وبعد أن وصف القرآن هؤلاء المعاندين بالكفر وقتل الأنبياء والمصلحين وبين سوء مصيرهم ، أتبع ذلك ببيان رذيلة من أفحش رذائلهم وهى أنهم يدعون إلى التحاكم إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به ، فيمتنعون عن ذلك غرورا وعناداً ، استمع إلى القرآن وهو يصور أحوالهم السيئة فيقول : { أَلَمْ تَرَ . . . }
أورد بعض المفسرين روايات في سبب نزول هذه الآيات : منها ، ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر أن اليهود جاؤوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا . فقال لهم : " كيف تفعلون بمن زنى منكم ؟ قالوا : نفحمهما - أي نجعل على وجوههما الفحم تنكيلا بهما ، ونضربهما . فقال : ألا تجدون في التوراة الرجم ؟ فقالوا : لا نجد فيها شيئا . فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم . فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين . فوضع مدراسها - الذى يدرسها منهم - كفه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ، ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن الرجم . فقال ما هذه ؟ - أى أن عبد الله بن سلام رفع يد القارىء عن آية الرجم وقال له ما هذه - فلما رأى اليهود ذلك قالوا : هى آية الرجم ، فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد " .
وقال ابن عباس : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من يهود - أى دخل عليهم في المكان الذى يتدارسون فيه علومهم - فدعاهم إلى الله . فقال له بعضهم : على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال : إني على ملة إبراهيم ودينه . فقالوا : فإن إبراهيم كان يهوديا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهلموا إلى التوراة هى بيننا وبينكم ؛ فأبوا عليه فأنزل الله هذه الآيات " .
وذكر النقاش أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم : " هلموا إلى التوراة ففيها صفتي " فأبوا " " .
قال ابن جرير ما ملخصه : وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندى بالصواب أن يقال : إن الله - تعالى - قد أخبر عن طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم دعوا إلى التوراة للتحاكم إليها في بعض ما تنازعوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا . ويجوز أن يكون هذا التنازع فى أمر نبوته ، أو فى أمر إبراهيم ودينه ، أو فى حد من الحدود فإن كل ذلك مما نازعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكأن ابن جرير - رحمه الله - يريد أن يقول : إن الآيات الكريمة تتسع لكل ما تنازعوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دعاهم إلى أن يحكم التوراة بينه وبينهم في شأن هذا التنازع أبوا وأعرضوا وهو رأي حسن .
والاستفهام في قوله { أَلَمْ تَرَ } للتعجيب من شأنهم ومن سوء صنيعهم حيث دعوا إلى كتابهم ليحكم بينهم فامتنعوا عن ذلك لأنهم كانوا - كما يقول الألوسي - " إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة " ثم قال :
و " من " إما للتبعيض وإما للبيان ، ومعنى " نصيب " هو الكتاب أو نصيبا منه ، لأن الوصول إلى كنه كلامه - سبحانه - متعذر " فإن جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم .
وإن جعل تبعيضاً كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه ، وعلى التقديرين اللام في " الكتاب " للعهد والمراد به التوارة " .
والمعنى : قد علمت أيها العاقل حال أولئك الأحبار من اليهود الذين اعطوا قسطا من معرفة كتابهم والذين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم إلى التوراة التى هي كتابهم فيما حدث بينهم وبينه من نزاع فأبوا أن يستجيبوا لدعوته ، وأعرضوا عنها كما هو شأنهم ودأبهم في الإعراض عن الحق والصواب .
وعرف المتحدث عنهم - وهم أحبار اليهود - بطريق الموصولية ، لأن في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم ، لأن كونهم على علم من الكتاب قليل أو كثير من شأنه أن يصدهم عما أخبر به عنهم لو كانوا يعقلون .
وجملة { يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله } مستأنفة مبينة لمحل التعجب ، أو حال من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب .
والمراد بكتاب الله : التوراة ، لأن سبب النزول يؤيد ذلك ، لأن التعجيب من حالهم يكون أشد إذا كان إعراضهم إنما هو عن كتابهم . وقيل المراد به القرآن .
وقوله { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } معطوف على قوله { يُدْعَوْنَ } وجاء العطف بثم للإشعار بالفارق الشاسع بين ما قاموا به من إعراض عن الحق ، وبين كان يجب عليهم أن يفعلوه . فإن علمهم بالكتاب كان يقتضى أن يتبعوه وأن يعملوا بأحكامه ، ولكنهم أبوا ذلك لفساد نفوسهم .
وقوله { مِّنْهُمْ } جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لفريق .
وإنما قال { فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } ليخرج القلى التي أسلمت من علماء اليهود كعبد الله بن سلام ، وهذا من إنصاف القرآن في أحكامه . واحتراسه في سوق الحقائق ، فهو لا يلقى الأحكام على الجميع جزافا ، وإنما يحدد هذه الأحكام بحيث يدين المتهم ، ويبرىء ساحة البرىء .
