التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُواْ ٱقۡتُلُوهُ أَوۡ حَرِّقُوهُ فَأَنجَىٰهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (24)

ثم قص - سبحانه - بعد ما قاله قوم إبراهيم له ، وما رد به عليهم . فقال - تعالى - : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ . . . فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } .

فقوله - تعالى - : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ . . . } بيان لما رد به الظالمون على نبيهم إبراهيم - عليه السلام - بعد أن وعظهم ونصحهم وأقام لهم أوضح الأدلة على صدقة فيما يبلغه عن ربه .

ولفظ " جواب " بالنصب ، خبر كان ، واسمها قوله : { إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ } .

والمراد بقتله : إزهاق روحه بسيف ونحوه ، لتظهر المقابلة بين الإِحراق والقتل .

وجاء هنا الترديد بين الأمرين ، للاشعار بأن من قومه من أشار بقتله ، ومنهم من أشار بإحراقه ، ثم اتفقوا جميعا على الإِحراق ، كما جاء فى قوله - تعالى - : { قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } والمعنى : فما كان جواب قوم إبراهيم له ، بعد أن نصحهم وظهرت حجته عليهم ، إلا أن قالوا فيما بينهم ، اقتلواه بالسيف ، أو أحرقوه بالنار ، لتستريحوا منه ، وتريحوا آلهتكم من عدوانه عليها ، وتحطيمه لها . .

وقولهم هذا الذى حكاه القرآن عنهم ، يدل على إسرافهم فى الظلم والطغيان والجهالة . .

والفاء فى قوله - تعالى - { فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار } فصيحة . أى : فاتفقوا على إحراقه بالنار ، وألقوه فيما بعد اشتعالها ، فأنجاه الله - تعالى - منها ، بأن جعلها بردا وسلاما عليه . .

{ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . . أى : إن فى ذلك الذى فعلناه بقدرتنا مع إبراهيم - عليه السلام - حيث أخرجناه سليما من النار { لآيَاتٍ } بينات على وحدانتينا وقدرتنا ، لقوم يؤمنون ، بأن الله - تعالى - هو رب العالمين ، وأنه له الخلق والأمر .

وجمع - سبحانه - الآيات لأن فى نجاة إبراهيم ، دلالات متعددة على قدرة الله - تعالى لا دلالة واحدة ، فنجاته من النار وتحويلها عليه إلى برد وسلام آية ، وعجز المشركين جميعا عن أن يلحقوا به ضررا آية ثانية ، وإصرارهم على كفرهم مع ما شاهدوه ، آية ثالثة على أن القلوب الجاحدة تبقى على جحودها مع وجود المعجزات الدالة على صدق من جاء بها من عند الله - تعالى - .

ولذا خص - سبحانه - هذه الآيات ، لأنهم هم وحدهم المنتفعون بها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُواْ ٱقۡتُلُوهُ أَوۡ حَرِّقُوهُ فَأَنجَىٰهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (24)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكر إبراهيم، عليه السلام، في التقديم، قال: {فما كان جواب قومه}، يعني قوم إبراهيم، عليه السلام، حين دعاهم إلى الله عز وجل ونهاهم عن عبادة الأصنام، {إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه} بالنار، فقذفوه في النار، {فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات} يعني عز وجل إن في النار التي لم تحرق إبراهيم، عليه السلام، لعبرة {لقوم يؤمنون} يعني يصدقون بتوحيد الله عز وجل.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فلم يكن جواب قوم إبراهيم له إذ قال لهم: اعبدوا الله واتقوه، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، إلاّ أن قال بعضهم لبعض: اقتلوه أو حرّقوه بالنار، ففعلوا، فأرادوا إحراقه بالنار، فأضرموا له النار، فألقَوه فيها، فأنجاه الله منها، ولم يسلطها عليه، بل جعلها عليه بَرْدا وسلاما...

"إنّ فِي ذلكَ لآيات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" يقول تعالى ذكره: إن في إنجائنا لإبراهيم من النار، وقد ألقي فيها وهي تَسعَر، وتصييرها عليه بردا وسلاما، لأدلة وحججا لقوم يصدّقون بالأدلة والحجج إذا عاينوا ورأوا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} ذكر الآيات في ذلك جائز أن يكون ما ذكر في هذه السورة من أولها إلى آخرها {لآيات} لمن ذكر. وجائز أن يكون في ما ذكر خاصة...

لكن ليس من شيء إلا وفيه آيات من وجوه: آية الوحدانية وآية الألوهية وآية علمه وحكمته وتدبيره وبعثه؛ فهو آيات...

{لقوم يؤمنون} ذكر الآيات للمؤمنين يحتمل وجهين:

أحدهما: ذكر الآيات لهم لأنهم هم المنتفعون بها دون من كفر.

