مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ ٱللَّهِ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ} (23)

{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ، ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ، فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } .

اعلم أنه تعالى لما نبه على عناد القوم بقوله { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله } [ آل عمران : 20 ] بين في هذه الآية غاية عنادهم ، وهو أنهم يدعون إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به ، وهو التوراة ثم إنهم يتمردون ، ويتولون ، وذلك يدل على غاية عنادهم ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : ظاهر قوله { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } يتناول كلهم ، ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم ، إلا أنه قد دل دليل آخر ، على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول { من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون ءايات الله ءاناء الليل وهم يسجدون } [ آل عمران : 113 ] .

المسألة الثانية : قوله تعالى : { أوتوا نصيبا من الكتاب } المراد به غير القرآن لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار ، وهم اليهود والنصارى ، وإذا كان كذلك وجب حمله على الكتاب الذي كانوا مقرين بأنه حق ، ومن عند الله .

المسألة الثالثة : ذكروا في سبب النزول وجوها أحدها : روي عن ابن عباس أن رجلا وامرأة من اليهود زنيا ، وكانا ذوي شرف ، وكان في كتابهم الرجم ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : « بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم ؟ » قالوا : عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة ، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها ، فقال ابن سلام : قد جاوز موضعها يا رسول الله فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما فرجما ، فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضبا شديدا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

والرواية الثانية : أنه صلى الله عليه وسلم دخل مدرسة اليهود ، وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا : على أي دين أنت ؟ فقال : على ملة إبراهيم ، فقالوا : إن إبراهيم كان يهوديا فقال صلى الله عليه وسلم : « هلموا إلى التوراة ، » فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية .

والرواية الثالثة : أن علامات بعثة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورة في التوراة ، والدلائل الدالة على صحة نبوته موجودة فيها ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوراة ، وإلى تلك الآيات الدالة على نبوته فأبوا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم ، فلا تعجب من مخالفتهم كتابك فلذلك قال الله تعالى : { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } [ آل عمران : 93 ] وهذه الآية على هذه الرواية دلت على أنه وجد في التوراة دلائل صحة نبوته ، إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إلى بيان ما فيها ولكنهم أسروا ذلك .

والرواية الرابعة : أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى ، وذلك لأن دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل ، وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون .

أما قوله { نصيبا من الكتاب } فالمراد منه نصيبا من علم الكتاب ، لأنا لو أجريناه على ظاهره فهم أنهم قد أوتوا كل الكتاب والمراد بذلك العلماء منهم وهم الذين يدعون إلى الكتاب ، لأن من لا علم له بذلك لا يدعي إليه .

أما قوله تعالى : { يدعون إلى كتاب الله } ففيه قولان :

القول الأول : وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما والحسن أنه القرآن .

فإن قيل : كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به ؟ .

قلنا : إنهم إنما دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالة على أنه كتاب من عند الله .

والقول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين : إنه التوراة واحتج القائلون به بوجوه الأول : أن الروايات المذكورة في سبب النزول دالة على أن القوم كانوا يدعون إلى التوراة فكانوا يأبون والثاني : أنه تعالى عجب رسوله صلى الله عليه وسلم من تمردهم وإعراضهم ، والتعجب إنما يحصل إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون في صحته ، ويقرون بحقيته الثالث : أن هذا هو المناسب لما قبل الآية ، وذلك لأنه تعالى لما بين أنه ليس عليه إلا البلاغ ، وصبره على ما قالوه في تكذيبه مع ظهور الحجة بين أنهم إنما استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته فستروا ما فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهذا يدل على أنهم في غاية التعصب والبعد عن قبول الحق .

وأما قوله { ليحكم بينهم } فالمعنى : ليحكم الكتاب بينهم ، وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور ، وقرئ { ليحكم } على البناء للمفعول ، قال صاحب «الكشاف » : وقوله { ليحكم بينهم } يقتضي أن يكون الاختلاف واقعا فيما بينهم ، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بين الله أنهم عند الدعاء يتولى فريق منهم وهم الرؤساء الذين يزعمون أنهم هم العلماء .

ثم قال : { وهم معرضون } وفيه وجهان :

الأول : المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم ، كأنه قيل : ثم يتولى العلماء والأتباع معرضون عن القبول من النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تولي علمائهم .

والثاني : أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق ، والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب ، كأنه قيل : لا تظن أنه تولى عن هذه المسألة بل هو معرض عن الكل .