البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ ٱللَّهِ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ} (23)

{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } قال السدّي : « دعا النبي صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ، فقال له النعمان بن أبي أوفى : هلم نخاصمك إلى الأحبار .

فقال : » بل إلى كتاب الله « .

فقال : بل إلى الأحبار .

فنزلت » .

وقال ابن عباس : « دخل صلى الله عليه وسلم إلى المدارس على اليهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال نعيم بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال : » على ملة إبراهيم « .

قالا : إن إبراهيم كان يهودياً .

فقال صلى الله عليه وسلم : » فهلموا إلى التوراة « .

فأبيا عليه ، فنزلت .

» وقالَ الكلبي : زنى رجل منهم بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم ، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخفيفاً للزانيين لشرفهما ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنما أحكم بكتابكم » فأنكروا الرجم ، فجيء بالتوراة ، فوضع حبرهم ، ابن صوريا ، يده على آية الرجم ، فقال عبد الله بن سلام : جاوزها يا رسول الله ، فأظهرها فرُجما .

وقال النقاش : « نزلت في جماعة من اليهود أنكروا نبوّته ، فقال لهم : » هلموا إلى التوراة ففيها صفتي « وقال مقاتل : دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام ، فقالوا : نحن أحق بالهدى منك ، وما أرسل الله نبياً إلا من بين إسرائيل ، قال :

« فأخرجوا التوراة فإني مكتوب فيها أني نبي » فأبوا ، فنزلت { والذين أوتوا نصيباً من الكتاب } هم : اليهود ، والكتاب : التوراة .

وقال مكي وغيره : اللوح المحفوظ ، وقيل : { من الكتاب } جنس للكتب المنزلة ، قاله ابن عطية ، وبدأ به الزمخشري و : من ، تبعيض .

وفي قوله : نصيباً ، أي : طرفاً ، وظاهر بعض الكتاب ، وفي ذلك إذ هم لم يحفظوه ولم يعلموا جميع ما فيه .

{ يدعون إلى كتاب الله } هو : التوراة ، وقال الحسن ، وقتادة ، وابن جريح : القرآن .

و : يدعون ، في موضع الحال من الذين ، والعامل : تر ، والمعنى : ألا تعجب من هؤلاء مدعوين إلى كتاب الله ؟ أي : في حال أن يدعوا إلى كتاب الله { ليحكم بينهم } أي : ليحكم الكتاب .

وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وعاصم الجحدري : ليُحكم ، مبيناً للمفعول والمحكوم فيه هو ما ذكر في سبب النزول .

{ ثم يتولى فريق منهم } هذا استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب ، ونسب التولي إلى فريق منهم لا إلى جميع المبعدين ، لأن منهم من أسلم ولم يتول كابن سلام وغيره .

{ وهم معرضون } جملة حالية مؤكدة لأن التولي هو الإعراض ، أو مبينة لكون التولي عن الداعي ، والإعراض عما دعا إليه ، فيكون المتعلق مختلفاً ، أو لكون التولي بالبدن والإعراض بالقلب ، أو لكون التولي من علمائهم والإعراض من أتباعهم ، قاله ابن الأنباري .

أو جملة مستأنفة أخبر عنهم قوم لا يزال الإعراض عن الحق وأتباعه من شأنهم وعادتهم ، وفي قوله : { بينهم } دليل على أن المتنازع فيه كان بينهم واقعاً لا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو خلاف ما ذكر في أسباب النزول ، فإن صح سبب منها كان المعنى : ليحكم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يصح حمل على الاختلاف الواقع بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم ، فدعوا إلى التوراة التي لا اختلاف في صحتها عندكم ، ليحكم بين المحق والمبطل ، فتولى من لم يسلم .

قيل وفي هذه الآية دليل على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم ولولا علمهم بما ادّعاه في كتبهم من نعته وصحة نبوته ، لما أعرضوا وتسارعوا إلى موافقة ما في كتبهم ، حتى ينبئوا عن بطلان دعواه .

وفيها دليل على أن من دعاه خصمه إلى الحكم الحق لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله ، ويعضده : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون }

قال القرطبي : وإذا دعي إلى كتاب الله وخالف تعين زجره بالأدب على قدر المخالِف ، والمخالَف .

وهذا الحكم جارٍ عندنا بالأندلس وبلاد المغرب ، وليس بالديار المصرية .

قال ابن خويزمنداد المالكي : واجب على من دعي إلى مجلس الحكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق .

/خ27