التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (56)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء عاقبة كل كافر ، وحسن عاقبة كل مؤمن ، فقال : { إِنَّ الذين . . . . ظَلِيلاً } .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 56 ) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ( 57 )

والمراد بالذين كفروا هنا : كل كافر سواء أكان من بنى إسرائيل أم من غيرهم .

وقوله : { نُصْلِيهِمْ } من الإِصلاء وهو إيقاد النار . والمراد هنا إدخالهم فيها وقوله : { نَضِجَتْ } من النضج وهو بلوغ نهاية الشئ . يقال : نضج الثمر واللحم ينضج نضجاً إذا أدرك وبلغ نهايته . والمراد هنا : احتراق الجلود احتراقا تاما .

والمعنى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا } الدالة على أن الله وحده هو المستحق للعبادة والخضوع { سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً } أى : سوف ندخلهم نارا هائلة عظيمة وسوف هنا - كما قال سيبويه - للتهديد وتأكيد العذاب المقبل ولو مع التراخى العذاب مع تأكيده يجعل النفس فى فزع دائم ، وخوف مستمر حتى يقع .

وقوله { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } بيان لشدة العذاب ودوامه أى : كلما احترقت جلودهم وتلاشت أعطيناهم بدل الجلود المحترقة جلودا غير متحرقة مغايرة للمحترفة .

فالتدبيل على هذا حقيقى مادى . بمعنى أن يخلق الله - تعالى - مكان الجلود المحترقة جلودا أخرى جديدة مغايرة للمحترقة .

ويرى بعضهم أن الجملة الكريمة كناية عن دوام العذاب لهم . وقد ذكر هذا الرأى الفخر الرازى فقال : ويمكن أن يقال : هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع . كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام : كلما انتهى فقد ابتدأ . وكلما وصل إلى آخره فقد أبتدأ من أوله . فكذا قوله { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } .

يعنى : كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك ، أعطيناهم قوة جديدة من الحياة . فيكون المقصود ببيان دام العذاب وعدم انقطاعه .

والذى نراه أن حمل التبديل على حقيقته أولى ، لأنه ليس لنا أن نعدل فى كلام الله عن الحقيقة إلى المجاز ، إلا عند الضرورة . وهنا لا ضرورة لذلك ، لأن تبديل الجلود داخل تحت قدرة الله - تعالى - ولأن هذا المعنى الذى ذكره الإِمام الرازى يتأتى مع حمل اللفظ على حقيقته إذ كلمة " لك " تدل على دوام العذاب وعدم انقطاعه ، ولأن كثيرا من السلف قد فسروا الآية على الوجه الأول ، فقد روى عن ابن عمر أنه قال : تلا رجل عند عمر هذه الآية قال : فقال عمر : أعدها على . فأعادها . فقال معاذ بن جبل : عندى تفسيرها : تبدل جلودها فى كل ساعة مائة مرة . فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقوله { لِيَذُوقُواْ العذاب } جملة تعليلية لقوله { بَدَّلْنَاهُمْ } أى بدلناهم جلودا غيرها ليقاسوا شدة العذاب ، وليحسوا به فى كل مرة كما يحس الذائق للشئ الذى يذوقه .

وقوله { إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } تذييل قصد به تأكيد التهديد والوعيد الذى اشتملت عليه الآية الكريمة .

أى : أن الله - تعالى كان وما زال عزيزا لا يغلبه غالب ، ولا يمنع عقابه مانع ( حكيما ) فى تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه وإثابة من يثيبه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (56)

وعندما يبلغ السياق هذا المقطع من ذكر الإيمان والصدود عن الإيمان في آل إبراهيم ، يعقب بالقاعدة الشاملة للجزاء . جزاء المكذبين ، وجزاء المؤمنين . . هؤلاء وهؤلاء أجمعين . . في كل دين وفي كل حين ؛ ويعرض هذا الجزاء في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة الرعيبة :

( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب . إن الله كان عزيزا حكيما . والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبدا ، لهم فيها أزواج مطهرة ، وندخلهم ظلا ظليلا ) . .

. . . ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) . .

إنه مشهد لا يكاد ينتهي . مشهد شاخص متكرر . يشخص له الخيال ، ولا ينصرف عنه ! إنه الهول . وللهول جاذبية آسرة قاهرة ! والسياق يرسم ذلك المشهد ويكرره بلفظ واحد . . ( كلما ) . . ويرسمه كذلك عنيفا مفزعا بشطر جميلة . . ( كلما نضجت جلودهم ) . . ويرسمه عجيبا خارقا للمألوف بتكملة الجملة . . ( بدلناهم جلودا غيرها ) . . ويجمل الهول الرهيب المفزع العنيف كله في جملة شرطية واحدة لا تزيد !

ذلك جزاء الكفر - وقد تهيأت أسباب الإيمان - وهو مقصود . وهو جزاء وفاق :

( ليذوقوا العذاب ) . .