وقوله { وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } حال من فريق ، أي ثم يتولى فريق منهم عن سماع الحق ، والانقياد لأحكامه ، وينفر منها نفورا شديداً ، والحال أنهم قوم ديدنهم الإعراض والانصراف عن الحق .
يقول تعالى منكرًا على اليهود والنصارى ، المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللَّذين بأيديهم ، وهما التوراة والإنجيل ، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما ، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، تولَّوا وهم معرضون عنهما ، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم ، والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُمْ مّعْرِضُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { ألم تَرَ } يا محمد { إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتَابِ } يقول : الذين أُعطوا حظا من الكتاب ، يدعون إلى كتاب الله .
واختلف أهل التأويل في الكتاب الذي عنى الله بقوله : { يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللّهِ } فقال بعضهم : هو التوراة دعاهم إلى الرضا بما فيها ، إذ كانت الفرق المنتحلة الكتب تُقِرّ بها وبما فيها أنها كانت أحكام الله قبل أن ينسخ منها ما نسخ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير وعكرمة ، عن ابن عباس ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أيّ دين أنت يا محمد ؟ فقال : «على مِلّة إبْراهِيم ودِينِه » ، فقالا : فإن إبراهيم كان يهوديا ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَهَلُمّوا إلى التّوْرَاةِ فَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ » . فأبَوْا عَلَيْهِ ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { ألَمْ تَرَ إلى الذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ } . . . إلى قوله : { ما كانُوا يَفْتَرُونَ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَهَلُمّا إلى التّوْرَاةِ » ، وقال أيضا : فأنزل الله فيهما : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ } وسائر الحديث مثل حديث أبي كريب .
وقال بعضهم : بل ذلك كتاب الله الذي أنزله على محمد ، وإنما دعيت طائفة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بالحقّ ، فأبت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتابَ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ } أولئك أعداء الله اليهود ، دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، وإلى نبيه ليحكم بينهم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، ثم تولوا عنه وهم معرضون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ } . . . الاَية ، قال : هم اليهود دعوا إلى كتاب الله وإلى نبيه ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم ، ثم يتولون وهم معرضون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } قال : كان أهل الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحقّ يكون وفي الحدود ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام ، فيتولون عن ذلك .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده ، ممن قد أوتي علما بالتوراة أنهم دعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرّون أنه من عند الله وهو في التوراة في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا تنازعوا فيه ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه ، فامتنعوا من الإجابة إليه ، كان أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوّته . ويجوز أن يكون ذلك كان أمر إبراهيم خليل الرحمن ودينه . ويجوز أن يكون ذلك ما دعوا إليه من أمر الإسلام ، والإقرار به . ويجوز أن يكون ذلك كان في حدّ ، فإن كل ذلك مما قد كانوا نازعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاهم فيه إلى حكم التوراة ، فأبى الإجابة فيه ، وكتمه بعضهم . ولا دلالة في الاَية على أن ذلك كان ممن أبى ، فيجوز أن يقال : هو هذا دون هذا . ولا حاجة بنا إلى معرفة ذلك ، لأن المعنى الذي دعوا إليه جملته هو مما كان فرضا عليهم الإجابة إليه في دينهم ، فامتنعوا منه . فأخبر الله جل ثناؤه عنهم بردّتهم وتكذيبهم بما في كتابهم وجحودهم ، ما قد أخذ عليهم عهودهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به ، فلن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدا وما جاء به من الحقّ مثلُهم في تكذيبهم موسى وما جاء به ، وهم يتولونه ويقرّون به .
ومعنى قوله : { ثُمّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ } ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه معرضا عنه منصرفا ، وهو بحقيقته وحجته عالم .
وإنما قلنا إن ذلك الكتاب هو التوراة ، لأنهم كانوا بالقرآن مكذّبين وبالتوراة بزعمهم مصدّقين ، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرّون أبلغ وللعذر أقطع .
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس{[3053]} على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد{[3054]} على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنا على ملة إبراهيم » فقالا : فإن إبراهيم كان يهودياً ، فقال لهما النبي عليه السلام : «فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم » فأبيا عليه فنزلت ، وذكر النقاش : أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . فقال لهم النبي عليه السلام : «هلموا إلى التوراة ففيها صفتي »{[3055]} فأبوا .
قال القاضي أبو محمد : فالكتاب في قوله : { من الكتاب }{[3056]} هو اسم الجنس ، و { الكتاب } في قوله : { إلى كتاب الله } هو التوراة ، وقال قتادة وابن جريج : { الكتاب } في قوله { إلى كتاب الله } هو القرآن ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليه فكانوا يعرضون ، ورجح الطبري القول الأول ، وقال مكي : الكتاب الأول اللوح المحفوظ والثاني التوراة ، وقرأ جمهور الناس «ليَحكم » بفتح الياء أي ليحكم الكتاب ، وقرأ الحسن وأبو جعفر وعاصم الجحدري «ليُحكم » بضم الياء وبناء الفعل للمفعول ، وخص الله تعالى بالتولي فريقاً دون الكل لأن منهم من لم يتول كابن سلام وغيره .
