والمراد بالشجرة فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ . . } ، شجرة الزيتون . وهى معطوفة على " جنات " من عطف الخاص على العام .
أى : فأنشأنا لكم بسبب هذا لاماء النازل من السماء ، جنات ، وأنشأنا لكم بسببه - أيضاً - شجرة مباركة تخرج من هذا الوادى المقدس الذى كلم الله - تعالى - عليه موسى - عليه السلام - وهو المعروف بطور سيناء . أى : بالجبل المسمى بهذا الاسم فى منطقة سيناء ، ومكانها معروف .
قالوا : وكلمة سيناء - بفتح السين والمد على الراجح - معناها : الحسن باللغة النبطية . أو معناها : الجبل الملىء بالأشجار . وقيل : مأخوذة من السنا بمعنى الارتفاع .
وخصت شجرة الزيتون بالذكر : لأنها من أكثر الأشجار فائدة بزيتها وطعامها وخشبها ، ومن أقل الأشجار - أيضاً - تكلفة لزارعها .
وخص طور سيناء بإنباتها فيه ، مع أنها تنبت منه ومن غيره ، لأنها أكثر ما تكون انتشاراً فى تلك الأماكن ، أو لأن منبتها الأصلى كان فى هذا المكان ، ثم انتقلت منه إلى غيره من الأماكن .
وقوله : { تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } بيان لمنافع هذه الشجرة على سبيل المدح ، والتعليل لإفرادها بالذكر .
والدهن : عصارة كل شىء ذى دسم . والمراد به هنا : زيت الزيتون .
وقراءة الجمهور : { تَنبُتُ } - بفتح التاء وضم الباء - على أنه مضارع نبت الثلاثى .
فيكون المعنى : هذه الشجرة من مزاياها أنها تنبت مصحوبة وملتبسة بالدهن الذى يستخرج من زيتونها . فالباء فى قوله { بالدهن } للمصاحبة والملابسة ، كما تقول : خرج فلان بسلاحه ، أى : مصاحباً له .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : تُنْبِت - بضم التاء وكسر الباء - من أنبت بمعنى نبت . أو : من أنبت التعدى بالهمزة ، كأنبت الله الزرع ، والتقدير : تنبت ثمارها مصحوبة بالدهن .
والصبغ فى الأصل : يطلق على الشىء الذى يصبغ به الثوب .
والمراد به هنا : الإدام لأنه يصبغ الخبز ، ويجعله كأنه مصبوغ به .
أى : أن من فوائد هذه الشجرة المباركة أنها يتخذ منها الزيت الذى ينتفع به ، والإدام الذى يحلو معه أكل الخبز والطعام .
روى الإمام أحمد عن مالك بن ربيعة الساعدى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " .
وقوله : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ } يعني : الزيتونة . والطور : هو الجبل . وقال بعضهم : إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر ، فإن عَرى عنها سمي جَبَلا لا طورًا ، والله أعلم . وطور سيناء : هو طور سينين ، وهو الجبل الذي كَلَّم [ الله ]{[20522]} عليه موسى بن عمران ، عليه السلام ، وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون .
وقوله : { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } : قال بعضهم : الباء زائدة ، وتقديره : تنبت الدهن ، كما في قول العرب : ألقى فلان بيده ، أي : يده . وأما على قول من يُضَمِّن الفعل فتقديره : تخرج بالدهن ، أو{[20523]} تأتي بالدهن ؛ ولهذا قال : { وَصِبْغٍ } أي : أدْم ، قاله قتادة . { لِلآكِلِينَ } أي : فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عطاء الشامي ، عن أبي أسَيْد - واسمه مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلوا الزيت وادهنوا به{[20524]} ؛ فإنه من شجرة مباركة " {[20525]} .
وقال عبد بن حُمَيد في مسنده وتفسيره : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ائتدموا بالزيت وادهنوا به ، فإنه يخرج من شجرة مباركة " .
ورواه الترمذي وابن ماجه من غير وجه ، عن عبد الرزاق{[20526]} . قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه ، وكان يضطرب فيه ، فربما ذكر فيه عمر{[20527]} وربما لم يذكره .
قال{[20528]} أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثني الصَّعْب بن حكيم بن شريك بن نملة ، عن أبيه عن جده ، قال : ضِفْت عمرَ بن الخطاب ليلة عاشوراء{[20529]} ، فأطعمني{[20530]} من رأس بعير بارد ، وأطعمنا زيتًا ، وقال : هذا الزيت المبارك الذي قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم{[20531]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدّهْنِ وَصِبْغٍ لّلاَكِلِيِنَ } .
