اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (188)

قوله تعالى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ الله } الآية .

وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها : أنَّهم لمَّا سألوه عن علم السَّاعةِ فقال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } أي أنا لا أدري عِلْمَ الغيب ، ولا أملك لنفْسِي نفعاً ، ولا ضرّاً إنْ أنا إلاَّ نذير ، ونظيره قوله في سورة يونس : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ الله } [ يونس : 48 ، 49 ] .

قال ابنُ عبَّاسِ : إنَّ أهل مكة قالوا : يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري به ، ونربح فيه عند الغلاء ، وبالأرض التي تريد أن تجدب ، فنرحل عنها إلى ما قد أخْصَبَتْ ؛ فأنزل اللَّهُ هذه الآية{[17065]} .

وقيل : لمَّا رجع عليه الصَّلاة والسَّلام من غزوة بني المصطلق جاءتْ ريح في الطَّريق ففرت الدوابُّ فأخبر عليه الصلاة والسلام بموت رفاعة بالمدينة ، وكان فيه غيظ للمنافقين ، وقال انظروا أين ناقتي ؟ فقال عبدُ الله بن أبي : ألا تعجبون من هذا الرَّجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ، ولا يعرف أين ناقته ! فقال - عليه الصلاة والسلام - إنَّ ناساً من المُنافقينَ قالوا كيت وكيت ، وناقتي في هذا الشعب قد تعلَّق زمامها بشجرةٍ ، فوجدوها على ما قال ؛ فأنزل الله عز وجل { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } .

قوله : " لِنَفْسِي " فيه وجهان :

أحدهما : أنَّها متعلقة ب " أمْلِكُ " .

والثاني : أنَّها متعلقةٌ بمحذوف على أنَّها حالٌ من نَفْعاً ؛ لأنه في الأصْلِ صفةٌ له لو تأخر ، ويجوزُ أن يكون لِنَفْسِي معمولاً ب " نَفْعاً " واللاَّم زائدةٌ في المفعول به تقويةٌ للعامل ؛ لأنَّهُ فرع إذ التَّقديرُ : لا أملك أن أنفع نفسي ولا أن أضُرَّهَا ، وهو وجهٌ حسنٌ .

قوله { إِلاَّ مَا شَاءَ الله } في هذا الاستثناء وجهان :

أظهرهما : أنَّهُ متَّصلٌ ، أي إلاَّ ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه .

والثاني : أنَّهُ منفصل - وبه قال ابنُ عطيَّة - ، وسبقه إليه مكيٌّ ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك .

فصل

دلَّت هذه الآيةُ على مسألة خلق الأعمالِ ؛ لأنَّ الإيمانَ نفع والكفر ضرٌّ ؛ فوجب أن لا يحصلان إلاَّ بمشيئةِ اللَّهِ تعالى ؛ لأنَّ القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك الدَّاعية الجازمةِ يكونُ مريداً للكفر ، فعلى جميع التقديرات : لا يملكُ العبدُ لنفسه نفعاً ، ولا ضرّاً إلا ما شاء اللَّهُ .

أجاب القاضي عنه بوجوه :

أحدها : أن ظاهر الآية ، وإن كان عاماً بحسب اللَّفْظِ إلاّ أنَّا ذكرنا أنَّ سبب النُّزُولِ قولُ الكُفَّارِ : " يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو " فيُحمل اللفظُ العام على سبب نزوله ، فيكُونُ المرادُ بالنفع : تملك الأموال وغيرها ، والمراد بالضرّ وقت القحط وغيره .

وثانيها : أنَّ المُرادَ بالنَّفْع والضر ما يتَّصلُ بعلم الغيبِ لقوله : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } [ الأعراف : 188 ] .

وثالثها : أن التقدير : لا أملكُ لنفسي من النَّفع والضر إلاَّ قدر ما شاء اللَّهُ أن يقدرني عليه ويمكنني فيه ، وهذه الوجوه كُلُّهَا عدول عن الظَّاهر ، فلا يُصار إليها مع قيام البُرهانِ القاطع العقلي على أن الحق ليس إلاَّ ما دل عليه ظاهر الآية .

فصل

احتج الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - على عدم علمه بالغيب بقوله : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } واختلفوا في المراد بهذا الخيرِ وقوله { وَمَا مَسَّنِيَ السواء } قال ابنُ جريجٍ :

قل لا أملك لنفسي نفعاً ، ولا ضرّاً من الهدى والضلالة ، ولو كنت أعلمُ متى أموت لاستكثرت من الخير ، أي : من العمل الصَّالح وما مَسَّنِيَ السُّوءُ ، واجتنبت ما يكون من الشَّر واتَّقَيْتُهُ .

وقيل : لو كنت أعلم الغيب أي : متى تقوم السَّاعةُ لأخبرتكم حتَّى تُؤمنُوا وما مَسَّني السُّوءُ بتكذيبكم .

وقيل : ما مسني السُّوء ابتداء يريد : وما مسَّنيَ الجنونُ ؛ لأنَّهُم كانوا ينسبونه إلى الجُنُونِ ، وقال ابنُ زيدٍ : المرادُ بالسُّوءِ : الضرُّ ، والفقرُ ، والجوعُ .

قوله { وَمَا مَسَّنِيَ السواء } عطف على جواب " لو " وجاء هنا على أحسن الاستعمال من حيث أثبت اللاَّم في جواب " لَوْ " المثبت ، وإن كان يجوزُ غيره ، كما تقدَّم ، وحذفَ اللاَّم من المنفيّ ، لأنه يمتنع ذلك فيه .

وقال أبُو حيَّان{[17066]} : ولم تصحب " مَا " النَّافية - أي : اللام - وإن كان الفصيحُ ألاَّ تصحبها ، كقوله : { وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ } [ فاطر : 14 ] . وفيه نظرٌ ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ جوابها المنفيَّ لا يجوز دخولُ اللاَّم عليه .

قوله : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } نذير لمن لا يُصدق بما جئت به ، وبشير بالجنَّةِ لقوم يصدقون .

وذكر إحدى الطائفتين ؛ لأنَّ ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] .

وقد يقال : إنه كان نذيراً وبشيراً للكل إلاَّ أنَّ المنتفع بالنذارة والبشارة هم المؤمنون كما تقدَّم في قوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .

واللاَّمُ في قوله [ القوم ] من باب التَّنازُعِ ، فعند البصريين تتعلقُ ب " بَشِير " لأنه الثَّاني ، وعند الكوفيين بالأول لسبقه .

ويجوز أن تكون المتعلٌّق بالنذارة محذوفاً ، أي : نذير للكافرين ودلَّ عليه ذكرُ مقابله كما تقدم .


[17065]:ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/276) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس، وذكره البغوي في تفسيره (2/220).
[17066]:ينظر: البحر المحيط 4/434.