استئناف ابتدائي : للتعجيب من حالة اليهود في شدّة ضلالهم . فالاستفهام في قوله : { ألم تر } للتقرير والتعجيب ، وقد جاء الاستعمال في مثله أن يكون الاستفهام داخلاً على نفي الفعل والمراد حصولُ الإقرار بالفعل ليكون التقرير على نفيه محرّضاً للمخاطب على الاعتراف به بناء على أنّه لا يرضى أن يكون ممّن يجهله ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه } في سورة [ البقرة : 258 ] .
والرؤية بصرية بدليل تعديتها بحرف إلى : الذي يتعدى به فعل النظر ، وجوز صاحب الكشاف } في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة } في سورة [ النساء : 44 ] : أن تكون الرؤية قلبية ، وتكون ( إلى ) داخلة على المفعول الأول لتأكيد اتّصال العِلم بالمعلوم وانتهائه المجازي إليه ، فتكون مثل قوله : { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم } [ البقرة : 258 ] .
وعُرف المتحدّث عنهم بطريق الموصولية دون لقبهم ، أعني اليهودَ : لأنّ في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم ؛ لأنّ كونهم على علم من الكتاب قليلٍ أو كثير من شأنه أن يصدّهم عمّا أخبر به عنهم . على ما في هذه الصلة أيضاً من توهين علمهم المزعوم .
والكتاب : التوراة فالتعريف للعهد ، وهو الظاهر ، وقيل : هو للجنس .
والمراد بالذين أوتوه هم اليهود ، وقيل : أريد النصارى ، أي أهل نجران .
والنصيب : القسط والحظّ وتقدم عند قوله تعالى : { أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا } في سورة [ البقرة : 202 ] .
{ وتنكير نصيباً } للنوعية ، وليس للتعظيم ؛ لأنّ المقام مقام تهاون بهم ، ويحتمل أن يكون التنوين للتقليل .
و { من } للتبعيض ، كما هو الظاهر من لفظ النصيب ، فالمراد بالكتاب جنس الكتب ، والنصيب هو كتابُهم ، والمراد : أوتوا بعض كتابهم ، تعريضاً بأنّهم لا يعلمون من كتابهم إلاّ حظّاً يسيراً ، ويجوز كون مِن للبيان . والمعنى : أوتوا حظّاً من حظوظ الكمال ، هو الكتاب الذي أوتوه .
وجملة { يدعون إلى كتاب الله } في موضوع الحال لأنّها محل التعجيب ، وذلك باعتبار ضميمة ما عطف عليها ، وهو ، قوله : { ثم يتولى فريق منهم } لأنّ ذلك هو العجيب لا أصل دعوتهم إلى كتاب الله ، وإذا جعلت ( تَر ) قلبية فجملة يدعون في موضع المفعول الثاني وقد علمتَ بُعده .
و { كتاب الله } : القرآن كما في قوله : { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب اللَّه وراء ظهورهم } [ البقرة : 101 ] . فهو غير الكتاب المراد في قوله : { من الكتاب } كما ينبىء به تغيير الأسلوب . والمعنى : يُدعون إلى اتّباع القرآن والنظرِ في معانيه ليحكم بينهم فيأبون . ويجوز أن يكون كتاب الله عين المراد من الكتاب ، وإنّما غير اللفظ تفنّناً وتنويهاً بالمدعوّ إليه ، أي يُدعون إلى كتابهم ليتأملوا منه ، فيعلموا تبشيره برسول يأتي من بعد ، وتلميحَه إلى صفاته .
روي ، في سبب نزول هذه الآية : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مِدْراس اليهود فدعاهم إلى الإسلام ، فقال له نُعيم بن عمرو ، والحارث بن زَيد : على أيّ دين أنت قال : على ملة إبراهيم قالا : فإنّ إبراهيم كان يهودياً .
فقال لهما : إنّ بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها ، فأبيا .
وقوله : { ثم يتولى فريق منهم } ( ثم ) عاطفة جملة { يتولّى فريق منهم } على جملة { يدعون } فالمعطوفة هنا في حكم المفرد فدلت ( ثم ) على أنّ تولّيهم مستمر في أزمان كثيرة تبعد عن زمان الدعوة ، أي أنّهم لا يرعوون فهم يتولَّون ثم يتولّون ؛ لأنّ المرء قد يُعرض غضباً ، أو لِعِظَم المفاجأة بالأمر غيرِ المترقَّب ، ثم يثوب إليه رشده ، ويراجع نفسه ، فيرجع ، وقد علم أنّ تولّيهم إثر الدعوة دون تراخٍ حاصل بفحوى الخطاب .
