التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ} (18)

ثم بين - سبحانه - حالهم يوم القيامة ، وأنهم سيكونون على مثل حالهم فى الدنيا من الكذب والفجور . . فقال - تعالى - { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } .

أي : اذكر - أيها الرسول الكريم - يوم يبعث الله - هؤلاء المنافقين جميعا للحساب والجزاء { فيحلفون } لله - تعالى - فى الآخرة بأنهم مسلمون { كما } كانوا { يحلفون لكم } فى الدنيا بأنهم مسلمون .

{ ويحسبون }فى الآخرة - لغبائهم وانطماس بصائرهم { أنهم } بسبب تلك الأيمان الفاجرة { على شىء } من جلب المنفعة أو دفع المضرة .

أي يتوهمون فى الآخرة أن هذه الأيمان قد تنفعهم فى تخفيف شيء من العذاب عنهم .

{ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } أي الذين بلغوا فى الكذب حدا لا غاية وراءه .

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن هؤلاء المنافقين في الدنيا ، قد بعثوا والنفاق ما زال فى قلوبهم ، وسلوكهم القبيح لا يزال متلبسا بهم ، فهم لم يكتفوا بكذبهم على المؤمنين فى الدنيا ، بل وفي الآخرة - أيضا - يحلفون لله - تعالى - بأنهم كانوا مسلمين .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وقوله - سبحانه - : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : يعنى ليس العجب من حلفهم لكم - فى الدنيا بأنهم مسلمون - فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر ، ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة - بأنهم كانوا مسلمين فى الدنيا . والمراد وصفهم بالتوغل فى نفاقهم ، ومرونهم عليه ، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل .

وقال بعض العلماء ما ملخصه : وقوله : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ } حذفت صفة شيء ، لظهور معناها من المقام ، أي ويحسبون أنهم على شيء نافع .

وهذا يقتضى توغلهم في النفاق ، ومرونتهم عليه ، وأنه باق في أرواحهم بعد بعثهم ، لأن نفوسهم خرجت من الدنيا متخلقة به ، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثا في عالم التكليف .

وفي الحديث : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن رجلا من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع ، فيقول الله له : أولست فيما شئت ؟ قال : بلى يا ربي ولكن أحب أن أزرع ، فأسرع وبذر ، فيبادر الطرفَ نباتُه واستواؤُه واستحصادُه أمثالَ الجبال ، وكان رجل من أهل البادية عند النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله لا نجد هذا الرجل إلا قرشيا أو أنصاريا ، فإنهم أصحاب زرع ، فأما نحن - أي أهل البادية - فلسنا بأصحاب زرع ، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - إقرارا لما فهمه الأعرابي " .

وفى حديث جابر بن عبد الله الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه ، " أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : يبعث كل عبد على ما مات عليه " .

قال عياض : هو عام في كل حالة مات عليها المرء ، وقال السيوطى : يبعث الزمار بمزماره ، وشارب الخمر بقدحه . قلت : " ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه ، إذ تصير العلوم على الحقيقة " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ} (18)

ويصور مشهدهم يوم القيامة في وضع مزر مهين ، وهم يحلفون لله كما كانوا يحلفون للناس : ( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ) . . مما يشير إلى أن النفاق قد تأصل في كيانهم ، حتى ليصاحبهم إلى يوم القيامة . وفي حضرة الله ذي الجلال . الذي يعلم خفايا القلوب وذوات الصدور ! ( ويحسبون أنهم على شيء ) . . وهم على هواء لا يستندون إلى شيء . أي شيء !

ويدمغهم بالكذب الأصيل الثابت : ( ألا إنهم هم الكاذبون ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ} (18)

والعامل في قوله { يوم يبعثهم } ، { أصحاب } على تقدير فعل ، وأخبر الله تعالى عنهم في هذه الآية أنه ستكون لهم أيمان يوم القيامة وبين يدي الله يخيل إليهم بجهلهم أنها تنفعهم وتقبل منهم ، وهذا هو حسابهم { أنهم على شيء } ، أي على فعل نافع لهم ، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي : قال النبي عليه السلام : «ينادي مناد يوم القيامة : أين خصماء الله ، فتأتي القدرية مسودة وجوههم زرقة أعينهم ، فيقولون والله ما عبدنا شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا اتخذنا من دونك ولياً » ، قال ابن عباس : صدقوا والله ولكن أتاهم الإشراك من حيث لا يعلمون ، ثم تلا ابن عباس هذه الآية .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ} (18)

