ثم كلف الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر أهل بيته بالمداومة على إقامة الصلاة فقال : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا } .
والمراد بأهل بيته - صلى الله عليه وسلم - أزواجه وبناته : وقيل : ما يشملهم ويشمل معهم جميع المؤمنين من بنى هاشم . وقيل المراد بهم : جميع أتباعه من أمته .
أى : وأمر - أيها الرسول الكريم - أهل بيتك بالمداومة على إقامة الصلاة بخشوع وإخلاص واطمئنان ، واصطبر على تكاليفها ومشاقها ، وعلى إقامتها كاملة غير منقوصة ، وعلى تحقيق آثارها الطيبة فى نفسك .
وقد ساق بعض المفسرين عن تفسيره لهذه الآية أحاديث منها ما أخرجه البيهقى عن عبد الله بن سلام قال : كان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة ، وتلا هذه الآية : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } .
وأخرج مالك والبيهقى عن أسلم قال : كان عمر بن الخطاب يصلى من الليل ما شاء الله - تعالى - أن يصلى حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة ويقول لهم : الصلاة ، الصلاة ويتلو هذه الآية . . .
وقوله - سبحانه - { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى } تشجيع وتحريض للمؤمنين على إقامة الصلاة ، ودفع لما يتوهمه البعض من أن المداومة على إقامة الصلاة قد تشغل الإنسان عن السعى فى طلب المعاش .
أى : مر - أيها الرسول الكريم - أهلك بالمداومة على الصلاة ، واصطبر على تكاليفها ، فهذه الصلاة هى من أركان العبادات التى خلقك الله وخلق عباده من أجلها ، ولا يصح أن يشغلكم عنها أى شاغل من سعى فى طلب الرزق أو غيره ، فنحن لا نكلفكم أن ترزقوا أنفسكم أو غيركم ، وإنما نحن الذين نرزقكم ونرزق الخلق جميعا قال - تعالى - : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا . . . } وقال - سبحانه - : { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السميع العليم } وقوله { والعاقبة للتقوى } أى : والعاقبة الحميدة لأهل التقوى والخشية من الله - تعالى - الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة .
روى الترمذى وابن ماجه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله - تعالى : " يا بان آدم . تفرغ لعبادتى ، املأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ، ولم أسد فقرك " " .
وروى ابن ماجه عن زيد بن ثابت قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من كانت الدنيا همه ، فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له . ومن كان الآخرة نيته ، جمع له أمره ، وجعل غناه فى قلبه ، وأتته الدنيا وهى راغمة " .
( وأمر أهلك بالصلاة ) . . فأول واجبات الرجل المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم ؛ وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي تصلهم معه بالله ، فتوحد اتجاههم العلوي في الحياة . وما أروح الحياة في ظلال بيت أهله كلهم يتجهون إلى الله .
( واصطبر عليها ) . . على إقامتها كاملة ؛ وعلى تحقيق آثارها . إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . وهذه هي آثارها الصحيحة . وهي في حاجة إلى اصطبار على البلوغ بالصلاة إلى الحد الذي تثمر فيه ثمارها هذه في المشاعر والسلوك . وإلا فما هي صلاة مقامة . إنما هي حركات وكلمات .
هذه الصلاة والعبادة والاتجاه إلى الله هي تكاليفك والله لا ينال منها شيئا . فالله غني عنك وعن عبادة العباد : ( لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى )إنما هي العبادة تستجيش وجدان التقوى ( والعاقبة للتقوى ) . فالإنسان هو الرابح بالعبادة في دنياه وأخراه . يعبد فيرضى ويطمئن ويستريح . ويعبد فيجزى بعد ذلك الجزاء الأوفى . والله غني عن العالمين .
ذِكر الأهل هنا مقابل لذِكر الأزواج في قوله { إلى ما متعنا به أزواجاً منهم } [ طه : 131 ] فإن من أهل الرجل أزواجَه ، أي مِتْعَتُك ومتعةُ أهلك الصلاةُ فلا تلفتوا إلى زَخَارف الدنيا . وأهل الرجل يكونون أمثل من ينتمون إليه .
ومن آثار العمل بهذه الآية في السنّة ما في « صحيح البخاري » : أن فاطمة رضي الله عنها بلغها أن سبياً جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتت تشتكي إليه ما تلقى من الرحى تسأله خادماً من السبي فلم تجده . فأخبرت عائشةُ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءَها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذت وعليّ مضجعَهما فجلس في جانب الفراش وقال لها ولِعَليّ : " ألا أُخبِركُما بخير لكما مما سألتما تسبّحان وتحمدان وتكبران دُبر كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين فذلك خير لكما من خادم "
وأمَر الله رسوله بما هو أعظم مما يأمر به أهله وهو أن يصْطبر على الصلاة . والاصطبار : الانحباس ، مطاوع صبره ، إذا حبسه ، وهو مستعمل مجازاً في إكثاره من الصلاة في النوافل . قال تعالى : { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً } [ المزمل : 1 ] الآيات ، وقال { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } [ الإسراء : 79 ] .
وجملة { لا نسألك رزقاً } معترضة بين التي قبلها وبين جملة { نحن نرزقك } جعلت تمهيداً لهاته الأخيرة .
والسؤال : الطلب التكليفي ، أي ما كلفناك إلاّ بالعبادة ، لأنّ العبادة شكر لله على ما تفضل به على الخلق ولا يطلب الله منهم جزاءً آخر . وهذا إبطال لما تعوده الناس من دفع الجبايات والخراج للملوك وقادة القبائل والجيوش . وفي هذا المعنى قوله تعالى : { وما خلفت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } [ الذاريات : 56 58 ] ، فجملة { نحن نرزقك } مبيّنة لجملة { ورزق ربك خير وأبقى } [ طه : 131 ] . والمعنى : أنّ رزق ربّك خير وهو مسوق إليك .
والمقصود من هذا الخطاب ابتداءً هو النبي صلى الله عليه وسلم ويشمل أهلَه والمؤمنين لأنّ المعلّل به هذه الجملة مشترك في حكمه جميع المسلمين .
وجملة { والعاقبة للتقوى } عطف على جملة { لا نسألك رزقاً } المعلّل بها أمره بالاصطبار للصلاة ، أي إنا سألناك التقوى والعاقبة .
وحقيقة العاقبة : أنها كل ما يعقب أمراً ويقع في آخره من خير وشر ، إلا أنها غلب استعمالها في أمور الخير . فالمعنى : أنّ التقوى تجيء في نهايتها عواقب خير .
واللام للملك تحقيقاً لإرادة الخير من العاقبة لأنّ شأن لام الملك أن تدل على نوال الأمر المرغوب ، وإنما يطرد ذلك في عاقبة خير الآخرة . وقد تكون العاقبة في خير الدنيا أيضاً للتقوى .
وهذه الجملة تذييل لما فيها من معنى العموم ، أي لا تكون العاقبة إلا للتقوى . فهذه الجملة أرسلت مجرى المثل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.