فدخول { ثم } للدلالة على التراخي الرتبي ؛ لأنّهم قد يتولّون إثر الدعوة ، ولكن أريد التعجيب من حالهم كيف يتولّون بعد أن أوتُوا الكتاب ونقلوه ، فإذا دُعوا إلى كتابهم تولّوا . والإتيان بالمضارع في قوله : { يتولون } للدلالة على التجدّد كقول جعفر ابن عُلبة الحارثي :
ولا يكشف الغَمَّاء إلاّ ابن حرة *** يَرَى غَمَراتِ الموتِ ثُم يَزُورها
والتولّي مجاز عن النفور والإباء ، وأصله الإعراض والانصراف عن المكان .
وجملة { وهم معرضون } حال مؤكّدة لجملة { يتولّى فريق } إذ التولّي هو الإعراض ، ولما كانت حالاً لم تكن فيها دلالة على الدوام والثبات فكانت دالة على تجدّد الإعراض ، منهم المفاد أيضاً من المضارع في قوله : { ثم يتولى فريق منهم } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ألم تَرَ} يا محمد {إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتَابِ}: الذين أُعطوا حظا من الكتاب، يدعون إلى كتاب الله.
واختلف أهل التأويل في الكتاب الذي عنى الله بقوله: {يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللّهِ} فقال بعضهم: هو التوراة دعاهم إلى الرضا بما فيها، إذ كانت الفرق المنتحلة الكتب تُقِرّ بها وبما فيها أنها كانت أحكام الله قبل أن ينسخ منها ما نسخ.
وقال بعضهم: بل ذلك كتاب الله الذي أنزله على محمد، وإنما دعيت طائفة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بالحقّ، فأبت. وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده، ممن قد أوتي علما بالتوراة أنهم دعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرّون أنه من عند الله وهو في التوراة في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا تنازعوا فيه ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه، فامتنعوا من الإجابة إليه، كان أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوّته. ويجوز أن يكون ذلك كان أمر إبراهيم خليل الرحمن ودينه. ويجوز أن يكون ذلك ما دعوا إليه من أمر الإسلام، والإقرار به. ويجوز أن يكون ذلك كان في حدّ، فإن كل ذلك مما قد كانوا نازعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فيه إلى حكم التوراة، فأبى الإجابة فيه، وكتمه بعضهم. ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان ممن أبى، فيجوز أن يقال: هو هذا دون هذا. ولا حاجة بنا إلى معرفة ذلك، لأن المعنى الذي دعوا إليه جملته هو مما كان فرضا عليهم الإجابة إليه في دينهم، فامتنعوا منه. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم بردّتهم وتكذيبهم بما في كتابهم وجحودهم، ما قد أخذ عليهم عهودهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به، فلن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدا وما جاء به من الحقّ مثلُهم في تكذيبهم موسى وما جاء به، وهم يتولونه ويقرّون به.
{ثُمّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ}: ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه معرضا عنه منصرفا، وهو بحقيقته وحجته عالم.
وإنما قلنا إن ذلك الكتاب هو التوراة، لأنهم كانوا بالقرآن مكذّبين وبالتوراة بزعمهم مصدّقين، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرّون أبلغ وللعذر أقطع.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى الّذينَ أوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يَدْعُونَ إلى كِتَابِ اللهِ} الآية. رُوي عن ابن عباس أنه أراد اليهود حين دعوا إلى التوراة وهي كتاب الله وسائر الكتب التي فيها البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى الموافقة على ما في هذه الكتب من صحة نبوَّته كما قال تعالى في آية أخرى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93] فتولّى فريق من أهل الكتاب عن ذلك لعلمهم بما فيه من ذِكْرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته، ولولا أنهم علموا ذلك لما أعرضوا عند الدعاء إلى ما في كتبهم، وفريقٌ منهم آمنوا وصدّقوا لعِلْمِهِمْ بصحة نبوته ولما عرفوه من التوراة وكتب الله مِنْ نَعْتِهِ وصفته. وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لولا أنهم كانوا عالمين بما ادّعاه مما في كتبهم مِنْ نَعْتِهِ وصِفَتِهِ وصحة نبوته لما أعرضوا عن ذلك بل كانوا يسارعون إلى الموافقة على ما في كتبهم حتى يتبينوا بطلان دعواه، فلما أعرضوا ولم يجيبوا إلى ما دعاهم إليه دلّ ذلك على أنهم كانوا عالمين بما في كتبهم من ذلك...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ}: حظاً لأنهم علموا بعض ما فيه. {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} ثلاثة أقاويل: أحدها: نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أمر إبراهيم وأن دينه الإِسلام.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
