التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيۡنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمًا عَمِينَ} (64)

لقد صرحت السورة الكريمة بأن موقفهم كان قبيحا ، ولذا عوقبوا بما يناسب جرمهم قال - تعالى - : { فَكَذَّبُوهُ } أى : فكذب قوم نوح نبيهم ومرشدهم نوحا ، وأصروا على التكذيب مع أنه دعاهم إلى الهدى ليلا ونهاراً ، وسراً وجهاراً ، ومع أنه مكث فيهم " ألف سنة إلا خمسين عاما " كانت نتيجة ذلك - كما حكى القرآن :

{ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك } أى : فأنجيناه من الغرق هو والذين آمنوا معه بأن حملناهم في السفينة التي صنعها . والفاء في { فَأَنجَيْنَاهُ } للسببية .

قيل كان عدد الذين آمنوا معه أربعين رجلا وأربعين امرأة . وقيل غير ذلك . والقرآن قد صرح بأن المؤمنين به كانوا قلة ، فقال : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } { وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } عمين : جمع عم صفة مشبهة ، يقال : هو عم - كفرح - لأعمى البصيرة .

أى : وأغرقنا بالطوفان أولئك الذين كذبوا بآياتنا من قوم نوح لأنهم كانوا قوماً عمى البصائر عن الحق والإيمان لا تنفع فيهم المواعظ ولم يجد معهم التذكير .

وهذه سنة الله في خلقه أن جعل حسن العاقبة للمؤمنين ، وسوء العذاب للجاحدين . { ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .

إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .

والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .

وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .

وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .

فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .

وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيۡنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمًا عَمِينَ} (64)

قال الله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ } أي : فتمادوا{[11855]} على تكذيبه ومخالفته ، وما آمن معه منهم إلا قليل ، كما نص عليه في موضع آخر ، { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ } وهي السفينة ، كما قال : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } [ العنكبوت : 15 ] { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } كما قال : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } [ نوح : 25 ]

وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ } أي : عن الحق ، لا يبصرونه ولا يهتدون له .

فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه ، وأنجى رسوله والمؤمنين ، وأهلك أعداءهم من الكافرين ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ] وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ{[11856]} } [ غافر : 51 ، 52 ]

وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة ، أن العاقبة{[11857]} للمتقين والظفر والغلب لهم ، كما أهلك قوم نوح [ عليه االسلام ]{[11858]} بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين .

قال مالك ، عن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما عذب الله قوم نوح [ عليه السلام ]{[11859]} إلا والأرض ملأى بهم ، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز .

وقال ابن وَهْب : بلغني عن ابن عباس : أنه نجا مع نوح [ عليه السلام ]{[11860]} في السفينة ثمانون رجلا أحدهم " جُرْهم " ، وكان لسانه عربيا .

رواهن{[11861]} ابن أبي حاتم . وقد روي هذا الأثر الأخير من وجه آخر متصلا عن ابن عباس ، رضي الله عنهما .


[11855]:في د: "تمادوا".
[11856]:زيادة من ك، م، أ، وفي هـ: الآية إلى قوله".
[11857]:في أ: "أن العاقبة فيها.
[11858]:زيادة من أ.
[11859]:زيادة من أ.
[11860]:زيادة من أ.
[11861]:في م، د، أ: "رواه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيۡنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمًا عَمِينَ} (64)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَذّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } .

يقول تعالى ذكره : فكذّب نوحا قومُه ، إذ أخبرهم أنه لله رسول إليهم يأمرهم بخلع الأنداد والإقرار بوحدانية الله والعمل بطاعته ، وخالفوا أمر ربهم ولجوا في طغيانهم يعمهون ، فأنجاه الله في الفلك والذين معه من المؤمنين به . وكانوا بنوح عليه السلام ثلاث عشرة ، فيما :

حدثني به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : نوح وبنوه الثلاثة : سام ، وحام ، ويافث وأزواجهم ، وستة أناسيّ ممن كان آمن به .

وكان حمل معه في الفُلك من كلّ زوجين اثنين ، كما قال تبارك وتعالى : وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ . والفُلك : هو السفينة . وأغْرَقْنا الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا يقول : وأغرق الله الذين كذّبوا بحججه ولم يتبعوا رسله ولم يقبلوا نصيحته إياهم في الله بالطوفان . إنّهُمْ كانُوا قَوْما عَمِينَ يقول : عمين عن الحقّ . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : عَمِينَ قال : عن الحقّ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : قَوْما عَمِينَ قال : العَمِي : العامي عن الحقّ .