ثم حكى - سبحانه - جانبا من مظاهر هدايته لهم فقال : { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ } .
وأصل الربط : الشد ، يقال ، ربطت الدابة ، أى : شددتها برباط ، والمراد به هنا : ما غرسه الله فى قلوبهم من قوة ، وثبات على الحق ، وصبر على فراق أهليهم ، ومنه قولهم : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا يفزع عند الشدائد والكروب .
والمراد بقيامهم : عقدهم العزم على مفارقة ما عليه قومهم من باطل ، وتصميمهم على ذلك تصميما لا تزحزحه الخطوب مهما كانت جسيمة .
ويصح أن يكون المراد بقيامهم : وقوفهم فى وجه ملكهم الجبار بثبات وقوة ، دون أن يبالوا به عندما أمرهم بعبادة ما يعبده قومهم ، وإعلانهم دين التوحيد ، ونبذهم لكل ما سواه من شرك وضلال .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { إذ قاموا } يحتمل ثلاثة معان . أحدها : أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدى الملك الكافر ، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه ، ورفضوا ما دعاهم إليه .
والمعنى الثانى فيما قيل : إنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا واجتمعوا وراءها من غير ميعاد ، وتعاهدوا على عبادة الله وحده .
والمعنى الثالث : أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله - تعالى - ومنابذة الناس ، كما تقول : قام فلان إلى أمر كذا ، إذا عزم عليه بغاية الجد .
وعلى أية حال فالجملة الكريمة تفيد أن هؤلاء الفتية كانت قلوبهم ثابتة راسخة ، مطمئنة إلى الحق الذى اهتدت إليه ، معتزة بالإِيمان الذى أشربته ، مستبشرة بالإِخاء الذى جمع بينها على غير ميعاد ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول :
" الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " .
ثم حكى - سبحانه - ما قالوه بعد أن استقر الإِيمان فى نفوسهم فقال : { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها . . } .
أى : أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله - عز وجل - حين قاموا فى وجه أعدائهم ، وقالوا بكل شجاعة وجرأة : ربنا - سبحانه - هو رب السموات والأرض ، وهو خالقهما وخالق كل شئ ، ولن نعبد سواه أى معبود آخر .
ونفوا عبادتهم لغيره - سبحانه - بحرف - " لن " للإِشعار بتصميمهم على ذلك فى كل زمان وفى كل مكان ، إذ النفى بلن أبلغ من النفى بغيرها .
قال الآلوسى : وقد يقال ؛ إنهم أشاروا بالجملة الأولى - وهى : ربنا رب السموات والأرض - إلى توحيد الربوبية ، وأشاروا بالجملة الثانية - لن ندعو من دونه إلها - إلى توحيد الألوهية ، وهما أمران متغايران ، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ، ويقولون بالأول : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } وحكى - سبحانه - عنهم أنهم يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } وصح أنهم كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .
وقوله - سبحانه - { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله - تعالى - .
والشطط : مصدر معناه مجاوزة الحد فى كل شئ ، ومنه : أشط فلان فى السَّومْ إذا جاوز الحد ، وأشط فى الحكم إذا جاوز حدود العدل : وهو صفة لموصوف محذوف ، وفى الكلام قسم مقدر ، واللام فى " لقد " واقعة فى جوابه ، و " إذا " حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر .
أى : ربنا رب السموات والأرض ، لن ندعو من دون إلها . ولو فرض أننا دعونا وعبدنا من دونه إلها آخر ، والله لنكونن فى هذه الحالة قد قلنا إذا قولا شططا ، أى : بعيدا بعدا واضحا عن دائرة الحق والصواب .
والأية الكريمة تدل على قوة إيمان هؤلاء الفتية ، وعلى أن من كان كذلك ثبت الله - تعالى - قلبه ، وقواه على تحمل الشدائد ، كما تدل على أن من أشرك مع الله - تعالى - إلها آخر ، يكون بسبب هذا الإِشراك ، قد جاء بأمر شطط بعيد كل البعد عن الحق والصواب وصدق الله إذ يقول : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَرَبَطْنا على قُلُوبِهمْ" يقول عزّ ذكره: وألهمناهم الصبر، وشددنا قلوبهم بنور الإيمان حتى عزفت أنفسهم عما كانوا عليه من خفض العيش...