امتحناك بدعوة من سبق علمنا بأنهم لا يستجيبون، فاصبر على ما أُمِرْتَ فيهم، واعلم سوء أحوالهم، فإنهم أهل التولِّي عن الإجابة، لأنهم فقدوا منا حسن التجلي بسابق الإرادة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الكتاب} يريد أحبار اليهود، وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة. و «من» إما للتبعيض وإما للبيان، أو حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح التوراة وهي نصيب عظيم {يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله} وهو التوراة {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}... {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ}: استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب. {وَهُم مُّعْرِضُونَ}: وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم. والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف والتعادي بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم: وأنهم دعوا إلى كتاب الله الذي لا اختلاف بينهم في صحته وهو التوراة ليحكم بين المحق والمبطل منهم، ثم يتولى فريق منهم وهم الذين لم يسلموا. وذلك أنّ قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يقتضي أن يكون اختلافاً واقعاً فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وهم معرضون} وفيه وجهان: الأول: المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم، كأنه قيل: ثم يتولى العلماء، والأتباع معرضون عن القبول من النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تولي علمائهم. والثاني: أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق، والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب، كأنه قيل: لا تظن أنه تولى عن هذه المسألة بل هو معرض عن الكل...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى منكرًا على اليهود والنصارى، المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللَّذين بأيديهم، وهما التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تولَّوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم، والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان من المعلوم أن ثبات الأعمال وزكاءها إنما هو باتباع أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر الذين ورثوا العلم عنه دل على ما أخبر به من الحبوط وعدم النصر بما يشاهد من أحوالهم في منابذة الدين فقال: {ألم تر} وكان الموضع لأن يقال: إليهم، ولكنه قال: {إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب} ليدل على أن ضلالهم على علم،... وقال الحرالي: كتابهم الخاص بهم نصيب من الكتاب الجامع، وما أخذوا من كتابهم نصيب من اختصاصه، فإنهم لو استوفوا حظهم منه لما عدلوا في الحكم عنه ولرضوا به، وكان في هذا التعجيب أن يكون غيرهم يرضى بحكم كتابهم ثم لا يرضون هم به... {يدعون إلى كتاب الله} أظهر الاسم الشريف ولم يقل: إلى كتابهم، احترازاً عما غيروا وبدلوا و لأنهم إنما دعوا إلى كتاب الله الذي أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام، لا إلى ما عساه أن يكون بأيديهم مما غيروا... وفيه أيضاً إشارة إلى عظيم اجترائهم بتوليهم عمن له الإحاطة الكاملة... {ليحكم بينهم} قال الحرالي: في إشعاره أن طائفة منهم على حق منه، أي وهم المذعنون لذلك الحكم الذي دعي إليه... ولما كان اتباعه واجباً واضحاً نفعه لمن جرد نفسه عن الهوى عبر عن مخالفته بأداة البعد فقال: {ثم} وقال الحرالي: في إمهاله ما يدل على تلددهم وتبلدهم في ذلك بما يوقعه الله من المقت والتحير على من دعي إلى حق فأباه، وفي صيغة يتفعل في قوله: {يتولى} ما يناسب معنى ذلك في تكلف التولي على انجذاب من بواطنهم لما عرفوه وكتموه، وصرح قوله: {فريق منهم} بما أفهمه ما تقدم من قوله: {ليحكم بينهم} فأفهم أن طائفة منهم ثابتون قائلون لحكم كتاب الله تعالى، وأنبأ قوله المشير إلى كثرة أفراد هذا الفريق {وهم معرضون *} بما سلبوه من ذلك التردد والتكلف، فصار وصفاً لهم بعد أن كان تعملاً، ما أنكر منكر حقاً وهو يعلمه إلا سلبه الله تعالى علمه حتى يصير إنكاره له بصورة وبوصف من لم يكن قط علمه... وفي هذا تحذير لهذه الأمة من الوقوع في مثل ذلك ولو بأن يدعى أحدهم من حسن إلى أحسن منه -نبه عليه الحرالي وقال: إذ ليس المقصود حكاية ما مضى فقط ولا ما هو كائن فحسب، بل خطاب القرآن قائم دائم ماض كلية خطابه في غابر اليوم المحمدي مع من يناسب أحوال من تقدم منهم، وفي حق المرء مع نفسه في أوقات مختلفة...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَلَمْ تَرَ} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه الرؤيةُ من حال أهل الكتاب وسوءِ صنيعِهم، وتقرير لما سبق من أن اختلافهم في الإسلام إنما كان بعد ما جاءهم العلم بحقّيته...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
كان سابق الكلام في تقرير التوحيد وإقامة الدلائل عليه وعلى الحشر وبيان ثواب العاملين، وقيام الحجة على المعاندين، لأن البلاغ قد أوضح المحجة للناس فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فحسابهم على الله تعالى. ثم ذكر أشد ما كان من أهل الكتاب الذين تولوا عن الدعوة من قبل إذ كانوا يقتلون الأنبياء والآمرين بالقسط وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يحزنه إعراضهم، ولذلك التفت إلى خطابه بأعجب شأنهم في الدين لذلك العهد فقال: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون}
فكتاب الله الذي يدعون إليه هو التوراة على هذا الوجه... ومعناه ألم تر يا محمد إلى هؤلاء الذين تعجب لعدم إيمانهم بك على وضوح ما جئت به كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم. ووقائع الأحوال في عصر التنزيل تتفق مع كل من القولين. فقد كانوا يتولون عن حكم التوراة إذا خالف أهواءهم كما يفعل أهل كل دين في طور انحلال الدين وضعفه وكانوا ربما تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عازمين على قبول حكمه حتى إذا كان على غير ما أحبوا خالفوه كما فعلوا يوم زنا أشرافهم وحكموه فحكم بينهم بمثل حكم كتابهم فتولوا وأعرضوا عن قبول حكمه لأنهم إنما فزعوا إليه ليخفف عنهم.
