التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ يَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ} (3)

وبعد أن أقام - سبحانه - الأدلة فى الآيتين السابقتين على أنه هو المستحق للعبادة والحمد ، وعلى أن يوم القيامة حق ، جاءت الآية الثالثة لتصفه - سبحانه بأنه هو صاحب السلطان المطلق فى هذا الكون فقال - تعالى - : { وهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } .

أى : أنه - سبحانه - هو المعبود بحق فى السموات والأرض ، العليم بكل شىء فى هذا الوجود ، الخبير بكل ما يكسبه الإنسان من خير أو شر فيجازيه عليه بما يستحقه .

والضمير " هو " الذى صدرت به الآية يعود إلى الله - تعالى - الذى نعت ذاته فى الآيتين السابقتين بأنه هو صاحب الحمد المطلق ، وخالق السموات والأرض ، وجاعل الظلمات والنور ، ومنشىء الإنسان من طين ، وأنه لذلك يكون مختصاً بالعبادة والخضوع .

وقوله - تعالى - : { وَهُوَ الله } جملة من متبدأ وخبر ، معطوفة على ما قبلها ، سيقت لبيان شموال ألوهيته لجميع المخلوقات .

قال أبو السعود : وقوله { فِي السماوات وَفِي الأرض } متعلق بالمعنى الوصفى الذى ينبىء عنه الاسم الجليل إما باعتبار اصل اشتقاقه وكونه علما للمعبود بالحق ، كأنه قيل : وهو المعبود فيهما . وإما باعتبار أنه اسم اشتهر به الذات من صفات الكمال ، فلوحظ معه منها ما يقتضيه المقام من المالكية حسبما تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة ، فعلق به الظرف من تلك الحيثية فصار كأنه قيل : هو المالك أو المتصرف المدبر فيهما ، كما فى قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله } وجملة { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } تقرير لمعنى الجملة الأولى لأن الذى استوى فى علمه السر والعلن هو الله وحده . ويجوز أن تكون كلاما مبتدأ بمعنى : هو يعلم سركم وجهركم ، أو خبراً ثانيا .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ يَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ} (3)

وقوله : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال ، بعد الاتفاق على تخطئة قول الجَهْمِيَّة{[10567]} الأول القائلين بأنه - تعالى عن قولهم علوًا كبيرًا - في كل مكان ؛ حيث حملوا الآية على ذلك ، فأصح الأقوال أنه{[10568]} المدعو الله في السموات وفي الأرض ، أي : يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه رَغَبًا ورَهَبًا ، إلا من كفر من الجن والإنس ، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ] ، أي : هو إله مَنْ في السماء وإله مَنْ في الأرض ، وعلى هذا فيكون قوله : { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } خبرًا أو حالا .

والقول الثاني : أن المراد أن الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض ، من سر وجهر . فيكون قوله : { يَعْلَمُ } متعلقًا بقوله : { فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ } تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون .

والقول الثالث أن قوله { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ } وقف تام ، ثم استأنف الخبر فقال : { وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } وهذا{[10569]} اختيار ابن جرير .

وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } أي : جميع أعمالهم خيرها وشرها .


[10567]:في د: "اتفاقهم على إنكار قول الجهمية".
[10568]:في أ: "أن".
[10569]:في م: "وهو".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ يَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ} (3)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَهُوَ اللّهُ فِي السّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } . .

يقول تعالى ذكره : إن الذي له الألوهة التي لا تنبغي لغيره المستحق عليكم إخلاص الحمد له بآلائه عندكم أيها الناس الذي يعدل به كفاركم من سواه ، هو الله الذي هو في السموات وفي الأرض ، ويَعْلَمُ سِرّكُمْ وجَهْرَكُمْ فلا يخفى عليه شيء ، يقول : فربكم الذي يستحقّ عليكم الحمد ويجب عليكم إخلاص العبادة له ، هو هذا الذي صفته ، لا من يقدر لكم على ضرّ ولا نفع ولا يعمل شيئا ولا يدفع عن نفسه سواء أريد بها .

وأما قوله : وَيَعْلَمُ ما تَكْسَبُونَ يقول : ويعلم ما تعملون وتجرحون ، فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ يَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ} (3)

{ وهو الله } الضمير لله سبحانه وتعالى و{ الله } خبره . { في السماوات وفي الأرض } متعلق باسم { الله } والمعنى هو المستحق للعبادة فيهما لا غير ، كقوله سبحانه وتعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أو بقوله : { يعلم سركم وجهركم } والجملة خبر ثان ، أو هي الخبر و{ الله } بدل ، ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد في الحرم إذا كنت خارجه والصيد فيه أو ظرف مستقر وقع خبرا ، بمعنى أنه سبحانه وتعالى لكمال علمه بما فيهما كأنه فيهما ، ويعلم سركم وجهركم بيان وتقرير له وليس متعلقا بالمصدر لأن صفته لا تتقدم عليه . { ويعلم ما تكسبون } من خير أو شر فيثيب عليه ويعاقب ، ولعله أريد بالسر والجهر ما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ يَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ} (3)

قاعدة الكلام في هذه الآية أن حلول الله تعالى في الأماكن مستحيل وكذلك مماسته للأجرام أو محاداته لها أو تحيز لا في جهة لامتناع جواز التقرب عليه تبارك وتعالى ، فإذا تقرر هذا فبين أن قوله تعالى : { وهو الله في السموات وفي الأرض } ليس على حد قولنا زيد في الدار بل هو على وجه من التأويل آخر ، قالت فرقة ذلك على تقدير صفة محذوفة من اللفظ ثابتة في المعنى ، كأنه قال وهو الله المعبود في السماوات وفي الأرض ، وعبر بعضهم بأن قدر هو الله المدبر للأمر في «السماوات وفي الأرض » ، وقال الزجاج { في } متعلقة بما تضمنه اسم الله تعالى من المعاني كما يقال : أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب .

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى ، وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله : { وهو الله } أي الذي له هذه كلها «في السماوات وفي الأرض » كأنه وهو الخالق الرازق المحيي المحيط «في السماوات وفي الأرض » كما تقول زيد السلطان في الشام والعراق ، فلو قصدت ذات زيد لقلت محالاً ، وإذا كان مقصد قولك : زيد الآمر الناهي المبرم الذي يعزل ويولي في الشام والعراق فأقمت السلطان مقام هذه كان فصيحاً صحيحاً ، فكذلك في الآية أقام لفظة { الله } مقام تلك الصفات المذكورة . وقالت فرقة { وهو الله } ابتداء وخبر تم الكلام عنده ، ثم استأنف ، وتعلق قوله { في السماوات } بمفعول { يعلم } ، كأنه قال «وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض » فلا يجوز مع هذا التعليق أن يكون { هو } ضمير أمر وشأن لأنه يرفع { الله } بالابتداء ، و { يعلم } في موضع الخبر ، وقد فرق { في السماوات وفي الأرض } بين الابتداء والخبر وهو ظرف غريب من الجملة ، ويلزم قائلي هذه المقالة أن تكون المخاطبة في الكاف في قوله : { سركم وجهركم } لجميع المخلوقين الإنس والملائكة ، لأن الإنس لا سر ولا جهر لهم في السماء ، فترتيب الكلام على هذا القول وهو الله يعلم يا جميع المخلوقين «سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض » وقالت فرقة { وهو } ضمير الأمر والشأن و «الله في السماوات » ابتداء وخبر تم الكلام عنده ، ثم ابتدأ كأنه قال «ويعلم في الأرض سركم وجهركم »{[4821]} ، وهذا القول إذ قد تخلص من لزوم المخاطبة الملائكة فهو مخلص من شبهة الكون في السماء بتقدير حذف المعبود أو المدبر على ما تقدم ، وقوله تعالى { يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون } خبر في ضمنه تحذير وزجر ، و { تكسبون } لفظ عام لجميع الاعتقادات والأفعال والأقوال .


[4821]:-هذا رأي أبي علي، وقد علل أبو حيان هذا الاتجاه بقوله: "لأنه إذا لم يكن ضمير الشأن كان عائدا على الله تعالى فيصير التقدير: "الله الله" فينعقد مبتدأ وخبر من اسمين متحدين لفظا ومعنى ولا نسبة بينهما إسنادية، وذلك لا يجوز" اهـ.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ يَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ} (3)

عطف على قوله { هو الذي خلقكم من طين } أي خلقكم ولم يهمل مراقبتكم ، فهو يعلم أحوالكم كلها .

فالضمير مبتدأ عائد إلى اسم الجلالة من قوله { الحمد لله } وليس ضمير فصل إذ لا يقع ضمير الفصل بعد حرف العطف . وقوله { الله } خبر عن المبتدأ . وإذ كان المبتدأ ضميرا عائدا إلى اسم الله لم يكن المقصود الإخبار بأن هذا الذي خلق وقضى هو الله إذ قد علم ذلك من معاد الضمائر ، فتعين أن يكون المقصود من الإخبار عنه بأنه الله معنى يفيده المقام ، وذلك هو أن يكون كالنتيجة للأخبار الماضية ابتداء من قوله { الحمد لله الذي خلق } فنبه على فساد اعتقاد الذين أثبتوا الإلهية لغير الله وحمدوا ألهتهم بأنه خالق الأكوان وخالق الإنسان ومعيده ، ثم أعلن أنه المنفرد بالإلهية في السماوات وفي الأرض ؛ إذ لا خالق غيره كما تقرر آنفا . وإذ هو عالم السر والجهر ، وغيره لا إحساس له فضلا عن العقل فضلا عن أن يكون عالما .

ولما كان اسم الجلالة معروفا عندهم لا يلتبس بغيره صار قوله { وهو الله } في معنى الموصوف بهذه الصفات هو صاحب هذا الاسم لا غيره .

وقوله : { في السموات وفي الأرض } متعلّق بالكون المستفاد من جملة القصر ، أو بما في { الحمد لله } [ الأنعام : 1 ] من معنى الإنفراد بالإلهية ، كما يقول من يذكر جواداً ثم يقول : هو حاتم في العرب ، وهذا لقصد التنصيص على أنّه لا يشاركه أحد في صفاته في الكائنات كلّها .

وقوله : { يعلم سرّكم وجهركم } جملة مقرّرة لمعنى جملة { وهو الله } ولذلك فصلت ، لأنّها تتنزّل منا منزلة التوكيد لأنّ انفراده بالإلهية في السماوات وفي الأرض ممّا يقتضي علمه بأحوال بعض الموجودات الأرضية .

ولا يجوز تعليق { في السماوات وفي الأرض } بالفعل في قوله : { يعلم سرّكم } لأنّ سرّ النّاس وجهرهم وكسبهم حاصل في الأرض خاصّة دون السماوات ، فمن قدّر ذلك فقد أخطأ خطأ خفيّاً .

وذكر السرّ لأنّ علم السرّ دليل عموم العلم ، وذكر الجهر لاستيعاب نوعي الأقوال . والمراد ب { تكسبون } جميع الاعتقادات والأعمال من خير وشر فهو تعريض بالوعد والوعيد .

والخطاب لجميع السامعين ؛ فدخل فيه الكافِرون ، وهم المقصود الأول من هذا الخطاب ، لأنّه تعليم وإيقاظ بالنسبة إليهم وتذكير بالنسبة إلى المؤمنين .