ثم رد - سبحانه - على تطاولهم وجهلهم بما يدل على عظيم قدرته - عز وجل - وعلى جلال شأنه - تعالى - فقال : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } .
والبروج : جمع برج ، وهى فى اللغة : القصور العالية الشامخة ، ويدل لذلك قوله - تعالى - : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } والمراد بها هنا : المناظل الخاصة بالكواكب السيارة ، ومداراتها الفلكية الهائلة ، وعددها اثنا عشر منزلا ، هى : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجى ، والدلو ، والحوت .
وسميت بالبروج . لأنها بالنسبة لهذه الكواكب كالمنازل لساكنيها .
والسراج : الشمس ، كما قال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } أى : جل شأن الله - تعالى - وتكاثرت آلاؤه ونعمه ، فهو - سبحانه - الذى جعل فى السماء " بروجا " أى : منازل للكواكب السيارة و " جعل فيها " أى : فى السماء " سراجا " وهو الشمس " وجعل فيها " - أيضا - " قمرا منيرا " أى : قمرا يسطع نوره على الأرض المظلمة ، فيبعث فيها النور الهادى اللطيف .
يقول تعالى ممجدا نفسه ، ومعظما على جميل ما خلق في السماء من البروج - وهي الكواكب العظام - في قول مجاهد ، وسعيد بن جُبير ، وأبي صالح ، والحسن ، وقتادة .
وقيل : هي قصور في السماء للحرس ، يروى هذا عن علي ، وابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وإبراهيم النخعي ، وسليمان بن مِهْران الأعمش . وهو رواية عن أبي صالح أيضا ، والقول الأول أظهر . اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس ، فيجتمع القولان ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] ؛ ولهذا قال : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا } وهي الشمس المنيرة ، التي هي كالسراج في الوجود ، كما قال : { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } [ النبأ : 13 ] .
{ وَقَمَرًا مُنِيرًا } أي : مضيئا مشرقا بنور آخر ونوع وفن آخر ، غير نور الشمس ، كما قال : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا } [ يونس : 5 ] ، وقال مخبرا عن نوح ، عليه السلام ، أنه قال لقومه : { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } [ نوح : 15 - 16 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { تَبَارَكَ الّذِي جَعَلَ فِي السّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مّنِيراً } .
يقول تعالى ذكره : تقدّس الربّ الذي جعل في السماء بروجا ويعني بالبروج : القصور ، في قول بعضهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن العلاء ومحمد بن المثنى وسلم بن جنادة ، قالوا : حدثنا عبد الله بن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد ، في قوله تَبارَكَ الّذِي جَعَلَ فِي السّماءِ بُرُوجا قال : قصورا في السماء ، فيها الحرس .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني أبو معاوية ، قال : ثني إسماعيل ، عن يحيى بن رافع ، في قوله تَبارَكَ الّذِي جَعَلَ فِي السّماءِ بُرُوجا قال : قصورا في السماء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم جَعَلَ فِي السّماء بُرُوجا قال : قصورا في السماء .
حدثني إسماعيل بن سيف ، قال : ثني عليّ بن مسهرٍ ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، في قوله تَبارَكَ الّذِي جَعَلَ فِي السّماء بُرُوجا قال : قصورا في السماء فيها الحرس .
وقال آخرون : هي النجوم الكبار . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح تَبارَكَ الّذي جَعَلَ فِي السّماءِ بُرُوجا قال : النجوم الكبار .
قال : ثنا الضحاك ، عن مخلد ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الكواكب .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله بُرُوجا قال : البروج : النجوم .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : هي قصور في السماء ، لأن ذلك في كلام العرب وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ وقول الأخطل :
كأنّهَا بُرْجُ رُوميّ يُشَيّدُهُ *** بانٍ بِحِصّ وآجُرَ وأحْجارِ
قوله : وَجَعَلَ فيها سِرَاجا اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : وَجَعَلَ فِيها سرَاجا على التوحيد ، ووجهوا تأويل ذلك إلى أنه جعل فيها الشمس ، وهي السراج التي عني عندهم بقوله : وَجَعَلَ فِيها سراجا . كما :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله وَجَعَلَ فِيها سِرَاجا وَقَمَرا مُنِيرا قال : السراج : الشمس .