أما قوله:"أوتوا نصيبا" فقد علم ما هو تفسيره المختار عندنا فيما تقدم أول السورة من تفسير التوراة والإنجيل وقال الأستاذ الإمام في تفسير هذه الآية إنه مبين لقوله تعالى: {أوتوا الكتاب} وهو بمعنى {لا يعلمون الكتاب إلا أماني} [البقرة: 78] فالنصيب عبارة عن تمسكهم بالألفاظ بتعظيمها وتعظيم ما تكتب فيه مع عدم العناية بالمعاني بفقهها والعمل بها.
قال: ولك أن تقول: إن ما يحفظونه من الكتاب هو جزء من الكتاب الذي أوحاه الله إليهم (أو قال الكتب) وقد فقدوا سائره وهم مع ذلك لا يقيمونه بحسن الفهم له والتزام العمل به. ولا غرابة في فقد بعض الكتاب فالكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام التي يسمونها التوراة لا دليل على أنه هو الذي كتبها ولا هي محفوظة عنه بل قام الدليل عند الباحثين من الأوربيين على أنها كتبت بعده بمئات من السنين (أراه خمس مئة سنة) وكذلك يقال في سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء في المجموع الذي يسمونه (الكتاب المقدس) أقول ولا تعرف اللغة التي كتبت بها التوراة أول مرة ولا دليل على أن موسى عليه السلام كان يعرف اللغة العبرانية وإنما كانت لغته مصرية فأين هي التوراة التي كتبها بتلك اللغة ومن ترجمها عنها؟
{ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} فللتراخي فيه وجهان أحدهما: استبعاد توليهم لأنه خلاف الأصل الذي يكون عليه المؤمن. ثانيها: أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب يتولى ذلك الفريق بعد تردد وترو في القبول وعدمه وكان من مقتضى الإيمان أن لا يتردد المؤمن في إجابة الدعوة إلى حكم كتابه الذي هو أصل دينه. أورده الأستاذ الإمام وقال: على أنهم لم يكتفوا بالتردد حتى تولوا بالفعل ولم يكن التولي عرضا حدث لهم بعد أن كانوا مقبلين على الكتاب خاضعين لحكمه في كل حال وآن، بل هو وصف لهم لازم بل اللازم لهم ما هو شر منه وهو الإعراض عن كتاب الله في عامة أحوالهم: فجملة: "وهم معرضون "ليست للتولي كما قيل بل هي مؤسسة لوصف الإعراض الذي هو أبلغ منه. وإنما قال "فريق منهم" لأن هذا الوصف ليس عاما لكل فرد منهم بل كان منهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. ومنهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أقول: وهذا مما عهدنا في أسلوب القرآن من تحديد الحقائق والاحتراس في الحكم على الأمم فتارة يحكم على فريق منهم في مقام بيان شؤونهم وتارة يحكم على أكثرهم وإذا أطلق الحكم في بعض الآيات يتبعه بالاستثناء استثناء الأقل كقوله {تولوا إلا قليلا منهم} [البقرة: 246].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه سؤال التعجيب والتشهير من هذا الموقف المتناقض الغريب. موقف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب. وهو التوراة لليهود ومعها الإنجيل للنصارى. وكل منهما (نصيب) من الكتاب باعتبار أن كتاب الله هو كل ما أنزل على رسله، وقرر فيه وحدة ألوهيته ووحدة قوامته. فهو كتاب واحد في حقيقته، أوتي اليهود نصيبا منه، وأوتي النصارى نصيبا منه، وأوتي المسلمون الكتاب كله باعتبار القرآن جامعا لأصول الدين كله، ومصدقا لما بين يديه من الكتاب...
