ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بما كان عليه المشركون من نقض العهود ، ومن مكر سئ حاق بهم ، ودعاهم - سبحانه - إلى الاعتبار بمن سبقهم ، وبين لهم جانباً من مظاهر فضله عليهم . ورأفته بهم فقال - تعالى - : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ . . كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم } هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم حين بلغهم أن أهل الكتاب ، كذبوا رسلهم ، فلعنوا من كذب نبيه منهم . .
و { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أى : أقوى أيمانهم وأغلظها والجهد : الطاقة والوسع والمشقة .
يقال : جهد نفسه يجهدها فى الأمر ، إذا بلغ بها أقصى وسعها وطاقتها فيه .
والمراد : أنهم أكدوا الأيمان ووثقوها ، بكل ألفاظ التوكيد والتوثيق .
أى : أن كفار مكة ، أقسموا بالله - تعالى - قسماً مؤكداً موثقاً مغلظاً ، { لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } أى : نبى ينذرهم بأن الكفر باطل وأن الإِيمان بالله هو الحق .
{ لَّيَكُونُنَّ أهدى } سبيلا { مِنْ إِحْدَى الأمم } أى : ليكونن أهدى من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم فى اتباعهم وطاعتهم ، لهذا الرسول الذى يأتيهم من عند ربهم لهدايتهم إلى الصراط المستقم .
{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذى هو أشرف الرسل .
{ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } أى : ما زادهم مجيئه لهم نفورا عن الحق ، وتباعدا عن الهدى . أى : أنهم قبل مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يتمنون أن يكون الرسول منهم ، لا من غيرهم ، وأقسموا بالله بأنهم سيطيعونه فلما جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم نفروا عنه ولم يؤمنوا به .
وإنما كان القسم بالله - تعالى - غاية أيمانهم ، لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وبأصنامهم ، فإذا اشتد عليهم الحال ، وأرادوا تحقيق الحق ، حلفوا بالله - تعالى - .
وقوله { لَّيَكُونُنَّ } جواب القسم المقدر . وقوله : { مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } جواب لمَّا
يخبر تعالى عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، قبل إرسال الرسول إليهم : { لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ } أي : من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل . قاله الضحاك وغيره ، كقوله تعالى : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } [ الأنعام : 156 ، 157 ] ، {[24631]} وكقوله تعالى : { وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الصافات : 167 - 170 ] .
قال الله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ } - وهو : محمد صلى الله عليه وسلم - بما أنزل معه من الكتاب العظيم ، وهو القرآن المبين ، { مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا } ، أي : ما ازدادوا{[24632]} إلا كفرًا إلى كفرهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لّيَكُونُنّ أَهْدَىَ مِنْ إِحْدَى الاُمَمِ فَلَمّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مّا زَادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السّيّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّىءُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ سُنّةَ آلأوّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : وأقسم هؤلاء المشركون بالله جهد أيمانهم يقول : أشدّ الإيمان ، فبالغوا فيها ، لئن جاءهم من الله مُنذر ينذرهم بأس الله لَيَكُونُنّ أهْدَى مِنْ إحْدَى الأُمَمِ يقول : ليكونُنّ أسلك لطريق الحقّ ، وأشدّ قبولاً لِما يأتيهم به النذير من عند الله ، من إحدى الأمم التي خلت من قبلهم فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني بالنذير : محمدا صلى الله عليه وسلم ، يقول : فلما جاءهم محمد ينذرهم عقاب الله على كفرهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : ما زَادَهُمْ إلاّ نُفُورا يقول : ما زادهم مجِيء النذير من الإيمان بالله واتباع الحقّ ، وسلوك هدى الطريق ، إلاّ نفورا وهربا .
الضمير في قوله { أقسموا } لكفار قريش ، وذلك أنه روي أن كفار قريش كانت قبل الإسلام تأخذ على اليهود والنصارى في تكذيب بعضهم بعضاً وتقول لو جاءنا نحن رسول لكنا أهدى من هؤلاء وهؤلاء ، و { جهد أيمانهم } منصوب على المصدر ، أي بغاية اجتهادهم ، و { إحدى الأمم } يريد اليهود والنصارى ، و «النفور » البعد عن الشيء والفزع منه والاستبشاع له .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.