هذا متصل بقوله : { ويحلفون على الكذب } إلى قوله : { اتخذوا أيمانهم جنة } [ المجادلة : 14 - 16 ] وتقدم الكلام على نظير قوله : { يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا } [ المجادلة : 6 ] . كما سبق آنفاً في هذه السورة ، أي اذكر يوم يبعثهم الله .

وحلفهم لله في الآخرة إشارة إلى ما حكاه الله عنهم في قوله : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] .

والتشبيه في قوله : { كما يحلفون لكم } في صفة الحلف ، وهي قولهم : إنهم غير مشركين ، وفي كونه حلفاً على الكذب ، وهم يعلمون ، ولذلك سماه تعالى فتنة في آية [ الأنعام : 23 ] بقوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين . } ومعنى { ويحسبون أنهم على شيء } يظنون يومئذٍ أن حلفهم يفيدهم تصديقَهم عند الله فيحسبون أنهم حصّلوا شيئاً عظيماً ، أي نافعاً .

و { على } للاستعلاء المجازي وهو شدة التلبس بالوصف ونحوِه كقوله : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .

وحذفت صفة { شيء } لظهور معناها من المقام ، أي على شيء نافع ، كقوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل } [ المائدة : 68 ] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئِل عن الكُهّان « ليسوا بشيء » .

وهذا يقتضي توغّلَهم في النفاق ومرونتهم عليه وأنه باققٍ في أرواحهم بعد بعثهم لأن نفوسهم خرجت من عالم الدنيا متخلّقة به ، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثاً في عالم التكليف . وحكمة إيجاد النفوس في الدنيا هي تزكيتها وتصفية أكدارها لتخلص إلى عالم الخلود طاهرة ، فإن هي سلكت مسلك التزكية تخلصت إلى عالم الخلود زكية ويزيدها الله زكاء وارتياضاً يوم البعث . وإن انغمست مدة الحياة في حمأة النقائص وصلصال الرذائل جاءت يوم القيامة على ما كانت عليه تشويهاً لحالها لتكون مهزلة لأهل المحشر . وقد تبقى في النفوس الزكية خَلائق لا تنافي الفضيلة ولا تناقض عالم الحقيقة مثل الشهوات المباحة ولقاء الأحبة قال تعالى : { الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون } [ الزخرف : 67 70 ] . وفي الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن رجلاً من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع ، فيقول الله : أو لستَ فيما شئتَ قال : بلى ولكن أحب أن أزرع ، فأسْرع وبذر فيبادر الطرفَ نباتُه واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثالَ الجبال . وكان رجل من أهل البادية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله لا نجد هذا إلا قرشياً أو أنصارياً فإنهم أصحاب زَرع فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم إقراراً لما فهمه الأعرابي "

وفي حديث جابر بن عبد الله عن مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يُبعَث كل عبد على ما مَات عليه " قال عياض في « الإِكمال » : هو عام في كل حالة مات عليها المرء . قال السيوطي : يبعث الزمار بمزماره . وشارب الخمر بقدحه اهـ . قلت : ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه إذ تصير العلوم على الحقيقة .

وختم هذا الكلام بقوله تعالى : { ألا إنهم هم الكاذبون } وهو تذييل جامع لحال كذبهم الذي ذكره الله بقوله : { ويحلفون على الكذب } [ المجادلة : 14 ] . فالمراد أن كذبهم عليكم لا يماثله كذب ، حتى قُصرت صفة الكاذب عليهم بضمير الفصل في قوله : { إنهم هم الكاذبون } وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بكذب غيرهم . وأكد ذلك بحرف التوكيد توكيداً لمفاد الحصر الادعائي ، وهو أن كذب غيرهم كلا كذب في جانب كذبهم ، وبأداة الاستفتاح المقتضية استمالة السمع لخبرهم لتحقيق تمكن صفة الكذب منهم حتى أنهم يلازمهم يوم البعث .