ثم هم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم في خلافاتهم، وليحكم بينهم في شؤون حياتهم ومعاشهم، فلا يستجيبون جميعا لهذه الدعوة، إنما يتخلف فريق منهم ويعرض عن تحكيم كتاب الله وشريعته. الأمر الذي يتناقض مع الإيمان بأي نصيب من كتاب الله؛ والذي لا يستقيم مع دعوى أنهم أهل كتاب... هكذا يعجب الله من أهل الكتاب حين يعرض بعضهم -لا كلهم- عن الاحتكام إلى كتاب الله في أمور الاعتقاد وأمور الحياة. فكيف بمن يقولون: إنهم مسلمون، ثم يخرجون شريعة الله من حياتهم كلها. ثم يظلون يزعمون أنهم مسلمون! إنه مثل يضربه الله للمسلمين أيضا كي يعلموا حقيقة الدين وطبيعة الإسلام؛ ويحذروا أن يكونوا موضعا لتعجيب الله وتشهيره بهم. فإذا كان هذا هو استنكار موقف أهل الكتاب الذين لم يدّعوا الإسلام، حين يعرض فريق منهم عن التحاكم إلى كتاب الله، فكيف يكون الاستنكار إذا كان "المسلمون "هم الذين يعرضون هذا الاعراض.. إنه العجب الذي لا ينقضي، والبلاء الذي لا يقدر، والغضب الذي ينتهي إلى الشقوة والطرد من رحمة الله! والعياذ بالله!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{أوتوا نصيبا من الكتاب}: يشير إلى أمرين: أولهما:أنهم يتعلقون باسم الكتاب ولكن لا يأخذون به؛ فالنصيب المراد به الجزء المعنوي من الكتاب، وهو أنهم تلقوا كتاب التوراة وأخذوا منه ترديده وذكره، ولم يأخذوا منه الهداية والإيمان. وثانيهما:أنهم حرفوا هذا الكتاب وغيروه،فما عندهم هو نصيب من الكتاب أي جزء منه،وليس كل الكتاب...
{ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون}: أصل تولي الأمر أو الشخص الإقبال عليه،والانصراف إليه... والمعنى في هذه الآية هو من هذا القبيل،أي أنه بعد الدعوة إلى تحكيم كتاب الله تعالى ينصرفون عن الحق، ويولونه أدبارهم،بدل أن يولوه قلوبهم. وعبر هنا ب"ثم" التي تفيد التراخي للإشارة إلى تباين حالهم مع ما كان ينبغي منهم؛ وذلك لأنهم ليسوا أميين أو جاهلين فيعذروا،بل هم قوم أهل علم ودين، ونزلت بين أيديهم كتب السماء، فهم كانوا جديرين بأن يرضوا بحكم الكتب المقدسة، ولكنهم بدل أن يخضعوا ويذعنوا أعرضوا، واستمروا في غيهم يعمهون،فكان هذا التفاوت بين ما كان ينبغي، وما هو كائن سببا في التعبير ب"ثم" المفيدة للتراخي بين المعطوف والمعطوف عليه، والتباعد بينهما زمانا أو معنى. وقوله تعالى: {وهم معرضون} قال بعض المفسرين:إنه تأكيد لمعنى التولي،والحق أنها أفادت معنى جديدا، إذ أفادت أمرين: أولهما: أن حال هؤلاء الناس حال إعراض دائم عن الحق، فليس توليتهم إذ دعوتهم على أن يحكم كتاب الله بينهم أمر عارض لحال وقتية اقتضته، بل الإعراض صفة مستمرة لفريق منهم لا تنفصل دائما عن تفكيرهم. الأمر الثاني: أن تلك الحال المستمرة الدائمة من الإعراض هي سبب توليهم عن الحق عندما يدعون على كتاب الله تعالى ليحكم بينهم...
نعرف أننا ساعة نسمع قول الحق: {أَلَمْ تَرَ}؛ فهنا همزة استفهام، وهنا أداة نفي هي "لم"، وهنا "تر "ومعناها أن يستخدم الإنسان آلة الإبصار وهي العين. فإذا ما قال الله لرسوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ}... إن هذه دعوة لأمر واضح...
إذن فساعة تسمع {أَلَمْ تَرَ} إن كان حدثها من المعاصر، فمن الممكن أن تكون رؤية، والرؤية تؤدي إلى علم يقين، لأنها رؤية لمشهود، وإن جاءت {أَلَمْ تَرَ} في أمر قد حدث من قبل، أو أمر لما يحدث بعد فهي تعني" ألم تعلم"؛ لأن الرؤية سيدة الأدلة، فكأن الله سبحانه وتعالى ساعة يقول لرسوله في حدث لم يشهده الرسول: ألم تر؟ فهذا معناه: ألم تعلم؟... فكأن الله يريد أن يخبرنا ب {أَلَمْ تَرَ} أن نأخذ المعلومة من الله على أنها مرئية، وليكن ربك أوثق عندك من عينك، إنك قد لا ترى بالفعل هذا الأمر الذي يخبرك به الله، ولكن لأن القائل هو الله، ولا توجد قدرة تُخرج ما يقوله الله على غير ما يقوله الله...