وقرأته عامة قرّاء الكوفيين : «وَجَعَلَ فِيها سُرُجا » على الجماع ، كأنهم وجهوا تأويله : وجعل فيها نجوما وقَمَرا مُنِيرا وجعلوا النجوم سُرُجا إذ كان يُهتدى بها .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأَةِ الأمصار ، لكل واحدة منهما وجه مفهوم ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
{ تبارك الذي جعل في السماء بروجا } يعني البروج الاثني عشر سميت به وهي القصور العالية لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها واشتقاقه منا لتبرج لظهوره . { وجعل فيها سراجا } يعني الشمس لقوله { وجعل الشمس سراجا } وقرأ حمزة والكسائي " سرجا " وهي الشمس والكواكب الكبار . { وقمرا منيرا } مضيئا بالليل ، وقرىء { وقمرا } أي ذا قمر وهو جمع قمراء ويحتمل أن يكون بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب و العرب .
لما جعلت قريش سؤالها عن الله تعالى وعن اسمه هو الرحمن سؤالاً عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بربوبيته ، و «البروج » هي التي علمتها العرب بالتجربة وكل أمة مصحرة{[8864]} وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قوله { والقمر قدرناه منازل }{[8865]} [ يس : 39 ] والعرب تسمي البناء المرتفع المستغني بنفسه برجاً تشبيهاً ببروج السماء . ومنه قوله تعالى : { ولو كنتم في بروج مشيّدة }{[8866]} [ النساء : 78 ] . وقال الأخطل : [ البسيط ]
كأنها برج روميّ يشيدُه . . . لز بجص وآجور وأحجار{[8867]}
وقال بعض الناس في هذه الآية التي نحن فيها «البروج » القصور في الجنة ، وقال الأعمش : كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «في السماء قصوراً » ، وقيل «البروج » الكواكب العظام حكاه الثعلبي عن أبي صالح ، وهذا نحو ما بيناه إلا أنه غير ملخص ، وأما القول بأنها قصور في الجنة فقول يحط غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل به . وقرأ الجمهور «سراجاً » وهي الشمس ، وقرأ حمزة الكسائي وعبد الله بن مسعود وعلقمة والأعمش «سرجاً » وهو اسم جميع الأنوار ، ثم خص القمر بالذكر تشريفاً ، وقرأ النخعي وابن وثاب والأعمش أيضاً «سرْجاً » بسكون الراء ، قال أبو حاتم روى عصمة عن الحسن «وقُمُراً » بضم القاف ساكنة الميم ولا أدري ما أراد أن يكون عنى جمعاً كثمر وثمر وقال أبو عمرو وهي قراءة الأعمش والنخعي{[8868]} .
استئناف ابتدائي جعل تمهيداً لقوله { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] الآيات التي هي محصول الدعامة الثالثة من الدعائم الثلاث التي أقيم عليها بناء هذه السورة ، وافتتحت كل دعامة منها ب { تبارك الذي . . . } إلخ كما تقدم في صدر السورة . وافتتح ذلك بإنشاء الثناء على الله بالبركة والخير لما جعله للخلق من المنافع . وتقدم { تبارك } أول السورة ( 1 ) وفي قوله { تبارك الله رب العالمين } في الأعراف ( 54 ) .
والبروج : منازل مرور الشمس فيما يرى الراصدون . وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } في أول سورة الحجر ( 16 ) .
والامتنان بها لأن الناس يُوقّتون بها أزمانهم .
وقرأ الجمهور سراجاً } بصيغة المفرد . والسراج : الشمس كقوله : { وجعل الشمس سراجاً } في سورة نوح ( 16 ) . ومناسبة ذلك لما يرد بعده من قوله : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة . . . } [ الفرقان : 62 ] .
وقرأ حمزة والكسائي { سُرُجاً } بضم السين والراء جمع سراج فيشمل مع الشمس النجوم ، فيكون امتناناً بحسن منظرها للناس كقوله { ولقد زيّنَّا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] . والامتنان بمحاسن المخلوقات وارد في القرآن قال تعالى : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] .
والكلام جار على التشبيه البليغ لأن حقيقة السراج : المصباح الزاهر الضياء . والمقصود : أنه جعل الشمس مزيلة للظلمة كالسراج ، أو خلق النجوم كالسراج في التلألؤ وحسن المنظر .
ودلالة خلق البروج وخلق الشمس والقمر على عظيم القدرة دلالة بينة للعاقل ، وكذلك دلالته على دقيق الصنع ونظامه بحيث لا يختل ولا يختلف حتى تسنى للناس رصد أحوالها وإناطة حسابهم بها .