ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس أن كل الأمور بيد الله - تعالى - ، وأن علم الغيب كله مرجعة إليه - سبحانه - فقال :
{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أى : لا أملك لأجل نفسى جلب نفع ما ولا دفع ضرر ما .
وقوله { لِنَفْسِي } متعلق بأملك . أو بمحذوف وقع حالا من { نَفْعاً } والمراد : لا أملك ذلك في وقت من الأوقات .
وقوله { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } استثناء متصل . أى لا أملك لنفسى نفعا ولا ضراً في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله بأن يمكننى من ذلك ، فإننى حينئذ أملكه بمشيئته .
وقيل الاستثناء منقطع ، أى لكن ما شاء الله من ذلك كائن .
وقوله { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِيَ السواء } أى : لكانت حالى - كما قال الزمخشرى - على خلاف ما هى عليه من استكثار الخير ، واستغزار المنافع واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسنى شىء منها ولم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى في الحروب ، ورابحا وخاسرا في التجارات ومصيبا ومخطئا في التدابير " .
قال الجمل : فإن قلت : قد أخبر صلى الله عليه وسلم عن المغيبات وقد جاءت أحاديث في الصحيح بذلك وهو من أعظم معجزاته فكيف نوفق بينه وبين قوله - تعالى - { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب } . . الخ . . ؟ قلت : يحتمل أنهقاله على سبيل التواضع والأدب ، والمعنى : لا أعلم الغيب إلا أن يطلعنى الله عليه ويقدره لى .
ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله على علم الغيب . فلما أطلعه الله أخبر به كما قال - تعالى - { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ، ثم بعد ذلك أظهره - سبحانه - على أشياء من المغيبات فأخبر عنها ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته .
ثم بين القرآن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أى : ما أنا إلا بعد أرسلنى الله نذيراً وبشيراً ، وليس من مهمتى أو وظيفتى معرفة علم الغيب .
وقوله { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يجوز أن يتعلق بقوله { نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } جميعا لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالإنذار والتبشير ، ويجوز أن يتعلق بقوله { بَشِيرٌ } وحده ، وعليه يكون متعلق النذير محذوف أى : للكافرين . وحذف للعلم به :
أمره الله تعالى أن يفوّض الأمور إليه ، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب ، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه ، كما قال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا . [ إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ] } [ الجن : 26 ، 27 ]{[12498]}
وقوله : { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد . { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } قال : لو كنت أعلم متى أموت ، لعملت عملا صالحا .
وكذلك روى ابن أبي نجِيح عن مجاهد : وقال مثله ابن جُرَيْج .
وفيه نظر ؛ لأن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دَيمة . وفي رواية : كان إذا عمل عملا أثبته{[12499]}
فجميع عمله كان على منوال واحد ، كأنه ينظر إلى الله ، عز وجل ، في جميع أحواله ، اللهم إلا أن يكون المرادُ أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك ، والله أعلم .
والأحسن في هذا ما رواه الضحاك ، عن ابن عباس : { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } أي : من المال . وفي رواية : لعلمت إذا اشتريت شيئًا ما{[12500]} أربح فيه ، فلا أبيع شيئًا إلا ربحت فيه ، وما مسني السوء ، قال : ولا يصيبني الفقر .
وقال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ، ولعرفت{[12501]} الغَلاء من الرخص ، فاستعددت له من الرخص .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } قال : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون ، واتقيته .
ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير ، أي : نذير من العذاب ، وبشير للمؤمنين بالجنات ، كما قال تعالى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [ مريم : 97 ]
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسّنِيَ السّوَءُ إِنْ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لسائليك عن الساعة أيّان مرساها : لا أمْلِك لِنَفْسِي نَفْعا وَة ضَرّا يقول : لا أقدر على اجتلاب نفع إلى نفسي ، ولا دفع ضرّ يحلّ بها عنها إلاّ ما شاء الله أن أملكه من ذلك بأن يقوّيني عليه ويعينني . وَلَوْ كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ يقول : لو كنت أعلم ما هو كائن مما لم يكن بعد لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ يقول : لأعددت الكثير من الخير .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الخير الذي عناه الله بقوله : لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ فقال بعضهم : معنى ذلك : لاستكثرت من العمل الصالح . ذكر من قال ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : قُلْ لا أمْلِك لِنَفْسِي نَفْعا وَلا ضَرّا قال : الهدى والضلالة . لَوْ كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ قال : أعلم الغيب متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْ كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَما مَسّنِيَ السّوءُ : قال : لاجتنبت ما يكون من الشرّ واتقيته .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنّة المجدبة من المخصبة ، ولعرفت الغلاء من الرخص ، واستعددت له في الرخص .
وقوله : وَما مَسّنِيَ السّوءُ يقول : وما مسني الضرّ . إنْ أنا إلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ يقول : ما أنا إلاّ رسول الله أرسلني إليكم ، أنذر عقابه من عصاه منكم وخالف أمره ، وأبشر بثوابه وكرامته من آمن به وأطاعة منكم . قولوه : لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول : يصدّقون بأني لله رسول ، ويقرّون بحقية ما جئتهم به من عنده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.