والثاني: الآيات لهم على المكذبين بها والكافرين، أي حجة لهم عليهم كقوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83] والله أعلم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

لمَّا عجزوا عن جوابه ولم يساعدهم التوفيق بالإجابة، أخذوا في معارضته بالتهديد والوعيد، والسفاهة والتوبيخ، والله تعالى صرف عنه كَيْدَهم، وكفاه مَكْرَهم، وأفلج عليهم حُجَّته، وأظهر للكافة عجزَهم، وأَخبر عما يلحقهم في مآلهم من استحقاق اللَّعْنِ والطردِ، وفنون الهوان والخزْي.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لما أتى إبراهيم عليه السلام ببيان الأصول الثلاثة وأقام البرهان عليه، بقي الأمر من جانبهم إما الإجابة أو الإتيان بما يصلح أن يكون جوابه فلم يأتوا إلا بقولهم {اقتلوه أو حرقوه}. وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: كيف سمى قولهم {اقتلوه} جوابا مع أنه ليس بجواب؟

فنقول: الجواب عنه من وجهين؛

أحدهما: أنه خرج منهم مخرج كلام المتكبر، كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف، مع أن السيف ليس بجواب، وإنما معناه لا أقابله بالجواب، وإنما أقابله بالسيف، فكذلك قالوا لا تجيبوا عن براهينه واقتلوه أو حرقوه.

الثاني: هو أن الله أراد بيان ضلالهم وهو أنهم ذكروا في معرض الجواب هذا مع أنه ليس بجواب، فتبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلا، وذلك لأن من لا يجيب غيره ويسكت، لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات، أما إذا أجاب بجواب فاسد، علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه.

...

...

...

المسألة الثالثة: {أو} يذكر بين أمرين الثاني منهما ينفك عن الأول كما يقال زوج أو فرد، ويقال هذا إنسان أو حيوان، يعني إن لم يكن إنسانا فهو حيوان، ولا يصح أن يقال هذا حيوان أو إنسان إذ يفهم منه أنه يقول هو حيوان فإن لم يكن حيوانا فهو إنسان وهو محال لكن التحريق مشتمل على القتل فقوله اقتلوه أو حرقوه كقول القائل حيوان أو إنسان، الجواب عنه: من وجهين أحدهما: أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع ويكون {أو} مستعملا في موضع بل، كما يقول القائل أعطيته دينارا أو دينارين، وكما يقول القائل أعطه دينارا بل دينارين قال الله تعالى: {قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه} فكذلك ههنا اقتلوه أو زيدوا على القتل وحرقوه. الجواب الثاني: هو أنا نسلم ما ذكرتم والأمر هنا كذلك، لأن التحريق فعل مفض إلى القتل وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقى غيره في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حيا يصح أن يقال احترق فلان وأحرقه فلان وما مات، فكذلك ههنا قالوا اقتلوه أو لا تعجلوا قتله وعذبوه بالنار، وإن ترك مقالته فخلوا سبيله وإن أصر فخلوا في النار مقيله.

{إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} يعني في إنجائه من النار لآيات، وهنا مسائل:

المسألة الأولى: قال في إنجاء نوح وأصحاب السفينة {جعلناها آية} وقال ههنا {لآيات} بالجمع لأن الإنجاء بالسفينة شيء تتسع له العقول فلم يكن فيه من الآية إلا بسبب إعلام الله إياه بالاتخاذ وقت الحاجة، فإنه لولاه لما اتخذه لعدم حصول علمه بما في الغيب، وبسبب أن الله صان السفينة عن المهلكات كالرياح العاصفة، وأما الإنجاء من النار فعجيب، فقال فيه آيات.

المسألة الثانية: قال هناك {آية للعالمين} وقال ههنا {لقوم يؤمنون} خص الآيات بالمؤمنين لأن السفينة بقيت أعواما حتى مر عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد، وأما تبريد النار فإنه لم يبق فلم يظهر لمن بعده إلا بطريق الإيمان به والتصديق...

المسألة الثالثة: قال هناك {جعلناها} وقال ههنا {جعلناه} لأن السفينة ما صارت آية في نفسها ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح سفها، فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية، وأما تبريد النار فهو في نفسه آية إذا وجدت لا تحتاج إلى أمر آخر كخلق الطوفان حتى يصير آية.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

وجاء هنا الترديد بين قتله وإحراقه، فقد يكون ذلك من قائلين: ناس أشاروا بالقتل، وناس أشاروا بالإحراق.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ختم سبحانه هذه الجملة الاعتراضية بما ابتدأها به وبما ختم به ما قبلها من كلام الخليل عليه الصلاة والسلام، وزاد هذا ما ترى من التهديد الشديد، شرع في إكمال قصته عليه الصلاة والسلام دالاً على أنه لا أحد يعجزه، ولا يقدر على نصر أحد من عذابه الأليم، مشيراً إلى أنهم سببوا عن قوله ضد ما يقتضيه إيذاناً بالعناد، والإصرار على سوء الاعتقاد، فقال: {فما كان جواب قومه} أي الذين يرجى قبولهم لنصحه علماً منهم بوفور شفقته وعظم أمانته ونصيحته {إلا أن قالوا} بأعظم فظاظة {اقتلوه} أي بالسيف {أو حرقوه} أي بالنار.