وقوله: "إذْ قامُوا فقالُوا رَبّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ "يقول: حين قاموا بين يدي الجبار (دقينوس)، فقالوا له إذ عاتبهم على تركهم عبادة آلهته: "ربّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ" يقول: قالوا ربنا ملك السموات والأرض وما فيهما من شيء، وآلهتك مربوبة، وغير جائز لنا أن نترك عبادة الربّ ونعبد المربوب، "لَنْ نَدْعُوَ منْ دُونِه إلَها" يقول: لن ندعو من دون ربّ السموات والأرض إلها، لأنه لا إله غيره، وإن كلّ ما دونه فهو خلقه، "لَقَدْ قُلْنا إذا شَططا" يقول جلّ ثناؤه: لئن دعونا إلها غير إله السموات والأرض، لقد قلنا إذن بدعائنا غيره إلها، شططا من القول: يعني غاليا من الكذب، مجاوزا مقداره في البطول والغلوّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} {وربطنا على قلوبهم} هذان الحرفان، معناهما واحد: الزيادة والربط، كل واحد منهما يؤدي معنا صاحبه: زيادة الهدى وتثبيتهم على الهدى...
{إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض} يحتمل قوله: {إذ قاموا} بالحجج والبراهين. ويحتمل {إذ قاموا} بالنهوض إلى الكهف حين انضموا إليه، أو قاموا لله ولدينه، أو قاموا من عند أولئك الكفرة {فقالوا} ما ذكر {ربنا رب السماوات والأرض} أي قالوا: {ربنا رب السماوات والأرض} ورب ما فيهن.
{لن ندعوا من دونه إلها} يحتمل قوله: {لن ندعوا من دونه إلها} أي لن نسميهم آلهة على ما سمى قومهم الأصنام التي عبدوها آلهة.
{لقد قلنا إذا شططا} تسميتهم آلهة على زعمهم وعلى ما عندهم كقوله: {فراغ إلى آلهتهم} (الصافات: 91) وقوله: {وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا} (طه: 97) لا يجوز أن يسمي الأنبياء الأصنام التي كانوا يعبدونها آلهة، وهي ليست بآلهة، ولكن قالوا ذلك على زعمهم وعلى ما عندهم. فعلى ذلك قوله: {لن ندعوا من دونه إلها} أي لن نعبد. فإن كان على العبادة ففيه إضمار؛ أي لن نعبد من دونه إلها غير الله كفعل قومنا. ولو فعلنا {لقد قلنا إذا شططا} أي جورا وظلما...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" إذ قاموا فقالوا "معناه حين قاموا بحضرة الملك الجبار، فقالوا هذا القول الذي أفصحوا فيه عن الحق في الديانة ولم يستعملوا التقية، فقالوا: ربنا الذي نعبده هو الذي خلق السموات والأرض...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها}.
أما ترى أصحاب الكهف وما كانوا عليه من الكفر طول أعمارهم قاموا وقالوا: {ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها} والتجأوا إليه، كيف قبلهم ثم أعزهم وأكرمهم، فقال: {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال}، وكيف أعظم لهم الحرمة، وألبسهم المهابة والخشية حتى يقول لأكرم الخلق صلى الله عليه وسلم: {لو اطلعت عليهم لو ليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا}، بل كيف أكرم كلبا تبعهم حتى ذكره في كتابه العزيز مرات، ثم جعله معهم في الدنيا محجوبا، ويدخل في الآخرة الجنة مكرما، فهذا فضله مع كلب خطا خطوات مع قوم عرفوه ووحدوه أياما معدودة من غير عبادة أو خدمة، فكيف فضله مع عبده المؤمن الذي خدمه ووحده وعبده سبعين سنة؟ ولو عاش سبعين ألف سنة كان قاصدا العبودية. [منهاج العابدين: 262-263]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} وقويناها بالصبر على هجر الأوطان والنعيم، والفرار بالدين إلى بعض الغيران، وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام {إِذْ قَامُواْ} بين يدي الجبار وهو دقيانوس، من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم {فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والأرض... شَطَطًا} قولا ذا شطط، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {وربطنا على قلوبهم} عبارة عن شدة عزم وقوة صبر أعطاها الله لهم، ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال، حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط، ومنه يقال: فلان رابط الجأش إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها، ومنه الربط على قلب أم موسى، وقوله {إذ قاموا فقالوا} يحتمل معنيين، أحدهما أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر، فإنه مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخالفوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته، والمعنى الثاني أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس، كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وربطنا} بما لنا من العظمة {على قلوبهم} أي قويناها، فصار ما فيها من القوى مجتمعاً غير مبدد، فكانت حالهم في الجلوة كحالهم في الخلوة... {ربنا} الذي يستحق أن نفرده بالعبادة لتفرده بتدبيرنا، هو {رب السماوات والأرض} أي موجدهما و مدبرهما {لن ندعوا من دونه إلهاً} بعد أن ثبت عجز كل من سواه، والله {لقد قلنا إذاً} أي إذا دعونا من دونه غيره {شططاً}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، والتزام ذلك، وبيان أنه الحق وما سواه باطل، وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم، وزيادة الهدى من الله لهم.