يقول تعالى ذكره : وأنشأنا لكم أيضا شجرة تخرج من طور سيناء و «شجرة » منصوبة عطفا على «الجنات » ، ويعني بها : شجرة الزيتون .
وقوله : تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ يقول : تخرج من جبل يُنْبِت الأشجار .
وقد بيّنت معنى الطور فيما مضى بشواهده ، واختلاف المختلفين ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : سَيْناءَ فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : «سِيناءَ » بكسر السين . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : سَيْناءَ بفتح السين ، وهما جميعا مجمعون على مدّها .
والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان في قَرَأَة الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : المبارك ، كأن معنى الكلام عنده : وشجرة تخرج من جبل مبارك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : طُورِ سَيْناءَ قال : المبارك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ قال : هو جبل بالشام مبارك .
وقال آخرون : معناه : حسن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : طُورِ سَيْناءَ قال : هو جبل حسن .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مِنْ طُورِ سَيْناءَ الطور : الجبل بالنبطية ، وسيناء : حسنة بالنبطية .
وقال آخرون : هو اسم جبل معروف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخُراسانيّ ، عن ابن عباس ، في قوله : مِنْ طُورِ سَيْناءَ قال : الجبل الذي نودي منه موسى صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : طُورِ سَيْناءَ قال : هو جبل الطور الذي بالشام ، جبل ببيت المقدس ، قال : ممدود ، هو بين مصر وبين آيَلْة .
وقال آخرون : معناه : أنه جبل ذو شجر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عمن قاله .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن سيناء اسم أضيف إليه الطور يعرف به ، كما قيل جبلاً طيّىء ، فأضيفا إلى طيىء ، ولو كان القول في ذلك كما قال من قال معناه جبل مبارك ، أو كما قال من قال معناه حسن ، لكان «الطور » منوّنا ، وكان قوله «سيناء » من نعته . على أن سيناء بمعنى : مبارك وحسن ، غير معروف في كلام العرب فيجعل ذلك من نعت الجبل ، ولكن القول في ذلك إن شاء الله كما قال ابن عباس ، من أنه جبل عرف بذلك ، وأنه الجبل الذي نُودي منه موسى صلى الله عليه وسلم ، وهو مع ذلك مبارك ، لا أن معنى سيناء معنى مبارك .
وقوله : تَنْبُتُ بالدّهْنِ اختلفت القرّاء في قراءة قوله : تَنْبُتُ فقرأته عامة قرّاء الأمصار : تَنْبُتُ بفتح التاء ، بمعنى : تنبت هذه الشجرة بثمر الدهن ، وقرأه بعض قرّاء البصرة : «تُنْبِتُ » بضم التاء ، بمعنى : تنبت الدهن : تخرجه . وذكر أنها في قراءة عبد الله : «تُخْرِجُ الدّهْنَ » وقالوا : الباء في هذا الموضع زائدة ، كما قيل : أخذت ثوبه وأخدته بثوبه وكما قال الراجز :
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أرْبابُ الفَلَجْ *** نَضْرِبُ بالْبِيضِ وَنَرْجُو بالفَرَجْ
بمعنى : ونرجو الفرج . والقول عندي في ذلك أنهما لغتان : نبت ، وأنبت ومن أنبت قول زهير :
رأيْتَ ذَوِي الحاجاتِ حَوْلَ بُيُوتهِمْ *** قَطِينا لَهُمْ حتى إذَا أنْبَتَ البَقْلُ
ويروى : «نبت » ، وهو كقوله : فأَسْرِ بأهْلِكَ و «فاسْرِ » . غير أن ذلك وإن كان كذلك ، فإن القراءة التي لا أختار غيرها في ذلك قراءة من قرأ : تَنْبُتُ بفتح التاء ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها . ومعنى ذلك : تنبت هذه الشجرة بثمر الدهن . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : تَنْبُتُ بالدّهْنِ قال : بثمره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
والدهن الذي هو من ثمره الزيت ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : تَنْبُتُ بالدّهْنِ يقول : هو الزيت يؤكل ويُدّهن به .
وقوله : وَصِبْغٍ لْلاَكِلِينَ يقول : تنبت بالدهن وبصبغ للاَكلين ، يُصْطَبَغ بالزيت الذين يأكلونه . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَصِبْغٍ لْلاَكِلِينَ قال : هذا الزيتون صبغ للاَكلين ، يأتدمون به ويصطبغون به .