" وأوتوا "تلفتنا إلى قوم قد نزل إليهم منهج من أعلى. ولذلك يأتي في القرآن ذكر المنهج ب" نزل "و" أنزل"، وذلك حتى نشعر بعلو المكانة التي نزل منها المنهج. وما هو النصيب؟ إننا نسمي النصيب "الحظ"، أو خارج القسمة،... {الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ} إنها لفتة جميلة، فالكتاب كله لم يبق لهم، إنما الذي وصل وانتهى إليهم جزء بسيط من الكتاب، فكأن هذه الكلمة تنبه الرسول والسامعين له أن يعذروا هؤلاء القوم حيث لم يصلهم من الكتاب إلا جزء يسير منه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذا نموذج من النماذج السلبية للتصرفات المنحرفة المتحدية التي يمارسها أهل الكتاب ضد الدعوات الإسلامية للموقف الواحد أمام القضايا المشتركة. فإذا كان هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب في معلوماتهم عنه، يؤمنون به، فإن هذا الإيمان يفرض عليهم الالتزام بأحكامه، باعتباره المرجع الأول والأخير لهم، ولكنهم لا يلتزمون ولا يتعاطفون مع الدعوة المخلصة إلى أن يكون هو الأساس في الحكم بينهم عندما يكون هناك خلاف ونزاع يبحث عن أساسٍ للحل، فيعرضون عنه عصياناً وتمرّداً، ما يوحي بأن ارتباطهم به يمثل العصبية ولا يمثل الإخلاص للعقيدة، وبأنهم يستريحون إلى فكرة خاطئة، وهي أن النار لا تمس اليهودي إلا أياماً معدودات، فليس هناك زمن طويل للعذاب فضلاً عن الخلود فيه، فلا مشكلة صعبة من هذه الجهة، ولا موجب للانضباط في خط الطاعة في الدنيا على أساس التخلص من العذاب في الآخرة...
دروس من وحي الآيات: ماذا نستوحي من ذلك كله فيما نواجه من واقع الحياة في حركة الدعوة إلى الله؟ 1 إن هناك نماذج متعددة من الفئات التي تمارس الأعمال التي كان يمارسها اليهود، ومنهم اليهود الذين اغتصبوا أرض المسلمين وشردوا أهلها وعاثوا في الأرض فساداً وما زالوا يقتلون الذي يأمر بالعدل وينهى عن الظلم… ومنهم الحاكمون الذين ينتسبون إلى الإسلام بالاسم ولكنهم يحملون مبادئ وشعارات غير إسلامية، فيحكمون الناس بغير ما أنزله الله طغياناً وظلماً، ويقتلون الدعاة إلى الله من دون أيّ أساس للعدل، وإذا قيل لهم اتقوا الله أخذتهم العزة بالإثم. ومنهم الفئات التي تملك بعض وسائل القوة التي تمكّنها من فرض السيطرة على منطقة معينة، وتتحرك من موقع شعارات كافرة لا تتصل بالإسلام من قريب أو من بعيد، فتحاول أن تعتدي على العاملين للإسلام... وهكذا ينبغي للمؤمن أن يتلمّس في النماذج الواقعية الموجودة على الساحة السياسية والاجتماعية والدينية، الأفق الواسع للآية في حركة الحياة، فلا تبقى مجرد حدث يعيش في التاريخ، بل تكون، كما هو القرآن في آياته، حدثاً متجدداً يمتد مع الحياة في المستقبل كما عاش في الماضي. وبذلك يظل الوحي مشيراً بيده إلى الإنسان في عملية تجدد وانطلاق، ويبقى لنا أن نحتفظ بمشاعرنا المضادة لهؤلاء الذين يصنعون مأساة الناس الذين يأمرون بالقسط في الحاضر والمستقبل، لنستطيع من خلال ذلك أن نمنع وقوع المأساة بالمزيد من الضغوط التي نملك إمكاناتها العاطفية والواقعية.
أن موقف هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، في امتناعهم عن الخضوع لحكم الكتاب، يشبه كثيراً موقف بعض المسلمين في رفضهم للتحاكم على أساس حكم القرآن، لأنه لا يتفق مع مصالحهم الخاصة، ويتعلّلون لذلك بالمزيد من الأسباب الواهية التي لا تثبت أمام النقد. وقد نجد بعض النماذج التي ترفض الخط الذي يعمل من أجل الدعوة إلى أن تحكم الحياة شريعة الله، فيثيرون أمامه المشاكل والعقبات التي تعطل فاعليته وتشل حركته، لأن ذلك قد يحرمهم بعض الامتيازات، أو يدفعهم لبعض التضحيات، أو يسبّب لهم بعض المتاعب الذاتية. وقد يفكر مثل هؤلاء بأن المسلمين لا يخلدون في النار من جهة بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال، وبذلك يعطون لأنفسهم الحرية في ممارسة المعاصي التي سوف لا تكلفهم خسارة الجنة في نهاية المطاف. إن الله يتحدث مع هؤلاء المسلمين، كما تحدث مع اليهود، لأن منطقهم واحد، والردّ عليه هو نفسه؛ والله العالم...