فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (188)

{ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا } قال ابن جرير : يعني الهدى والضلالة وهذه الجملة متضمنة لتأكيد ما تقدم من عدم علمه بالسعة أيان تكون ومتى تقع لأنه إذا كان لا يقدر على جلب نفع له أو دفع ضر عنه .

{ إلا ما شاء الله } سبحانه من النفع له والدفع عنه ، فبالأولى أن لا يقدر على علم ما استأثر الله بعلمه ، وفي هذا من إظهار العبودية والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد ، والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له صلى الله عليه وسلم ما فيه أعظم زاجر ، وأبلغ واعظ لمن يدعي لنفسه ما ليس من شأنها وينتحل علم الغيب بالنجامة أو الرمل أو الطرق بالحصى أو الزجر .

قال النسفي : أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرب كالمماليك إلا ما شاء مالكي من النفع لي والدفع عني ، والاستثناء منقطع ، وبه قال ابن عطية وهو أبلغ في إظهار العجز .

ثم أكد هذا وقرره بقوله : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } أي لو كنت أعلم جنس الغيب لتعرضت لما فيه الخير فجلبته إلى نفسي وتوقيت ما فيه السوء حتى لا يمسني ، ولكني عبد لا أدري ما عند ربي ولا ما قضاه فيّ وقدره لي ، فكيف أدري غير ذلك وأتكلف علمه ، وقيل المعنى لو كنت أعلم ما يريد الله عز وجل مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته ، وقيل لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب ، وقيل لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه ، وقيل لو كنت أعلم وقت الموت لاستكثرت من العمل الصالح ، وقيل لو كنت أعلم وقت الخصب والجدب لاعتددت من الخصب للجدب وقيل غير ذلك والأولى حمل الآية على العموم فيندرج هذه الأمور وغيرها تحتها .

{ وما مسني السوء } كلا مستأنف أي ليس لي ما تزعمون من الجنون ، والأولى أنه متصل بما قبله والمعنى لو علمت الغيب ما مسني السوء ولحذرت عنه كما قدمنا ذلك وقال ابن جريج : لا يصيبني الفقر ، وقال ابن زيد : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون ، وقال الكرخي : أي ما مسني سوء يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته والمدافعة بموانعه لا سوء ما فإن منه ما لا مدفع له .

{ إن أنا إلا نذير وبشير } أي ما أنا إلا مبلغ عن الله أحكامه { لقوم يؤمنون } أي كتب في الأزل أنهم يؤمنون فإنهم المنتفعون به فلا ينافي كونه بشيرا ونذيرا للناس كافة ، واللام في لقوم من باب التنازع ، فعند البصريين تعلق ببشير ، وعند الكوفيين بنذير ، وقيل نذير بالنار للكافرين وبشير بالجنة للمؤمنين .

وعلى هذا متعلق النذارة محذوف والذي أخبر به صلى الله عليه وسلم عن المغيبات ، وقد جاءت بها أحاديث في الصحيح فهو من قبيل المعجزات .

ومن قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك على سبيل التواضع والأدب فقد أبعد النجعة بل قاله صلى الله عليه وسلم معتقدا بذلك ، وأن الله هو المستأثر بعلم الغيب والمعجزات مخصصة من هذا العموم كما قال تعالى : { إلا من ارتضى من رسول } .