اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ ٱللَّهِ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ} (23)

لمَّا نَبَّهَ على عِنادِهم بقوله : { فَإنْ حَآجُّوكَ } [ آل عمران : 20 ] بَيَّنَ في هذه الآيةِ غايةَ عِنادِهم ، واعلم أن ظاهر الآية يتناول الكُلَّ ؛ لأنه ذكره في معرض الذم ، إلا أنه قد دَلَّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك ، لقوله تعالى : { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران : 113 ] والمراد بالكتاب غير القرآن ؛ لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار ، وهم اليهود والنصارى .

فصل

في سبب النزول وجوه :

أحدها : رَوَى ابنُ عباس : " أنَّ رجلاً وامرأةً - من اليهود - زَنَيَا وكانا ذَوَي شَرَفٍ ، وكان في كتابهم الرَّجْمُ ، فكرهوا رَجْمَهُمَا ؛ لشرفهما ، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ رجَاءَ أن يكون عنده رخصةٌ في تَرْك الرجم ، فحكم الرسولُ - عليه السلام - بالرجم ، فأنكروا ذلك ، فقال - عليه السلام - بيني وبينكم التوراةُ ؛ فإن فيها الرَّجمَ ، فمَنْ أعْلَمُكم ؟ قالوا : رجل أعور يسكن فَدك ، يقال له : ابن صوريا ، فأرسلوا إليه ، فقدِمَ المدينةَ ، وكان جبريلُ قد وصفه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : أنت ابن صُوريا ؟ قال : نَعَمْ ، قال : أنت أعلمُ اليهودِ ؟ قال : كذلك يَزْعُمُونَ ، قال : فأحْضِروا التوراةَ ، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها ، فقال ابنُ سَلاَم : قد جاوَزَ موضِعَها يا رسول الله ، وقام فرفع كَفَّه عنها فوجدوا آيةَ الرجم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما فرُجِمَا ، فغضبت اليهودُ لذلك غَضَباً شديداً " ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

وثانيها : روى سعيدُ بنُ جُبَيْر وعكرمةُ - عن ابنِ عباس - قال : " دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيت المِدْرَاس{[5292]} على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى الله - عز وجل - فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن يزيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال : على ملة إبراهيم ، قالا : إن إبراهيمَ كان يهوديًّا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلموا إلى التوراة ؛ فهي بيننا وبينكم حَكَم فأتيَا عليه " ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . {[5293]}

وثالثها : أن علامة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورةٌ في التوراةِ ، والدلائل على صحة نبوته موجودة فيها فلما جادلوه في النبوة والبعثة دعاهم إلى التحاكم إلى كتابهم ، فأبَوْا ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيةَ ، ولذلك قال : { فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 93 ] وهذه الآية تدل على أن دلائلَ صحةِ نبوتهِ موجودةٌ في التوراة ؛ إذْ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إليه ، ولَمَا ستروا ذلك .

رابعها : أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى ؛ فإن دلائل صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل .

وقوله : { نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ } أي : من علم الكتاب ؛ لأنا لو أجريناه على ظاهره ، فهم قد أوتوا كل الكتاب ، والمراد بذلك العلماء منهم ، وهم الذين يُدْعَوْن إلى الكتاب ؛ لأن مَنْ لا علمَ له بذلك لا يدعى إليه .

قوله : " يُدْعَوْنَ " في محل نَصْب على الحال من { الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابِ } .

قوله : " إلَى كِتَابِ اللهِ " قال أكثرُ المفسرين : هو التوراة ؛ لوجوهٍ :

أحدها : ما ذكرنا في سبب النزول .

ثانيها : أن الآيةَ سِيقت للتعجُّب من تمرُّدِهم وإعْرَاضِهم ، والتعجُّب إنما يحصل إذا تَمَرَّدُوا على حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته .

ثالثها : أن هذا هو المناسب لما قبل الآية ؛ لأنه لما بَيَّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبَّره على معاندتهم - مع ظهور الحُجَّة عليهم - بيَّن أنهم استعملوا طريقَ المكابرةِ في نفس كتابِهم الذي أقروا بصحته ، فستروا ما فيه من الدلائلِ الدالةِ على صحةِ نبوةِ محمدٍ - عليه السلام - فهذا يدل على أنهم في غاية التعصُّب والبُعْدِ عن قبول الحق .

قال ابنُ عباس والحسنُ وقتادةُ : هو القرآن .

روى الضّحاكُ عن ابن عباس - في هذه الآية - أن الله - تعالى - جعل القرآن حَكَماً فيما بينهم وبَيْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهُدَى ، فأعرضوا عنه ، وقال تعالى : { هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ } [ الجاثية : 29 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ النور : 48 ] .

إن قيل : كيف دُعُوا إلى حُكْم كتاب لا يؤمنون به ؟

فالجواب : أنه مدعو إليه بَعْدَ قِيَام الحُجَج الدالَّةِ على أنه كتابٌ من عند الله .

قوله : " ليحكم " متعلق ب " يدعون " . وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور .

وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري{[5294]} " لِيُحْكَمَ " - مبنيًّا للمفعول - والقائم مقام الفاعل هو الظرف ، أي : ليقع الحكمُ بينهم .

قال الزمخشريُّ : قوله : { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم ، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قوله : { ثُمَّ يَتَوَلَّى } عطف على " يُدْعَوْنَ " و " مِنْهُمُ " صفة ل " فَرِيقٌ " ، وقوله : { وَهُم مُّعْرِضُونَ } يجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في " مِنْهُمْ " ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون حالاً من " فَرِيقٌ " ، وجاز ذلك - وإن كان نكرةً - لتخصيصه بالوصف قبله ، وإن كان حالاً فيجوز أن تكون مؤكِّدةً ؛ لأن التولِّي والإعراضَ بمعنًى ، ويجوز أن تكون مبينة ؛ لاختلاف مُتَعلَّقِهما قالوا : لأن التوَّليَ عن الداعي ، والإعراض عما دعا إليه .

قال ابنُ الخطيبِ : " فكأن المتولِّيَ والمعرضَ هو ذلك الفريق ، والمعنى أنه مُتَوَلٍّ عن استماع الحُجَّة في ذلك المقام ، ومُعْرِضٌ عن استماع سائر الحُجَج " .

ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، لا محل لها ، أخبر عنهم بذلك ، فيكون المتولِّي هم الرؤساء والعلماء ، والأتباع مُعرضون عن القبول ؛ لأجل تَوَلِّي علمائِهم .


[5292]:انظر تفسير البغوي (1/332) وتفسير الرازي (7/188).
[5293]:انظر تفسير الرازي (7/188) وأخرجه الطبري في "تفسيره" (6/288- 289).
[5294]:انظر: المحرر الوجيز 1/416، والبحر المحيط 2/434، والدر المصون 2/52، والقرطبي 4/33.