ذلك ، أن الله قادر على الجزاء . حكيم في توقيعة :

إن الله كان عزيزا حكيمًا . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (56)

تقدم في الآيات وصف المردة من بني إسرائيل وذكر أفعالهم وذنوبهم ، ثم جاء بالوعيد النص لهم بلفظ جلي عام لهم ولغيرهم ممن فعل فعلهم من الكفر ، والقراءة المشهورة { نُصليهم } بضم النون من أصليت ومعناه قربت من النار وألقيت فيها ، وهو معنى صليت بتشديد اللام ، وقرأ حميد «نَصليهم » بفتح النون من صليت ، ومعناه شويت ، ومنه الحديث ، أتي رسول الله بشاة مصلية ، أي مشوية{[4107]} ، وكذا وقع تصريف الفعل في العين وغيره ، وقرأ سلام ويعقوب «نصليهُم » بضم الهاء ، واختلف المتأولون في معنى تبديل الجلود{[4108]} ، فقالت فرقة : تبدل عليهم جلود غيرها ، إذ نفوسهم هي المعذبة والجلود لا تألم في ذاتها ، فإنها تبدل ليذوقوا تجديد العذاب{[4109]} ، وقالت فرقة : «تبديل الجلود » هو إعادة ذلك الجلد بعينه الذي كان في الدنيا ، تأكله النار ويعيده الله دأباً لتجدد العذاب ، وإنما سماه «تبديلاً » ، لأن أوصافه تتغير ثم يعاد ، كما تقول : بدل من خاتمي هذا خاتماً وهي فضته بعينها ، فالبدل إنما وقع في تغيير الصفات ، وقال ابن عمر ، كلما احترقت جلودهم بدلوا جلوداً بيضاء كالقراطيس ، وقال الحسن بن أبي الحسن ، تبدل عليهم في اليوم سبعين ألف مرة ، وقالت فرقة : الجلود في هذا الموضع سرابيل القطران{[4110]} ، سماها جلوداً للزومها فصارت كالجلود ، وهي تبدل دأباً عافانا الله من عذابه برحمته ، حكاه الطبري ، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالعزة والإحكام ، لأن الله لا يغالبه مغالب إلا غلبه الله ، ولا يفعل شيئاً إلا بحكمة وإصابة ، لا إله إلا هو تبارك وتعالى .


[4107]:- راجع صفحة (29) من هذا الجزء هامش رقم (1).
[4108]:- تبديل الجلود يتم كلما نضجت، ومعنى نضج: أدرك واستوى، يقال: نضج اللحم قديدا وشواء ينضج نضجا ونضجا، وفلان نضيج الرأي: أي محكمه.
[4109]:- يُرد بذلك على من قال: كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه؟ ومعنى ردّه هنا أن الجلد ليس بمعذب ولا معاقب، وإنما الألم واقع على النفوس لأنها هي التي تحس وتعرف، فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس، يدل على ذلك قوله تعالى: {ليذوقوا العذاب} لأنه لو أراد الجلود لقال: ليذقن العذاب.
[4110]:- كما في قوله تعالى: {وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران} سميت جلودا للزومها جلودهم على المجاورة، فكلما احترقت السرابيل أعيدت: قال الشاعر: كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها فويل لتيم من سرابيلها الخضر فكنى عن الجلود بالسرابيل.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (56)

تهديد ووعيد لجميع الكافرين ، فهي أعمّ ممّا قبلها ، فلها حكم التذييل ، ولذلك فُصلت . والإصْلاء : مصدر أصلاهُ ، ويقال : صلاهُ صَلْيا ، ومعناه شيُّ اللحم على النار ، وقد تقدّم الكلام على ( صلى ) عند قوله تعالى : { وسيَصْلون سعيرا } [ النساء : 10 ] وقوله : { فسوف نصليه ناراً } في هذه السورة [ النساء : 30 ] ، وتقدّم أيضاً الكلام على ( سوف ) في الآية الأخيرة . و { نصليهم } بضم النون من الإصلاء . و { نضجت } بلغت نهاية الشيّ ، يقال : نضج الشِّواء إذا بلغ حدّ الشيّ ، ويقال : نضج الطبيخ إذا بلغ حدّ الطبخ . والمعنى : كلّما احترقت جلودهم ، فلم يبق فيها حياة وإحساس . بدّلناهم ، أي عوّضناهم جلوداً غيرها ، والتبديل يقتضي المغايرة كما تقدّم في قوله في سورة البقرة : { أتستبدلون الذي هو أدنى } [ البقرة : 61 ] . فقوله : { غيرها } تأكيد لما دلّ عليه فعل التبديل . وانتصب { ناراً } على أنَّه مفعول ثان لأنّه من باب أعطَى .

وقوله : { ليذوقوا العذاب } تعليل لقوله : { بدّلناهم } لأنّ الجِلد هو الذي يوصل إحساس العذاب إلى النفس بحسب عادة خلق الله تعالى ، فلو لم يبدّل الجلد بعد احتراقه لما وصل عذاب النار إلى النفس . وتبديل الجلد مع بقاء نفس صاحبه لا ينافي العدل لأنّ الجِلد وسيلة إبلاغ العذاب وليس هو المقصود بالتعذيب ، ولأنّه ناشىء عن الجلد الأوّل كما أنّ إعادة الأجسام في الحشر بعد اضمحلالها لا يوجب أن تكون أناساً غير الذين استحقّوا الثواب والعقاب لأنّها لمّا أُودعت النفوسَ التي اكتسبت الخيرَ والشرّ فقد صارت هي هي ولا سيما إذا كانت إعادتها عن إنبات من أعجاب الأذناب ، حسبما ورد به الأثر ، لأنّ الناشىء عن الشيء هو منه كالنخلة من النواة .

وقوله : { إنّ الله كان عزيزاً حكيماً } واقع موقع التعليل لِما قبله ، فالعزّة يتأتى بها تمام القدرة في عقوبة المجترىء على الله ، والحكمة يتأتّى بها تلك الكيفية في إصلائهم النار .