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ}... ويفهم من هذه الآية الكريمة: أن من كان في طاعة ربه جل وعلا أنه تعالى يقوي قلبه، ويثبته على تحمل الشدائد، والصبر الجميل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الملاحظة الأولى: أن قوله تعالى: {وربطنا} تدل على قوة ما أودعهم الله تعالى من إيمان لا يتزعزع فقد شبه قلوبهم بالحقبة الممتلئة إيمانا، وقد ربط عليها رباطا محكما... يشد عليهم فلا تضطرب أمام جبار كائنا من كان، لأنه عامر بالإيمان لا يضطرب.
الملاحظة الثانية: أنهم أكدوا قولهم، وأصروا على إيمانهم بقولهم: {لقد قلنا إذا شططا}، فإن هذا الكلام يشير إلى أمرين:
الأمر الأول: تأكيد القول باللام الموطئة للقسم وقد الدالة على التحقق.
الأمر الثاني: أنهم أكدوا نفي الألوهية عن غير الله سبحانه وتعالى نفيا مؤكدا، فقالوا: {لن ندعوا من دونه إلها}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
تشير هذه الآيات إلى الحالة الروحية والمعنوية للفتية في ما كانوا يلتزمونه من إيمانٍ، وما يطرحونه من فكرٍ أمام المجتمع الكافر الطاغي، الذي لا يملك فكراً يقنع به المعارضين له، بل يملك قوّةً تضغط على حريات الناس، وتصادر قرارهم، وتضطهد واقعهم... فيضعفون أمامها، وينسحقون تحت تأثير سلطتها، فيوافقون على ذلك كله. ولكن لم يكن هؤلاء المؤمنون في هذا الموقع الضعيف، بل كانوا في موقع القوة التي استمدوها من الله، فأعلنوا موقفهم بكل جرأةٍ وصراحةٍ، وواجهوا الضغط بمسؤوليةٍ وواقعيةٍ. {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي شددنا عليها، وأوحينا إليهم بالقوّة أمام التحدّي، فلم تهتز أمام التهديد، ولم تعش الحيرة والقلق في مواقع الضغط، بل ثبتت من موقع القناعة المرتكزة على قاعدة الإيمان العميق.
{إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} لقد كان قيامهم في مجتمعهم، أمام الطغاة، أو أمام خط الكفر والانحراف، فلم يقعدوا، أو يسترخوا، أو يعيشوا الأجواء اللاهية العابثة التي تحاول أن تتخفف من المسؤولية بالأعذار الواهية التي لا تقنع أصحابها فضلاً عن غيرهم. لقد كان حسّ المسؤولية عميقاً في نفوسهم، لأنهم يشعرون أن السكوت عن الباطل، والخوف من إعلان الحق أو من ممارسته، يشجع المنحرفين على الامتداد في خط الانحراف، ويمنع المؤمنين من الانطلاق بقوّةٍ في خط الإيمان، ولذا كان القيام يمثل حركة المسؤولية في إيمانهم، سواء كان قيامهم بين يدي ملك زمانهم دقيانوس الجبار كما يقول بعض المفسرين الذي يحتمل أنهم كانوا في مجلسه، أو كان قيامهم في مجتمعهم الذي يعبد الأوثان، ويصدر عنه الأمر بالسير على هذا المنهج، ويجبر الناس على ذلك... فكان قيامهم بالإعلان عن رفضهم لكل الواقع الفكري والعبادي الذي يعيشون فيه، والدعوة إلى الله بدلاً من ذلك. وربما كان المقصود وهو الأقرب إلى جو الآية قيامهم لله ونصرة الحق، من دون نظر إلى المكان، أو إلى الشخص. {فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} قالوا هذه الكلمة، ليؤكدوا الحقيقة الإيمانية التي تضع الإنسان في الدائرة الكونية الواسعة التي تشمل السّموات والأرض وما فيهن وما بينهن، فهو جزء من هذا العالم الرحب المخلوق لله، فلا يختص بربٍّ معينٍ ليعبده من دونه، أو ليشركه بعبادته. ولذلك لم يكتفوا بالإعلان عن هذه الحقيقة، بل أعلنوا الرفض لفكرة كل الآلهة المدّعاة، في شكل بشرٍ، أو حجرٍ، أو أيّ شيءٍ آخر...
{لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلهاً} لأن ذلك لا يمثل أيّ موقع ٍللحق، بل هو الباطل في أكثر من صورة، {لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} لو قلنا بما يقوله هؤلاء المشركون، لكنا بذلك نخرج عن الحدّ المعقول للفكر، ونتجاوز عن الحق وهذا هو معنى الشطط...