وإنذارهم بأسه ما قد ذكر في كتابه إعلاما منه بذلك نبيه، أن سنته في قومه الذين سلكوا سبيل أولئك في تكذيبه وجداله سنته من إحلال نقمته بهم، وسطوته بهم، فقال تعالى ذكره: كذبت قبل قومك المكذّبين لرسالتك إليهم رسولاً، المجادليك بالباطل قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهم الأمم الذين تحزّبُوا وتجمّعوا على رسلهم بالتكذيب لها، كعاد وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مَدْيَن وأشباههم.
"وجَادَلُوا بالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَ": وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم إياه وخصومتهم له الحقّ الذي جاءهم به من عند الله، من الدخول في طاعته، والإقرار بتوحيده، والبراءة من عبادة ما سواه، كما يخاصمك كفار قومك يا محمد بالباطل.
"فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقَابِ": فأخذت الذين هموا برسولهم ليأخذوه بالعذاب من عندي، فكيف كان عقابي إياهم، ألم أهلكهم فأجعلهم للخلق عبرة، ولمن بعدهم عظة؟ وأجعل ديارهم ومساكنهم منهم خلاء، وللوحوش ثواء.
{وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه} أي وعزمت كل أمة من هؤلاء الأحزاب أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويعذبوه ويحبسوه.
{وجادلوا بالباطل} أي هؤلاء جادلوا رسلهم بالباطل أي بإيراد الشبهات.
{ليدحضوا به الحق} أي أن يزيلوا بسبب إيراد تلك الشبهات الحق والصدق.
{فأخذتهم فكيف كان عقاب} أي فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل، وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا، فكيف كان عقابي إياهم، أليس كان مهلكا مستأصلا مهيبا في الذكر والسماع، فأنا أفعل بقومك كما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نهى عن الاغترار بما لا قوة لاحد على صرفه من نفسه إلا بتأييد من الله، علله بما يحقق معنى النهي من أن التقلب وما يثمره لا يصح أن يكون معتمداً ليزهد فيه كل من سمع هاتين الآيتين، فقال مشيراً بتأنيث الفعل إلى ضعفهم عن المقاومة، وتلاشيهم عند المصادمة، وإن كانوا في غاية القوة بالنسبة إلى أبناء جنسهم:
{كذبت} ولما كان تكذيبهم عظيماً وكان زمانه قديماً وما قبله من الزمان قليلاً بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم، جعل مستغرقاً بجميع الزمان، فقال من غير خافض: {قبلهم}.
ولما كان الناس على زمن نوح عليه السلام حزباً واحداً مجتمعين على أمر واحد ولسان جامع، وحدهم فقال: {قوم نوح} أي وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام بما يحاولونه، وكانوا حزباً واحداً لم يفرقهم شيء.
ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان، وكان للإجمال من الروع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل قال: {والأحزاب} أي الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً، ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله: {من بعدهم}.
ولما كان التكذيب وحده كافياً في الأذى، دل على أنهم زادوا عليه بالمبالغة في المناصبة بالمعاندة، وقدم قصد الإهلاك لأنه أول ما يريده العدو فإن عجز عنه نزل إلى ما دونه فقال: {وهمَّت كل أمة} أي من الأحزاب المذكورين {برسولهم} أي الذي أرسلناه إليهم.
ولما كان الأخذ يعبر عنه عن الغلبة والقهر والاستصغار مع الغضب قال: {ليأخذوه} ولما كان سوق الكلام هكذا دالاً على أنهم عجزوا عن الأخذ، ذكر أنهم بذلوا جهدهم في المغالبة بغيره، فقال حاذفاً للمفعول تعميماً: {وجادلوا بالباطل} أي الأمر الذي لا حقيقة له، وليس له من ذاته إلا الزوال، كما تفعل قريش ومن انضوى إليهم من العرب، ثم بين علة مجادلتهم فقال: {ليدحضوا} أي ليزلقوا فيزيلوا {به الحق} أي الثابت ثباتاً لا حيلة في إزالته.
ولما كان من المعلوم لكل ذي لب أن فاعل ذلك مغلوب، وأن فعله مسبب لغضب المرسل عليه، قال صارفاً القول إلى المتكلم دفعاً للإلباس، وإشارة إلى شدة الغضب وجرده عن مظهر العظمة استصغاراً لهم: {فأخذتهم} أي أهلكتهم وهم صاغرون غضباً عليهم وإهانة لهم.
ولما كان أخذه عظيماً، دل على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عن حاله لزيادة عظمتها في قوة بطشها وسرعة إهلاكها وخرقها للعوائد فقال: {فكيف كان عقاب} ومن نظر ديارهم وتقرى آثارهم وقف على بعض ما أشرنا إليه ونبهنا عليه، وحذف ياء المتكلم إشارة إلى أن أدنى من عذابه بأدنى نسبة كاف في المراد وإن كان المعذب جميع العباد...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هدد من جادل بآيات الله ليبطلها، كما فعل من قبله من الأمم من قوم نوح وعاد والأحزاب من بعدهم، الذين تحزبوا وتجمعوا على الحق ليبطلوه، وعلى الباطل لينصروه، {و} أنه بلغت بهم الحال، وآل بهم التحزب إلى أنه {هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ} من الأمم {بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي: يقتلوه. وهذا أبلغ ما يكون الرسل الذين هم قادة أهل الخير الذين معهم الحق الصرف الذي لا شك فيه ولا اشتباه، هموا بقتلهم، فهل بعد هذا البغي والضلال والشقاء إلا العذاب العظيم الذي لا يخرجون منه؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المعنى: أن الأُمم السابقة من الكفرة لم يقتصروا على تكذيب الرسول بل تجاوزوا ذلك إلى غاية الأذى من الهمّ بالقتل كما حكى الله عن ثمود: {قالوا تقاسموا باللَّه لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون} [النمل: 49]. وقد تآمر كفار قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة دار الندوة ليقتلوه أن يتجمع نفر من جَميع عشائرهم فيضربوه بالسيوف ضربة رجل واحد كيلا يستطيع أولياؤه من بني هاشم الأخذ بثأره، فأخذ الله الأمم عقوبة لهم على همهم برسلهم فأهلكهم واستأصلهم...
والاستفهام ب {كيف كانَ عقاب} مستعمل في التعجيب من حالة العقاب وذلك يقتضي أن المخاطب بالاستفهام لم يكن قد شاهد ذلك الأخذ والعقاب وإنما بني ذلك على مشاهدة آثار ذلك الأخذ في مرور الكثير على ديارهم في الأسفار كما أشار إليه قوله تعالى: {وإنها لبسبيل مقيم} [الحجر: 76] ونحوه، وفي سماع الأخبار عن نزول العقاب بهم وتوصيفهم، فنزل جميع المخاطبين منزلة من شاهد نزول العذاب بهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية أعلاه تلخص برنامج «الأحزاب» الطاغية ومخططهم في ثلاثة أقسام هي:
(التكذيب والإنكار) ثمّ (التآمر للقضاء على رجال الحق) و أخيراً (الدعاية المستمرة لإضلال عامّة الناس). أمّا مشركو العرب على عهد البعثة النّبوية فقد قاموا بتكرار هذه الأقسام الثلاثة حيال رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وحيال رسالته، لذلك فليس ثمّة من عجب أن يهددهم القرآن الكريم بما حلّ بأسلافهم وبمن سبقهم من الأحزاب... نفس العاقبة ونفس الجزاء!