ثم صور - سبحانه - أحوال هؤلاء الكافرين ساعة انتزاع أرواحهم من أجسادهم وساعة وقوفهم للحساب ، فقال - تعالى - ، { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السلم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء . . . . . . } .
قال الآلوسى : " وفى الموصول أوجه الإِعراب الثلاثة : الجر على أنه صفة للكافرين ، أو بدل منه ، أو بيان له ، والنصب والرفع على القطع للذم . وجوز بعضهم كونه مرتفعا بالابتداء ، وجملة { فألقوا } خبره . . " .
والمراد بالملائكة : عزرائيل ومن معه من الملائكة .
والمراد بظلمهم لأنفسهم : إشراكهم مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة .
أى : إن أشد أنواع الخزى والعذاب يوم القيامة على الكافرين ، الذين تنتزع الملائكة أرواحهم من أجسادهم وهم ما زالوا باقين على الكفر والشرك دون أن يتوبوا منهما ، أو يقلعوا عنهما . وقوله : { ظالمى أنفسهم } حال من مفعول تتوفاهم .
وفى وصف هؤلاء الكافرين بكونهم { ظالمى أنفسهم } إشعار إلى أن الملائكة تنتزع أرواحهم من جنوبهم بغلظة وقسوة ، ويشهد لذلك قوله - تعالى - : { وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ . . . } وقوله { فألقوا السلم } بيان لما صار إليه هؤلاء المستكبرون من ذل وخضوع فى الآخرة ، بعد أن كانوا مغترين متجبرين فى الدنيا .
وأصل الإِلقاء يكون فى الأجسام والمحسات فاستعير هنا لإِظهار كمال الخضوع والطاعة ، حيث شبهوا بمن ألقى سلاحه أمام الأقوى منه ، بدون أية مقاومة أو حركة .
والمراد بالسلم : الاستسلام والاستكانة . أى : أنهم عندما عاينوا الموت ، وتجلت لهم الحقائق يوم القيامة ، خضعوا واستكانوا واستسلموا وانقادوا ، وقالوا : ما كنا فى الدنيا نعمل عملا سيئا ، توهما منهم أن هذا القول ينفعهم .
وقد حكى الله - تعالى - عنهم فى آيات أخرى ما يشبه هذا القول ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمي أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم : { فَأَلْقَوُا السَّلَمَ } أي : أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ } كما يقولون يوم المعاد : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [ المجادلة : 18 ] .
قال الله مكذبا لهم في قيلهم ذلك : { بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ }{[16402]} أي : بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان ، لمن كان متكبرًا عن آيات الله واتباع رسله .
وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم ، ويأتي{[16403]} أجسادهم في قبورها من حرِّها وسمومها ، فإذا كان يوم القيامة سلكت{[16404]} أرواحهم في أجسادهم ، وخلدت في نار جهنم ، { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] ، كما قال الله تعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ بَلَىَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قال الذين أوتوا العلم : إن الخزي اليوم والسوء على من كفر بالله فجحد وحدانيته ، الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ يقول : الذين تقبض أرواحهم الملائكة ، ظالِمِي أنْفُسِهمْ يعني : وهم على كفرهم وشركهم بالله . وقيل : إنه عنى بذلك من قتل من قريش ببدر وقد أخرج إليها كرها .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، قال : ثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة ، قال : كان ناس بمكة أقرّوا بالإسلام ولم يهاجروا ، فأخرج بهم كرها إلى بدر ، فقتل بعضهم ، فأنزل الله فيهم : الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهمْ .
وقوله : فَألْقُوا السّلَمَ يقول : فاستسلموا لأمره ، وانقادوا له حين عاينوا الموت قد نزل بهم . ما كُنّا نَعْمَلُ منْ سُوءٍ وفي الكلام محذوف استعني بفهم سامعيه ما دلّ عليه الكلام عن ذكره ، وهو : قالوا ما كنا نعمل من سوء . يخبر عنهم بذلك أنهم كذّبوا وقالوا : ما كنا نعصِي الله اعتصاما منهم بالباطل رجاء أن ينجوا بذلك ، ، فكذّبهم الله فقال : بل كنتم تعملون السوء وتصدّون عن سبيل الله . إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول : إن الله ذو علم بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصيه وتأتون فيها ما يسخطه .
{ الذين } نعت للكافرين في قول أكثر المتأولين ، ويحتمل أن يكون { الذين } مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله ، وخبره في قوله { فألقوا السلم } فزيدت الفاء في الخبر ، وقد يجيء مثل هذا ، و { الملائكة } يريد القابضين لأرواحهم ، وقوله { ظالمي أنفسهم } حال ، و { السلم } هنا الاستسلام ، أي رموا بأيديهم وقالوا { ما كنا نعمل من سوء } فحذف قالوا لدلالة الظاهر عليه ، قال الحسن : هي مواطن بمرة يقرون على أنفسهم كما قال { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين }{[7284]} [ الأنعام : 13 ] ومرة يجحدون كهذه الآية ، ويحتمل قولهم : { ما كنا نعمل من سوء } وجهين ، أحدهما أنهم كذبوا وقصدوا الكذب اعتصاماً منهم به ، على نحو قولهم { والله ربنا ما كنا مشركين }{[7285]} [ الأنعام : 2 ] ، والآخر أنهم أخبروا عن أنفسهم بذلك على ظنهم أنهم لم يكونوا يعملون سوءاً ، فأخبروا عن ظنهم بأنفسهم ، وهو كذب في نفسه . و { عليم بما كنتم تعملون } وعيد وتهديد ، وظاهر الآية أنها عامة في جميع الكفار ، وإلقاؤهم السلم ضد مشافهتهم قبل ، وقال عكرمة : نزلت في قوم من أهل مكة آمنوا بقلوبهم ولم يهاجروا فأخرجهم كفار مكة مكرهين إلى بدر ، فقتلوا هنالك فنزلت فيهم هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وإنما اشتبهت عليه بالآية الأخرى التي نزلت في أولئك باتفاق من العلماء ، وعلى هذا القول يحسن قطع { الذين } ورفعه بالابتداء فتأمله والقانون أن { بلى } تجيء بعد النفي ونعم تجيء بعد الإيجاب ، وقد تجيء بعد التقرير ، كقوله أليس كذا ونحوه ، ولا تجيء بعد نفي سوى التقرير ، وقرأ الجمهور «تتوفاهم » بالتاء فوق ، وقرأ حمزة «يتوفاهم » بالياء وهي قراءة الأعمش ، قال أبو زيد : أدغم أبو عمرو بن العلاء السلم «ما » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.