ولما استقر رأي الجميع على هذا الثاني، ولم يكن له فيهم نصير، أشار إليه سبحانه بقوله ناسقاً له على ما تقديره: فأبى المعظم القتل لأنه عذاب مألوف لمن يستحقه من المجرمين، وهو قد عمل عملة مفردة في الدهر فالذي ينبغي أن يخص العذاب عليها بعذاب لم يعهد مثله وهو الإحراق على هيئة غريبة، فرجعوا عن القتل واستقر رأيهم على الإحراق فجمعوا له حطباً إلى أن ملأ ما بين الجبال، وأضرموا فيه النار حتى أحرقت ما دنا منها بعظيم الاشتعال، وقذفوه فيها بالمنجنيق {فأنجاه الله} بما له من كمال العظمة إنجاء وحيّاً من غير احتياج إلى تدريج {من النار} أي من إحراقها وأذاها، ونفعته بأن أحرقت وثاقه.

ولما اشتملت قصته بهذا السياق على دلائل واضحات، وأمور معجزات، عظم أمرها سبحانه بقوله مؤكداً لمزيد التنويه بذكرها، وتنزيلاً لهم في توقفهم عما دعت إليه الآيات الظاهرة من الإيمان منزلة المنكر لها: {إن في ذلك} أي ما ذكر من أمره وما خللت به قصته من الحكم {لآيات} أي براهين قاطعة في الدلالة على جميع أمر الله من تصرفه في الأعيان والمعاني، لكون النار لم تحرقه وأحرقت وثاقه وكل ما مر عليها من طائر، ومع رؤية ذلك لم يؤمنوا ولم يقدروا على ضرره بشيء غير ذلك.

ولما كان ما للشيء إنما هو في الحقيقة ما ينفعه، وكان قد حجبها سبحانه بالشهوات والحظوظ الشاغلة عن استعمال نور العقل، قال: {لقوم يؤمنون} أي يقبلون على استعمال نور العقل الذي وهبهموه الله فيصدقون بالغيب حتى صار الإيمان -بكثرة ما صقلوا مرائي قلوبهم بالنظر في أسبابه -لهم خلقاً بحيث إنهم في كل لحظة يجددون الترقي في مراتبه، والتنقل في أخبيته ومضاربه.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

... وليس المرادُ أنَّه لم يصدر عنُهم بصددِ الجوابِ عن حُججِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ إلا هذه المقالةُ الشَّنيعةُ كما هو المتبادَرُ من ظاهر النَّظْمِ الكريمِ، بل إنَّ ذلك هو الذي استقرَّ عليه جوابُهم بعد اللَّتيا والّتي في المرَّةِ الأخيرةِ، وإلا فقد صدرَ عنُهم من الخُرافاتِ والأباطيلِ ما لا يُحصى.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

... ولكن القوم لم يؤمنوا على الرغم من هذه الآية الخارقة، فدل هذا على أن الخوارق لا تهدي القلوب، إنما هو الاستعداد للهدى والإيمان: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.. الآية الأولى هي تلك النجاة من النار. والآية الثانية هي عجز الطغيان عن إيذاء رجل واحد يريد الله له النجاة. والآية الثالثة هي أن الخارقة لا تهدي القلوب الجاحدة ذلك لمن يريد أن يتدبر تاريخ الدعوات، وتصريف القلوب، وعوامل الهدى والضلال...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} على هذه الدعوة الواعية التي تفتح القلب على الله من خلال التأمل العميق، والنظرة الشاملة، {إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} لأنهم لا يملكون الردّ المتوازن الذي يناقش القضايا المطروحة بدقةٍ وعمق، وذلك من خلال فقدانهم للحجة على ما ينكرون وما يعتقدون، ما يجعل موقفهم موقف الضعيف الذي لا يمكنه الدفاع بالأسلوب العقلي، فيدافع عن موقفه بالطريقة الغوغائية العدوانية بالتهديد بالقوّة، {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} التي أضرموها ثم ألقوه فيها فجعلها برداً وسلاماً عليه، وكان ذلك معجزةً إلهيّة لإبراهيم {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون}.

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

من الهداية: -تقرير أن الظَّلمَة سنتهم أنهم إذا أعيتهم الحجج يلجؤون إلى استعمال القوة.- في عدم إحراق النار دليل على أن الله تعالى قادر على إبطال السنن إذا شاء ذلك، ومن هنا تكون الكرامات والمعجزات إذْ هي خوارق للعادات.