التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحٗا طَوِيلٗا} (7)

وقوله - سبحانه - { إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } تقرير للأمر بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة والتقرب إليه - سبحانه - .

والسبح : مصدر سبح ، وأصله الذهاب فى الماء والتقلب فيه ثم استعير للتقلب والتصرف المتسع ، الذى يشبه حركة السابع فى الماء .

أى : إنا أمرناك بقيام الليل للعبادة والطاعة ، لأن لك فى النهار - أيها الرسول الكريم - تقلبا وتصرفا فى مهماتك ، واشتغالا بأعباء الرسالة يجعلك لا تستطيع التفرغ لعبادتنا ، أما فى الليل فتستطيع ذلك لأنه وقت السكون والراحة والنوم .

فالمقصود من الآية الكريمة التخفيف والتيسير عليه صلى الله عليه وسلم وبيان الحكمة من أمره بقيام الليل - إلا قليلا منه - للعبادة ، حيث لم يجمع - سبحانه - عليه الأمر بالتهجد فى الليل والنهار ، وإنما يسر عليه الأمر ، فجعله بالليل فحسب ، أما النهار فهو لمطالب الحياة : ولتبليغ رسالته - سبحانه - إلى الناس .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحٗا طَوِيلٗا} (7)

قال ابن عباس ، وعكرمة ، وعطاء بن أبي مسلم : الفراغ والنوم .

وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وابن مالك ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وسفيان الثوري : فراغًا طويلا .

وقال قتادة : فراغا وبغية ومنقلبا .

وقال السدي : { سَبْحًا طَوِيلا } تطوعا كثيرًا .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { [ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ ] سَبْحًا طَوِيلا } {[29419]} قال : لحوائجك ، فَأفْرغ لدينك الليل . قال : وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ، ثم إن الله من على العباد فخففها ووضعها ، وقرأ : { قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا } إلى آخر الآية ، ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ } حتى بلغ : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [ الليل نصفه أو ثلثه . ثم جاء أمر أوسع وأفسح وضع الفريضة عنه وعن أمته ]{[29420]} فقال : قال : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [ الإسراء : 49 ] وهذا الذي قاله كما قاله .

والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا يحيى ، حدثنا سعيد ابن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن زُرارة بن أوفى ، عن سعيد بن هشام : أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارًا له بها ويجعله في الكُرَاع والسلاح ، ثم يجاهد الروم حتى يموت . فلقي رهطًا من قومه فحدثوه أن رهطًا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أليس لكم فيّ أسوة{[29421]} ؟ "

فنهاهم عن ذلك ، فأشهدهم على رَجعتها ، ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم قال : ائت عائشة فاسألها ثم ارجع إليّ فأخبرني بردها عليك . قال : فأتيت على حكيم بن أفلحَ فاستلحقتُه إليها ، فقال : ما أنا بقاربها ؛ إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا ، فأبت فيهما إلا مُضِيًا . فأقسمتُ عليه ، فجاء معي ، فدخلنا عليها فقالت : حكيم ؟ وعرفته ، قال : نعم . قالت : من هذا معك ؟ قال : سعيد بن هشام . قالت : من هشام ؟ قال : ابن عامر . قال : فترحمت عليه وقالت : نعم المرء كان عامر . قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن خلق رسول صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى{[29422]} قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن . فَهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم . ألست تقرأ هذه السورة : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } ؟ قلت : بلى . قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة . فهممت{[29423]} أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : كنا نعد له سِواكه وطَهُوره ، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثماني ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو [ ويستغفر ثم ينهض وما يسلم . ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد ربه ويذكره ويدعو ]{[29424]} ثم يسلم تسليمًا يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم . فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني . فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم ، أوتر بسبع ، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك تسع يا بني . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها ، وكان{[29425]} إذا شَغَله عن قيام الليل نوم أو وَجَع أو مرض ، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا قام ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرًا كاملا غير رمضان .

فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها ، فقال : صدقت ، أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة .

هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه . وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، من حديث قتادة ، بنحوه . {[29426]}

طريق أخرى عن عائشة في هذا المعنى : قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا زيد بن الحُبَاب - وحدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْران قالا جميعا ، واللفظ لابن وكيع : عن موسى بن عُبَيدة ، حدثني محمد بن طَحْلاء ، عن أبي سلمة ، عن عائشة قالت : كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يُصَلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به فاجتمعوا ، فخرج كالمغضب - وكان بهم رحيما ، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل - فقال : " أيها الناس ، اكلَفُوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يَمَلّ من الثواب حتى تملوا من العمل ، وخير الأعمال ما ديمَ عليه " . ونزل القرآن : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر ، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه ، فرحمهم فردهم إلى الفريضة ، وترك قيام الليل . {[29427]}

ورواه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي ، وهو ضعيف . والحديث في الصحيح{[29428]} بدون زيادة نزول هذه السورة ، وهذا السياق قد يُوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة ، وليس كذلك ، وإنما هي مكية . وقوله في هذا السياق : إن بين نزول أولها وآخرها ثمانية أشهر - غريب ؛ فقد تقدم في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن مِسْعَر ، عن سِماك الحنفي ، سمعت ابن عباس يقول : أول ما نزل : أول المزمل ، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان ، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة .

وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن أبي أسامة ، به . {[29429]}

وقال الثوري ومحمد بن بشر العَبدي ، كلاهما عن مسعر ، عن سماك ، عن ابن عباس : كان بينهما سنة . وروى ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْرَان ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب ، عن أبي عبد الرحمن قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسُوقُهم ، حتى نزلت : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } قال : فاستراح الناس . {[29430]}

وكذا قال الحسن البصري .

وقال ابن أبي حاتم : [ حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عُبَيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ]{[29431]} عن قتادة ، عن زُرارة بن أوفى ، عن سعد بن هشام قال : فقلت - يعني لعائشة - : أخبرينا عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : ألست تقرأ : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } ؟ قلت : بلى . قالت : فإنها كانت قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى انتفخت أقدامهم ، وحُبس آخرها في السماء ستة عشر شهرًا ، ثم نزل .

وقال مَعْمَر ، عن قتادة : { قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا } قاموا حولا أو حولين ، حتى انتفخت سوقُهم وأقدامهم فأنزل الله تخفيفها بعد في آخر السورة .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُميد ، حدثنا يعقوب القمي{[29432]} عن جعفر ، عن سعيد - هو ابن جبير - قال : لما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل ، كما أمره ، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه ، فأنزل الله عليه بعد عشر سنين : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ } إلى قوله : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } فخفف الله تعالى عنهم بعد عشر سنين . {[29433]}

ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عمرو بن رافع ، عن يعقوب القمي{[29434]} به .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا [ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا } فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا ] {[29435]} فشق ذلك على المؤمنين ، ثم خفف الله عنهم ورحمهم ، فأنزل بعد هذا : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ } إلى قوله : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فوسع الله - وله الحمد - ولم يضيق .


[29419]:- (4) زيادة من أ.
[29420]:- (5) زيادة من تفسير الطبري.
[29421]:- (6) في أ: "أسوة حسنة".
[29422]:- (1) في أ: "نعم".
[29423]:- (2) في م: "ثم هممت".
[29424]:- (3) زيادة من المسند.
[29425]:- (4) في أ: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم".
[29426]:- (5) المسند (6/54)، وصحيح مسلم برقم (746).
[29427]:- (1) تفسير الطبري (29/79).
[29428]:- (2) صحيح البخاري برقم (6465)، وصحيح مسلم برقم (782).
[29429]:- (3) تفسير الطبري (29/78).
[29430]:- (4) تفسير الطبري (29/79).
[29431]:- (5) زيادة من م، أ.
[29432]:- (1) في أ: "العمى".
[29433]:- (2) تفسير الطبري (29/79) وهو مرسل.
[29434]:- (3) في أ: "العمى".
[29435]:- (4) زيادة من م، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحٗا طَوِيلٗا} (7)

قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن لك يا محمد في النهار فراغا طويلاً تتسع به ، وتتقلّب فيه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس سَبْحا طَوِيلاً فراغا طويلاً ، يعني النوم .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً قال : متاعا طويلاً .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله سَبْحا طَوِيلاً قال : فراغا طويلاً .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً قال : لحوائجك ، فافرُغ لدينك الليل ، قالوا : وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ، ثم إن الله منّ على العباد فخفّفها ووضعها ، وقرأ : قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَليلاً . . . إلى آخر الاَية ، ثم قال : إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللّيْلِ حتى بلغ قوله : فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنْهُ الليل نصفه أو ثلثه ، ثم جاء أمر أوسع وأفسح ، وضع الفريضة عنه وعن أمّته ، فقال : وَمِنَ اللّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نافِلَة لَكَ عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول في قوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً فراغا طويلاً . وكان يحيى بن يعمر يقرأ ذلك بالخاء .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، عن غالب الليثي ، عن يحيى بن يعمر «من جذيلة قيس » أنه كان يقرأ : «سَبْخا طَوِيلاً » قال : وهو النوم .

قال أبو جعفر : والتسبيخ : توسيع القطن والصوف وتنفيشه ، يقال للمرأة : سبّخي قطنك : أي نفشيه ووسعيه ومنه قول الأخطل :

فأرْسَلُوهُنّ يُذْرِينَ التّرَابَ كمَا *** يُذْرِي سَبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوْتارِ

وإنما عني بقوله : إنّ لَكَ فِي النّهارِ سَبْحا طَوِيلاً : إن لك في النهار سعة لقضاء حوائجك وقومك . والسبح والسبخ قريبا المعنى في هذا الموضع .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحٗا طَوِيلٗا} (7)

فصل هذه الجملة دون عطف على ما قبلها يقتضي أن مضمونها ليس من جنس حكم ما قبلها ، فليس المقصود تعيين صلاة النهار إذ لم تكن الصلوات الخمس قد فرضت يومئذٍ على المشهور ، ولم يفرض حينئذٍ إلاّ قيام الليل .

فالذي يبدو أن موقع هذه الجملة موقع العلة لشيء مما في جملة { إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً } [ المزمل : 6 ] وذلك دائر : بين أن يكون تعليلاً لاختيار الليل لفرض القيام عليه فِيه ، فيفيد تأكيداً للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غَناءه فيتحصل من المعنى : قم الليل لأن قيامه أشد وقعاً وأرسخ قولاً ، لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك . وشغل النبي صلى الله عليه وسلم في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقادَ المؤمنين المستضعفين ، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل ، وبيْن أن يكون تلطفاً واعتذاراً عن تكليفه بقيام الليل ، وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإِيقاع ما عسى أن يكلفه فيامُ الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه .

ويجوز أن يكون تعليلاً لما تضمنه { أو انقص منه قليلاً } [ المزمل : 3 ] ، أي إن نقصتَ من نصف الليل شيئاً لا يَفُتْكَ ثواب عمله ، فإن لك في النهار متسعاً للقيام والتلاوة مثل قوله تعالى : { وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خلفة لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شُكوراً } [ الفرقان : 62 ] .

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلّى } [ العلق : 9 ، 10 ] . وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ . ويظهر أن يكون كل هذا مقصوداً لأنه مما تسمح به دلالة كلمة { سبحاً طويلاً } وهي من بليغ الإِيجاز .

والسبح : أصله العوم ، أي السلوك بالجسم في ماء كثير ، وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياءُ السير في الأرض .

وقريب من هذه الاستعارة استعارة السبح لجري الفرس دون كلفة في وصف امرىء القيس الخيل بالسابحات في قوله في مَدح فرسه :

مُسحَ إذا ما السابحات على الوَنى *** أثْرْنَ الغُبار في الكَديد المركَّل

فعبر عن الجاريات بالسابحات .

وفسر ابن عباس السبح بالفراغ ، أي لينام في النهار ، وقال ابن وهب عن ابن زيد قال : فراغاً طويلاً لحوائجك فافرغ لدينك بالليل .

والطويل : وصف من الطول ، وهو ازدياد امتداد القامة أو الطريق أو الثوب على مقاديرِ أكثرِ أمثاله . فالطول من صفات الذوات ، وشاع وصف الزمان به يقال : ليل طويل وفي الحديث « الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه »

وأما وصف السَّبح ب ( طويل ) في هذه الآية فهو مجاز عقلي لأن الطويل هو مكان السبح وهو الماء المسبوح فيه . وبعدَ هذا ففي قوله { طويلاً } ترشيح لاستعارة السَّبح للعمل في النهار .